فلسطين تجمعنا

فلسطينيون يعيشون حياة بدائية في الكهوف

تحقيق: خليل مبروك

في ليلة شتوية شديدة البرد امتزجت فيها رياح صحراء النقب الجافة ببرودة جبال الخليل العالية، جلست العجوز زهرية أبو سليم في كهف عائلتها لتحدث الأطفال الذين تحلقوا حولها بكل ما تختزنه ذاكرتها من حكايا، تكفل الزمن بطمس كثير من تفاصيلها.

كل شيء بدا في الكهف مختلفاً، الطين والحجارة، كلها أدوات حياة بدائية لا تشبه تطورات العصر ومنتجات التكنولوجيا التي يتنافس العالم على امتلاكها.

فعلى موقع استراتيجي بين بلدتي يطا والسموع، وعلى بعد كيلو مترات معدودة من ما يعرف بالخط الأخضر، يقيم أكثر من خمسة آلاف فلسطيني، في صورة من صور الحياة البدائية في كهوف شكلتها الطبيعة.

ومع بدائية حياتهم إلا أنهم يعيشون سعداء قانعين بما يأتيهم من رزق بسيط هو ثمرة عرقهم وتعبهم في فلاحة الأرض، ورعاية الماشية.

أحمد أبو سليم، مثال طيب تطل “الثريا” من خلاله على حياة أولئك التائهين، فهو شاب في الثلاثين من عمره، ناضل وقاتل وتحدى الظروف الصعبة، حتى تمكن من شق طريق حياته التي لا تزال في بدايتها بطريقة مختلفة، وكان من القلائل من أبناء المنطقة الذين استطاعوا الحصول على التعليم.

يقول الشاب أحمد:” الناس في منطقتنا يعيشون حياة بدائية حقيقية، إذا كانوا لا يعرفون سكن المنازل فمن أين لهم أن يلتحقوا بالتعليم؟”.

أما جواب أحمد عن حالته الخاصة في هذا الموضوع فيقول عنها: “بصعوبة كبيرة تعلمت حتى الثانوية العامة، ثم تركت كل البلد لإكمال تعليمي الجامعي”.

ويفصح عن ذلك بقوله: “نحن نعتاش من ما تنتجه حيواناتنا، ومنذ كنت طفلاً في الرابعة من عمري كان والدي يصطحبني معه لبيع البيض والحليب واللبن والجبنة وبعض الأعشاب الطبية في قرية السموع، وحينما كنت في الثانية عشر من عمري اقترحت عليه أن أبحث عن سوق خاصة، فكنت أسافر على ظهر الحمار لأكثر من عشرين كيلو متراً إلى مدينة الخليل، وفعلاً أصبحت أعود بِغَلَّةٍ أكبر من التي يحضرها والدي”.

تعرف أحمد في الخليل على تطورات الحياة المدنية، وبدأ قلبه يتعلق بمستقبل أفضل، فالتحق بمدرسة في قرية يطا، ورغم صعوبة ظروفه تمكن من التعلم، وحصل على شهادة الثانوية العامة في العام 2000، ثم التحق بجامعة الخليل، التي تخرَّج منها قبل سنتين، وهو يعمل الآن معلماً في بلدة السموع.

[divide style=”2″]

حياة بدائية

ويتابع حديثه قائلاً: “حتى الحياة داخل الكهوف بدائية، فالنساء يحضرن الطعام في أوان من صاج على النار، وكل عائلة في المنطقة تعرف ماذا تتغدى العائلة الأخرى، وما هو طعام عشاءها، حتى الثياب تغسل وتنشر خارج الكهف الذي تقيم فيه كل عائلة”.

ويكمل ضاحكا: “ولا تتوقع أنَّا نقوم بغسل أرضية الكهف الترابية بالماء، لأننا لا نريد أن نطيِّن عيشتنا أكثر”.

أما الكهرباء فهم يعرفونها عند النظر في الأفق بالليل إلى الأنوار البعيدة في المناطق الحضرية، لكنهم يستعيضون عنها لاحتياجاتهم م الضرورية بالنار التي تستخدم لإعداد الطعام وتسخين الماء لغسل الثياب والاستحمام، وكذلك للتدفئة والإنارة داخل الكهف.

أما التعليم في القرية فهو غير وارد إلا في حالات قليلة جداً، ومن يريد أن يعلم أطفاله يرسلهم إلى مدارس بلدة يطا القريبة، لكن ذلك يشكل عبئاً في التنقل والتكاليف، ويفضل أغلب الآباء أن يعمل أبناؤهم معهم في الأرض.

وفي حال المرض يتداوى أغلب السكان بالأعشاب الطبيعية، إلا في الحالات التي يبتلى فيها أحدهم بمرض خطير، فإنه ينقل إلى يطا ومن هناك يتم علاجه أو نقله للمستشفيات في الخليل.

[divide style=”2″]

قيمة استراتيجية

ويقول أحمد الذي ينشط في التنسيق مع مؤسسات حقوقية لحماية أرض القرية من أطماع الاحتلال: “نحن نواجه اليوم مشاكل كبيرة مع الاحتلال الذي يسعى لطردنا من المكان بأي طريقة ممكنة للسيطرة على تلك الأرض التي تقع في مكان هام جداً عند أقدام جبال الخليل”.

وكدارس للجغرافيا ومعلم لها، يدرك أحمد القيمة الاستراتيجية لمنطقته، وهو يقول: “جبال الخليل هي منطقة تمثل حامية طبيعية لصحراء النقب ومنها إلى سيناء، والمصريون ومنذ فجر التاريخ وأيام الفراعنة كانوا يعتبرون تلك الجبال حدوداً استراتيجية لدولتهم، والاحتلال يدرك ذلك طبعاً، لذلك يسعى للسيطرة الملكية على المنطقة فضلاً عن سيطرته العسكرية”.

ويتابع قائلاً: “اتضح هذا الأمر مبكراً، وبعد عشرة أعوام فقط من قيام دولة الاحتلال عام 1948”.

ما يتحدث عنه أحمد بالضبط هو قيام الاحتلال بهدم قرية “جنبة” المجاورة لقريته، في العام 1958 وطرد سكانها بالقوة، وقد اصدر الاحتلال 16 قراراً عسكرياً في العام 1996، وقد صادر بموجب تلك القرارات 250 ألف دونم، ولم يسمح لأصحابها بالوصول إليها أو حتى استخدامها للمرور بدعوى استخدامها لأغراض عسكرية”.

ويواصل أحمد حديثه بالقول: “في العام 1998، رحَّلت سلطات الاحتلال 83 عائلة بالقوة عن أراضيها، وألقت بهم شرق التلال التابعة لبلدة يطا.

[divide style=”2″]

آخر العلاج

وأصبح الاحتلال أكثر تصميما على اقتلاعهم، فيما ازدادوا هم ثباتاً على الأرض التي يقيمون عليها رافضين الرحيل، وبعد استنفاد كل الحيل اختار الاحتلال آخر الحلول ” إن هدم بيوتهم سيدفعهم للرحيل حتماً”.

وفي ساعات الفجر من يوم الأربعاء 1932008 استيقظ سكان الكهوف على أصوات الآليات الضخمة أمام كهوفهم، لم يكن الأمر يحتاج إلى كثير من الذكاء ليدركوا أن هذه هي آليات الاحتلال، وسرعان ما انطلقت الأصوات النشاز من مكبرات الصوت تدعوهم للخروج من كهوفهم قبل أن تبدأ البلدوزرات مسحها عن المكان.

خرج الناس من كهوفهم وسط صراخ الأطفال وعويل النساء، قاوموا ووقفوا في وجه الآليات التي كان ثقلها يخيفهم، لكن وفي ساعات قليلة كانت الجرافات قد غادرت المكان، وما أن أشرقت الشمس وانقشع الغبار حتى أدرك الأهالي حجم الكارثة، كانت هنا القرية، بيوتها كهوف بائسة من جدران وطين، وحياة أهلها أكثر بؤساً، حتى أنها لا تحمل اسماً، لكنها في عيون أهلها أعز بقاع الأرض على قلوبهم، وهم الذين يرفضون عنها الرحيل كان ما كان.

هي قصة القرية غير المسماة إذاً، تلخص حكاية الأرض التي “باركنا فيها للعالمين” ، وهي قصة فلسطينية بامتياز، ستبقى في التاريخ علامة خالدة على صمود الفلسطينيين، وصورة حية تستخدمها كل شعوب الأرض عن علاقة الحب الأبدية بين أبناء هذا الشعب وتراب أرضه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى