غير مصنف

وقُتِلت الحمامة البيضاء

 

بقلم: عبد الرحمن الشيخ

شهداء و اسرىبين السماء والأرض، تحلق حمامة بيضاء، حاملة في منقارها غصن زيتون أخضر، نظرت أسفل منها إلى أرض يقال لها: فلسطين المباركة للعالمين ، ومسرى سيد المرسلين ، حطت رحالها في منطقة بها ينبوع ماء ، شربت حتى رويت ، ثم سألت: “ما اسم هذه المدينة؟ ” .

قالوا لها إنها بيت المقدس ، حررها صلاح الدين ، كان من الأولياء الصالحين ، والفرسان المنتجبين ، ثم عادت لتطير و معها غصن الزيتون ، فرأت من بعيد واحة خضراء ، وكأنها جنة السماء ، قالت : ” هنا سأحط رحالي ، إنها أرض اللبن والعسل ، ما أجملك يا فلسطين! ” ، ثم سألت: “ما اسم هذا المكان؟” ، قالوا إنها جبال الجليل، هواؤها يشفي العليل، ونجوم الليل فيها قناديل.

وبينما كانت تحلق بمقربة من الأرض ، من شجرة إلى أخرى ، سمعت بكاء وعويلا ، اقتربت الحمامة البيضاء من المكان الذي يصدر منه الصوت ، فإذا بنور متوهج يسطع في عينيها ، قالت: “نور من هذا ؟” ، قالوا: إنه نور الشهيد ، الذي ضحى بعمره المديد ، ليحيا الوليد حياة الرشيد ، عز وتأييد ، ثم سألت : ” من هذه المرأة ؟ “، قالوا إنها أم الشهيد ، الفلسطينية الأبية ، الحرة العربية ، تأبى الذل ، وتعشق البندقية ، فاقتربت الحمامة البيضاء من تلك المرأة ، وقالت لها : ” لم أشتمَّ في حياتي عبيراً أجمل من عطرك الذي تضعين ، وكأنه المسك والرياحين” .

نظرت إليها بعينيها الناعستين وردت قائلة بصوت خافت : ” إنه الروح والريحان ، والمسك والعنبر ، لا يخرجان مني، بل من ابني حسان ، إنه الآن في جنة الرضوان ، في كنف رحيم رحمن ” ، فسألت الحمامة البيضاء : ” ما سبب موته ؟ ” ، قالت الأم وهي تشم عبق قميصه الوردي : “البارحة بعد منتصف الليل، دق باب الدار ، وكنا نائمين ، فامتنعت ومنعت أبنائي أن يفتحوا الباب ، ثم اشتد الطرق ، ففُتح الباب ، فإذا بخمسة رجال غرباء ، ملامحهم توحي بذلك ، اقتحموا البيت، وأخذوا يهددوننا بالقتل إذا لم نخرج، فقررنا عدم الخروج من بيتنا ، فأخرج أحدهم سلاحه ، وكرر كلمة بلغة لم نفهمها ثلاث مرات ، ثم قتلوا حسان ، وأسروا ابني الآخر برهان  “.

ثم كتبت الأم برسالة وأعطتها للحمامة البيضاء لتعطيها لابنها برهان ، سألتها الحمامة البيضاء : ” وأين يكون برهان الآن ؟ ” ، فقالت: ” في سجن يقع خلف هذه البحيرة ” ، حلقت الحمامة البيضاء ، حتى وصلت إلى السجن الذي فيه برهان ، ثم نادته : ” برهان ، يا برهان … ” ، فرد قائلاً:” أنا هنا في هذه الزنزانة” .

وقفت الحمامة على النافذة ، وبرهان يحدثها من خلف القضبان ، يسألها عن أمه وأحوالها ، بحرقة وألم ، يحكي لها عن ظلمة السجن ، وظلم السجان ، لكنها طمأنته أن دولة الظلم ساعة ، ولا بد لليل من زوال ، وبعد لحظات قليلة ، صرخ برهان محذراً الحمامة البيضاء ، أنه قد جاء السجان ، فسألته : ” يا برهان أو ما في قلوبهم رحمة بالإنسان ؟ أولا يحبون السلام ؟ ” ، ثم ما هي إلا رصاصة اخترقت جسد الحمامة البيضاء لتسيل دماؤها الزكية ، فقال برهان مجيباً على سؤالها ، وهي ملقاة أمام ناظريه و في منقارها غصن الزيتون: “الإنسان ؟!.. كيف بمن يقتل الحمام أن يعشق السلام؟!”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى