حوارات

النقيب مريم الناعوق .. حكاية طموح ونجاح رغم المحن والآلام

تقرير: رشدي السراج

لكلٍّ منا طموحه الخاص, ينجحُ البعض في تحقيقِه ويفشلُ البعض؛ ولكن ثمة نجاح ذو طعم خاص, فتلك حكاية أم أصرت على تحقيق حلمها وصولا لأعظم النجاح, لم تكترث لأكوام المحن والآلام, وعذابات فقد الأحباب, وتحدت كل الصعاب, ” فالضربة التي لا تقصمك تزيدك قوة ” .

النقيب / مريم عطية الناعوق زوجة الشهيد سميح الناعوق كانت في ضيافة موقع “الثريا”, لتحدثنا عن تجربتها الرائدة وحكاية نجاحها الخاصة ذات الطعم المميز .

عن نشأتها تحدثت أم محمد31 عاما ” قائلة :” بحمد الله نشأت في أسرة متواضعة, وبين يدي والدين كريمين, أنشئونا على حب الدين  والوطن والتحلي بالخلق الحسن, غرسوا فينا أسمى معاني الطموح والنجاح, لنكون رواد المجتمع وصانعي صموده ” .

وتتابع الحديث قائلة: ” تزوجت عام 1997 من الشهد سميح الناعوق , الذي عشت معه أجمل أيام حياتي , وأنجبت منه خمسة أطفال ما زالوا في عمر الزهور , وأعمل حاليا في وزارة الداخلية كنائب مدير عام الشرطة النسائية في محافظة غزة .

بداية الحكاية

لم تنتهِ حكاية الزوجة بعد فمن هنا بدأت, وتستمر الرغبة لديها في النجاح والتميز وخلق واقع جديد, غير ذلك الذي أراده لها المحتل فلم تضعف وتوهن عزيمتها بل أصرت على صناعة حياتها مع أطفالها بإرادة كالجبال و برغم أعباء الأسرة و مشاق الحياة، لازال هناك متسع من الوقت لتفكر في تحقيق ذلك الطموح الذي شغلها منذ الصغر, لتبدأ من هنا الحكاية .

وتسرد ” أم محمد ” أولى مراحل التحاقها بالعمل الحكومي قائلة: ” بعد الحسم العسكري عام 2007م وتولى حركة حماس مهام إدارة القطاع , علمت أن الحكومة الجديدة بحاجة لموظفات في وزارة الداخلية , حدثتني نفسي بأن الفرصة قد أتت لأفرغ طاقاتي في خدمة ديني ومجتمعي , وسرعان ما استشرت زوجي الذي لم يمانع في فكرة عملي.

وتضيف أم محمد :”على الفور توجهت بأوراقي وشهاداتي وتم تبليغي بالموافقة بعد أيام, على أن عملي سيكون ضمن جهاز الشرطة النسائية المستحدث، ورغم علمي بصعوبات العمل في هذا الجهاز وأعباؤه إلا أنني وافقت دون تردد, لأستلم مهام عملي بعد أيام في اجتماع مع” اللواء توفيق جبر” المدير العام لجهاز الشرطة آنذاك, ولأعين لاحقا في مجال مكافحة المخدرات”.

وتضيف القول: ” لم يكن العمل سهلا أبدا , خصوصا في بداية الأمر فلم تكن نظرة المجتمع تجاه جهاز الشرطة النسائية أمرا مريحا ومقبولا بالنسبة لديهم , عدا عن صعوبة العمل تحديدا في مجال المكافحة، وبحمد الله رغم ذلك كله , وعلى مدار عامين من العمل في هذا المجال , أثبت جدارتي وأبديت نجاحا باهرا في العمل , لدرجة أنني استطعت التحقيق مع 1500 حالة أو يزيد”.

محن وآلام

رغم الأمل الذي حملته ” أم محمد ” بتحقيق طموحها, وعملها الدءوب على ذلك, لم يخل ذلك من أكوام المحن والآلام , فحياتها لم تتوقف على اللحظات السعيدة فحسب , بل جُمعت أيضا بأشد اللحظات قسوة وألما عليها , ولكنها لم تدع لليأس طريقا لقلبها , فاستمرت واثقة الخطى .

تقول ” أم محمد “: أولى لحظات الألم التي عاشتها أسرتنا السعيدة كانت عام 2006م , حيث استشهد أسلافي الاثنين في عملية الكمين المحكم “شرق غزة” , لم يكن الأمر سهلا خصوصا على زوجي , وكنت أصبره وأشد من أزره ، متابعة و” توالت الأيام , إلى أن جاءت أصعب لحظات العمر شدة وقسوة, والتي تمثلت باستشهاد زوجي العزيز في معركة الفرقان بعد عدة محاولات اغتيال تمثلت جميعها بالفشل” .

أشاحت بنظرها لكأن شريط ذكرياتها يمر بين عينيها وتقول:” كان موعده مع الشهادة يوم 15/1 , حيث نصحني زوجي قبلها بيوم التوجه إلى بيت أهلي أنا والأولاد خوفا على حياتنا , وفعلا توجهت إلى هناك , لأجده قد لحق بي بعد ساعات, شعرت بغرابة في حديثه يومها, وكأنه جاء لوداعنا, صنعت له أشهى ما يحب من الطعام وجلبت له بعض الأغراض ليصحبها معه قبل أن يعود للمنزل، و تصمت برهة حيث صورته لم تفارق مخيلتها  وتتابع :”وقبل أن يخرج شكوت له تصرف ابني البكر محمد ” 12 سنة”  الذي كان كثير الحركة والتنقل رغم خطورة الوضع , فرد علي قائلا :” ولو إني استشهدت غدا ؟! كيف ستتصرفين معه؟! ” , ثم أخذه وحادثه وصحبه معه إلى المنزل”.

وتضيف بألم بالغ ” في صباح يوم الخميس 15/1 الساعة العاشرة ونصف صباحا , وبينما كنت أغسل أحد أطفالي , شعرت أن جميع من في البيت يفرون مني , ولا أحد يريد محادثتي !! , سألتهم ما الأمر؟ ولكن لا أحد يجيب , وبعد لحظات سمعت على اللاسلكي خبر استهداف منزل آل الناعوق قبل قليل” .

دموع صامتة خرجت من مقلتيها تمسحها بكبرياء متابعة :” لم أتمالك أعصابي , وعلى الفور خرجت مسرعة متجهة للمنزل , لأجد المنزل أثرا بعد عين , أخبرني الجيران أن جميع من كانوا في البيت قد نقلوا لمستشفى كمال عدوان , توجهت مسرعة إلى هناك لأفاجئ بالصدمة المروعة, وأجد زوجي قد فارق الحياة , ليس هو فحسب, بل هو ووالده الشهيد”محمد الناعوق” , وثلاثة من أصدقائه المقربين ورفقاء دربه.

وتسرد ” أم محمد ” قائلة ” دخلت ثلاجات الموتى لرؤية زوجي وتقبيله, دنوت منه وهمست في أذنه وقلت له: “أنا على العهد , فابقَ أنت على الوعد , وإن كنت راضٍ عني فأمانة ابتسم , فالشهداء أحياء عند ربهم وإذا بالابتسامة تعلو وجهه, ليدهش الجميع ويخرجوا هواتفهم المحمولة لتصويره، فحمدت ربي وصبرت, لقد استشهد وهو صائم طائع لربه , نال مراده وما سعى من أجله, ليقضي شهيدا إلى جنان الخلد .

أُمٌ وأب

لم تكن تلك المرحلة بالأمر الهين على أم محمد , فلم تكن تحتمل أن ترى أطفالها بلا أب , ولم تكن تصبر على رؤية طفلها الصغير عبد الرحمن “3 أعوام” وهو ما زال ينادي على أبيه الشهيد, عله يرجع لرؤيته .

وفي سؤالي لها عن كيفية تعاملك مع أطفالك بعد فقد الزوج أجابت قائلة: ” نظمت وقتي بما يراعي الجميع, وأعطيت كل مسؤولياتي حقها, ولكن كان لأولادي النصيب الأكبر بكل تأكيد.

و تتابع :”فقد أعطيت جل اهتمامي لتعليمهم ودراستهم وجلبت لهم المدرسين في بعض المواد الصعبة, وكنت دوما أرسلهم إلى حلقات تحفيظ القرآن في المسجد, ولم أنس أن أخرج معهم في رحلات ترفيهية لأعوضهم بعض الشيء عن فقد والدهم”.

و تضيف :”أما تعاملي مع ابني البكر “محمد” كان باهتمام أكثر بعض الشيء , كونه شهد استشهاد والده أمام عينيه , كنت أسعى لأن أنسيه ما حصل بكل الوسائل والطرق من خلال شغله في نشاطات مسجدية ومجتمعية, وإحاطته بالرفقة الصالحة، وبحمد الله تابع حياته بكل جرأة وبطش, مصرا على أن يتابع درب أبيه”.

تواصل العمل والنجاح

أصرت على أن تبقى متماسكة رغم كل ما ألم بها من محن , وتواصل مهام عملها وتوفر قوت أطفالها,
تتابع أم محمد الحكاية بالقول: ” بعد الحرب مباشرة نقلت إلى العمل في محافظة شمال غزة , لأكون مدير عام الشرطة النسائية، وبعد أشهر من العمل , جاء تقييم وزارة الداخلية لي , ليتم ترقيتي ورفع رتبتي من “ملازم أول ” إلى ” نقيب “، لتطلبني بعد ذلك مدير عام الشرطة النسائية في غزة  النقيب / نرمين عدوان , لأكون نائبا لها, ولأواصل عملي الدءوب ونجاحي المستمر , وخدمتي للمجتمع ووزارة الداخلية، وبحمد الله تم اختياري مؤخرا لأكون عضوا ومندوبة “شبكة الأقصى لحماية الطفولة” التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية والتي تُعنى بتأهيل الأيتام ورعايتهم ليكونوا رواد المجتمع لا عبء عليه” .

كلمة أخيرة

وتقول أم محمد :”كلمتي الأخيرة سأوجهها لجميع الأمهات وزوجات الشهداء والطامحات بالنجاح ” أوصيكم بالصبر والصمود وعدم الاستسلام أمام المحن والعقبات , ولتكملوا ما بدأه أزواجكم الشهداء , ولتصنعوا من أبنائكم قادة للمجتمع”.

وتصر ” أم محمد ” أن لا تنهي الحكاية هنا , فبرغم نجاحها الباهر في حياتها , وصمودها أمام العقبات والمحن , تصر على مواصلة دروب النجاح , ومتابعة ما بدأت به , لتصعد  من نجاح لآخر , ولتستمر الحكاية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى