“ينقصهم فقه الواقع”

بقلم/ د. صادق قنديل أستاذ الشريعة الإسلامية
كلمة الفقه إما أن نحملها على معناها اللغوي ونقصد بذلك الفهم، أو على المعنى الاصطلاحي ونعني بها ” معرفة الأحكام العملية بأدلتها التفصيلية ” ومن أدوات الفهم الصحيح للأحكام الشرعية ليحصل العلم بمقاصد الشريعة، فهم الواقع؛ لأن دراسته من العلوم الضرورية في تقرير الأحكام الشرعية.
فالأحكام تبنى عادة على مصالح قد تتغير أو أعراف قد تتبدل؛ فما أسرع أن تتبدل الفتوى بتبدل الواقع، وهذا ما درج عليه الصحابة الكرام، فعمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه- قال : ” تحدث للناس أقضية ( أحكام ) بقدر ما يحدثون من فجور” فعندما كان أميرا على المدينة المنورة، كان يقضي في بعض الدعاوى المرفوعة إليه بشاهد واحد ويمين المدعي .
ولا يوجب شهادة شاهدين ولما ولي الخلافة وكان في دمشق منع ذلك وطلب شاهدين في كل قضية، فلما سئل عن ذلك قال: “إنا وجدنا الناس في الشام على غير ما كان عليه الناس في المدينة” ومن تأثيرات الواقع في الأحكام الشرعية أن الحكم يتغير بتغير المصلحة التي بني عليها فعمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أمر أهل الذمة أن يكون لهم من اللباس ما يميزهم عن المسلمين.
لئلاً يدفن في مقابر المسلمين من يموت من أهل الذمة ولم يوجد من يعرفه،أو أن يكفن ويصلى عليه فلا يرضاه من هم على ملته لأنهم يرغبون أن يدفن على طريقتهم، ولأجل المحافظة على مشاعرهم دعاهم إلى أن يميزوا أنفسهم بالزى الخاص بهم، وليس من الفقه أن يأتي من يقول هذه سنة سنها عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- لا بد أن نطبقها فليس بمعقول أن يطبق ذلك .
لأن المصلحة التي بني عليه الحكم تغيرت تماماً ، فنحن اليوم نعيش في عالم لكل واحد منا سجلاته الخاصة به من أوراق ثبوتية وبطاقات تعريفية، وعلماء الأصول نظموا ذلك بقولهم ” الأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وفي العاديات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد ” وإذا قلنا بأن الحكم يتغير بتغير المصلحة ولا بد من فهمها لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره فمن تمام تصور المصلحة معرفة العرف.
فالحكم يتغير بتغير العرف ومن عظيم ما قاله ابن القيم – رحمه الله تعالى- ” إن الشريعة مبناها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها ، وعن المصلحة إلى المفسدة .
فليست من الشريعة ..” ولقد فهم ابن القيم – رحمه الله- هذا من موقف شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- لما مر مع بعض أصحابه على قوم من التتار في دمشق يشربون الخمر ويسكرون، فأنكر عليهم بعض أصحابه، فقال لهم شيخ الإسلام- رحمه الله- دعوهم فإنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء تصدهم الخمر عن سفك الدماء ونهب الأموال” .
وهو بذلك أقرهم على منكرهم لأنه يعلم أنه من الضروري عند إصدار الأحكام مراعاة أحوال الناس – رحمك الله يا شيخ الإسلام لو أدركت زماننا لأنكر عليك أشباه العلم أنك أبحت المنكر- وعليه فإن العرف يؤثر في الأحكام؛ لأن الفتوى تتغير بتغير الأزمنة، والأمكنة، والأحوال، والبيئات، فكانوا قديماً لا يقبلون شهادة من يأكل في الشارع لأنه من خوارم المروءة عندهم .
أما اليوم فتقبل شهادة من يأكل أو يشرب في الشارع لعموم الأمر من غير استهجان له. وفي الختام انصح الجميع بضرورة دراسة فقه المقاصد، يتبع هذا المقال بمقال عن فقه الأولويات، والله أعلم .