فلسطينيات

في ليل غزة..كل شيئ مختلف

الثريا: انوار هنية

في غزة كل شيء مختلف..فليس ليلها كما الليالي في خارج حدودها، فبينما يسدل الليل ستاره و تعلن الشمس مغيبها، لا تجد متحركا في الشارع إلا من  كان له عمل، فرجال الشرطة لا يغادرون أماكنهم و تراهم يترجلون في الشوارع يمشون فيها ليؤدون مهامهم وكل من كان له عمل مشابه فقط، لكن الناس تمسي في بيوتها منذ أن يعلن الليل مجيئه.

في ليل غزة في هذه الأوقات لا يعرف سكونه المعتاد فتختلط به الدماء المتناثرة جراء القصف الليلي بينما تتطاير الأجساد أشلاء في جوه القارص، فلا تتأثر بعد أن تفارقها الأرواح مودعة أحبتها.

في ليل غزة تخترق أصوات الطائرات حاجز الصمت وتخترق القذائف الأماكن والبيوت والأجساد، ويدوي صوتها عاليا.

في ليل غزة تجتمع العائلة و يرتحل كل منهم عن مكانه الأصلي الذي اعتاد النوم فيه، فيجتمعون في الصالة (عادة المكان الآمن التي يختاره المعظم) و يجلسون بعيدين عن النوافذ والأبواب، وتحتضن الأم أولادها و تتلاصق (الفرشات) بعضها ببعض بتلاحم يعكس حال الأفراد .

في ليل غزة، تحتضن زوجة المرابط والمجاهد أبناءها وتربت على أكتافهم، تداعب بأناملها وجوههم البريئة، تهدهدهم بكلمات الحب، و الوعود بغد أفضل، بينما تكفكف دموعها و يلهج لسانها بالدعاء لزوجها ولجميع المرابطين بالحفظ و التمكين.

في ليل غزة، تجلس والدة المجاهد على سجادة الصلاة، الناس نيام وهي ترفع أكفها إلى السماء متضرعة راجية ربها أن يعود فلذة كبدها منتصرا وباقي إخوته المجاهدين و يحميهم من عيون الصهاينة.

في ليل غزة تطمئن الأم على أبنائها موعد نومهم وتحاول تهدئتهم بعد الفزع عند سماع صوت القذائف و تودعهم بنظراتها و تحتضنهم الحضن الأخير في كل ليلة تعلن بداية اليوم الجديد-  فطائرات المحتل قد يكون هدفها الثاني أو الثالث أو عد كما تشاء- هذا المنزل الذي يأوي تلك الأم مع أطفالها فقد نفذ بنك أهدافهم و أصبح المواطنون الأبرياء و الأطفال الصغار بنكاً آخر من بنوك أهدافهم.

في ليل غزة تجلس أم الشهيد أو أخته أو ابنة الشهيدة أو ابنها وكل من ودع محب فارق الحياة ليختلي بتفاصيل ذاكرته التي عجت بالمواقف والأحداث المشتركة بينهم فيتذكرون أحبتهم- ضحكاتهم، نظراتهم، فرحهم، وجعهم، حزنهم، وتفاصيل كثيرة اختزلها المحتل الصهيوني بقذيفة أودت بحياتهم، ويفيقون أولئك المحبين فجأة على صوت انفجار آخر هز المنطقة بأكملها فيستيقظوا على ذات حقيقة الفراق المؤلمة وعزاؤهم أن في الجنة شهداءنا و في النار قتلاهم.

في ليل غزة تجلس زوجة الاسير- التي لم تر زوجها سنوات و سنوات وحكم عليه احكام ومؤبدات عالية- تجلس بين ابنائها الذي جزعوا من اصوات القصف، فتذكرهم بوالدهم و بافعاله وصموده لترع معنوياتهم.

في ليل غزة يحتضن الجار باقي أفراد جاره الذي استهدفت قوات الاحتلال منزله و أصابت فيه من أصابت وقتلت فيه من قتلت، فيفتح لهم المنزل كما القلب، ويحتضنهم احتضان الأهل فيلئمون بعضا من ذاك الجرح العميق و يجسدون معان اللحمة والتكافل والرحمة والأخوة التي استقوها من خير قدوة وخير معلم للبشرية .
في ليل غزة يتسارع الأطباء والممرضين (ملائكة الرحمة) يتركون بيوتهم ليقفون على ثغر من ثغور الوطن فيحكون أروع صور الإباء، وتعلن حالة الطوارئ التي تعني مزيدا من ساعات الدوام فيهرولون لتشخيص تلك الحالة و التعامل مع حالة أخرى، ومداواة مصاب آخر والإعلان عن وفاة شخص آخر بعد لفظ أنفاسه، فلا يشعر بتعب أو كلل أو ملل.

في ليل غزة يحمل المصور كاميرته، بينما يعد المراسل نفسه ليكون في مكان الحدث فلا تسكن الطائرات بسكون الليل، و لا تهدأ، وينقل الصحفي الصورة التي أراد اغتيالها باستهداف الوسائل الإعلامية وفضائية القدس و مرئية الأقصى  فيواصلون عملهم لكشف حقائق المحتل ويفترشون أسطح المنازل أو الأماكن، ويلتحفون بالسماء و تأتي الساعة تلو الأخرى وهم على ذات الثغر ينقلون معاناة غزة.

في ليل غزة تنطلق سيارات الإسعاف و الدفاع المدني بأقصى السرعات الجنونية لتنقذ أنفاس وأرواح أخرى كانت هدفا لصواريخ الاحتلال، فلا تأبه ببعد مكان أو قربه ولا تهتم لصارخ أطلق هنا أو قذيفة هناك فيستمرون في عطائهم و عملهم و يرسمون صورا جديدا لمعاني الشجاعة والتضحيات.

في ليل غزة- وفي غزة فقط- يقف المرابطون على ثغور الوطن حاملين أرواحهم على أكفهم، مودعين أحبتهم، يقفون في الصفوف الأولى مدافعين عن ثرى الوطن، يحملون سلاحهم، ويسددون الضربات تلو الأخرى ليلقنوا العدو درسا لم يستفيقوا منه بعد، فيقذفون الرعب في قلوبهم، ويوجعون العدو في ضرباتهم.

في ليل غزة مختلف عن الليالي خارج حدود غزة، فأناسه ومختلف صفوفه يحيكون مشهدا للعزة والفخر والكرامة والنصر والتمكين، فهذا فقط في ليل غزة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى