غير مصنف

هكذا استشهد الطفل محمد عاشور.. الاحتلال يغتال براءته ويحولها أشلاء

الثريا- أنوار هنية،، 

كان يلهو مع أبناء عمه، في حديقة المنزل، يلعب مع أقرانه لعبة “يهود وعرب” – لعبة اعتاد الأطفال الفلسطينيون لعبها متأثرين بما يحدث معهم في غزة- لم يكن يحمل قذيفة أو رشاشاً، كان يحمل قلبا محبا للحياة، أقصى حلم له أن يعيش في أمان مع عائلته.

محمد إبراهيم رزق عاشور ذو الثمانية سنوات، اغتال المحتل براءته وطفولته وبتر أحلامه البسيطة بصاروخ توسط جسده فمزقه أشلاء وتفرقت أعضاءه في مكان، فحتى جثته لم تصل كاملة إلى المستشفى، ففي كل وقت يكتشف أهله جزءا آخر كان قد تناثر في مكان ما، فحتى جثته لم تسلم من التنكيل ووصلت إلى المستشفى عبر مراحل.

توقفت الكلمات وحتى النبضات وتجمدت المشاعر وارتبط اللسان واستأذنت العقول من أصحابها برهة لتستجمع ما تبقى من الحدث، فتوقف العقل ليحاول استيعاب ما يحدث، ذلك ما حدث لكل من شاهد الموقف، جريمة لا علاقة لها بالإنسانية فقد تجاوزت كل عقل بشري، فلم يقم بتلك الجريمة البشعة إلا شخص أضحت مكونات جسده من الغابات، فهم ليسوا أشخاصا بل وحوش ضارية يحكمهم “قانون” الغاب.

رأت والدته وجهه وعرفته من سترته التي كان يرتديها فقد كانت أشلاؤه عصية على المعرفة في اللحظات الأولى، وأخواته البنات الأربعة شاهدوا أشلاء جثته.. دموع وصرخات دوت في المكان ليست لشيء إلا لبشاعة المشهد، فقد كان أصغرهم سنا وأكثرهم دلالا.

صرخات إخوته دوت في المكان كما الجميع، وكلمات قليلة فقط تحدثت بها أخته :”أريد أن أرى أخي، أريد أن أراه للحظة فقط، أريد أن اقبل رأسه، بينما والدته تحاول أن تستجمع قواها ولسانها يلهج بكلمات الشكر والحمد، وقلبها يعتصر على فراق فلذة كبدها لكن إيمانها بالله عز وجل وبقدره أسكنَا وجع قلبها، فعزاؤها أنه شهيد اصطفاه الله عز وجل ليكون طيرا في الجنة لا يدخل الجنة إلا بعدما يُدخِل والديه إليها”.

[divide style=”2″]ريما، أم الشهيد محمد والتي قَدِمت منذ ثلاثة شهور إلى غزة مع طفلها محمد وبناتها الأربعة لتستقر في غزة، كان قدر الله غالب ليكون طفلها وحبيبها من شهداء معركة “حجارة السجيل”، تحتسبه شهيدا عند الله، لكن فراقه يلهب قلبها، بين لحظة وأخرى تمسك ببعض ثيابه التي لا تزال في موضعها فتشتم رائحتها، وتمسكها بيديها بقوة تخشى من فراق ملابسه كما فارقت روحه الدنيا، وفي لحظة أخرى تمسك دفاتر مدرسته وكتبه، وأوراق امتحانه التي تشهد على ذكائه فجميعها لا تقبل إلا الرقم عشرة على عشرة.[divide style=”2”]

وكما يقول عمه محمود عاشور الذي يُدَرِّس في نفس المدرسة وكان ينقله معه ذهابا وإيابا إلى المدرسة: “كتب محمد ودفاتر مدرسته تعكس نباهته، فقد كان الأول على فصله، والجميع يشهد بحسن خلقه وجم أدبه، فقد كان مثالا يحتذى به، لقد أوجع القلوب بفراقه لكن عزاءنا أن في الجنة شهدائنا”.

كرسي محمد كان ينتظره لانتهاء الحرب ليعود إليه لكنه سيظل فارغا بعد فراقه، فلن يعود محمد إلى ذلك الكرسي الذي يشهد على ذكائه ونباهته، سيفتقده زملاؤه ومدرسيه، فقد خرج محمد فقط كي يلعب مع أبناء عمومته وبعد لحظات فقط لم تتجاوز الربع ساعة كان جسده أشلاء، تبعثرت حروف اللغة العربية وصمت العقل عن الحديث، والصورة المتحركة فقط هي كيف كان محمد وماذا أصبح؟ وما الذنب الذي اقترفه؟ أسئلة لا تلقَى في الهواء إجابات، فقط صداها يتردد في المكان.

لم يكن والد الشهيد محمد في غزة وقت استشهاده فقد عاد إلى الإمارات لمواصلة عمله، وكان يتابع أخبار غزة لحظة بلحظة ويضع يده على قلبه كلما سمع نبأ استشهاد شخص ما، وتلقى نبا استشهاده في ذاك اليوم حيث كان يحاول الاتصال على زوجته، ولا يجد ردا وكذلك على إخوته، لا يعرفون كيف يخبرونه بنبأ استشهاده، وعرف قدرا وكان رده: “الله أعطى والله أخذ”، وحينما تحدث أخوته معه ليواسونه كانوا يبكون حرقة وكان يقول لهم:”لا تحزنوا فقد اصطفاه الله شهيدا”، بنَفَس الصابر المحتسب و بعزة الفلسطيني الذي يضمد جرحه ويكابر على نفسه ويواصل حياته وذات الدرب الذي اختاره جميع الفلسطينيين.

وصل والده إلى غزة الليلة الماضية، والنظرات شاخصة إليه والجميع ينظر إليه وقلوبهم تنفطر عليه لكن إرادته الصلبة أذهلت العقول، وكذا صبره واحتسابه وإيمانه العميق بقدر الله، وأول حديث تحدث به حينما وصل: “لا أريد صراخا أو بكاء فقد اصطفى الله طفلي وجعله ذخرا لي في الجنة”، وكان مجيء والده قد خفف من وقع الصدمة على زوجته وبناته، و بعودته أثلج قلوبهم التي قهرها فراق الحبيب الغالي”.

تحدثت الثريا مع والده الصابر المحتسب فقال بلغة الواثق بنصر الله :”هذا دربنا وهذه طريقنا، وطريق النصر والعزة لا تُعبد بالورود، إنما بدماء الشهداء والتضحيات الجسام، ولن نلين باستشهاد طفلي إنما صامدون صمود الجبال بل وأكثر، فلا يهزنا الفراق ولا يضعف عزيمتنا بل يزيدنا ثقة بالنصر القريب والتحرير الكامل بإذن الله”.

لكم الله يا أهل غزة، تحملون إرادة صلبة وعزيمة قوية، لا يهزها وجع ولا يعتريها وهن، لكم الله بصمودكم وعزكم فتخطون أروع صور العزة والكرامة بمداد الدماء، فالنصر بعزتكم و صبركم قادم لا محال.. لكم الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى