غير مصنف

فلسطينُ تودِّع خنساء فلسطين أم نضال فرحات بدموعِ المطر

تقرير: محمد هنية

خلال وصيةٍ كتبتْ بخط يدِها..أم نضال فرحات  “هي مَوتةٌ فما أحلَى أنْ تكونَ في سبيل اللهِ”

ام نضال فرحات

استيقظتْ فلسطين على وقْعِ خبرِ وفاة “مريم فرحات” أم نضال بعد صراعٍ طويلٍ مع المرض، لتُطوى صفحةٌ مشرقة من صفحاتِ التاريخ الفلسطيني المقاوِم، سطَّرتْها “أم نضال” بمواقفها وتضحياتِها على مدارِ أكثرَ من خمسةٍ وعشرين عاماً.

“مريم محمد يوسف فتحي” وُلدتْ في الرابع والعشرين من شهر ديسمبر عام 1949، لأُسرةٍ بسيطةٍ من حيِّ الشجاعية شرقَ مدينة غزة، تفوّقتْ في دراستها، وواصلتْ حتى تزوّجتْ بِ”فتحي فرحات” حين كانت في الثانوية العامة، والتحقتْ في امتحان الثانويةِ العامة في مدرسةِ الزهراء، وهي حاملٌ بطفلِها الأول، وحصلتْ على مجموع 80%، ووضعتْ نُصبَ عينيها إنشاءَ بيتٍ مسلمٍ و أبناءٍ مخلصين؛ حرصتْ على تربيتهم على حبِّ الوطنِ و العمل للقضيةِ الفلسطينية، و رفْعِ رايةِ الإسلام، و كانت رسالتها التي أنشأتْهُم عليها منذُ نعومةِ أظفارِهم؛ أنَّ تحريرَ فلسطين واجبٌ على كلِّ فلسطيني، ويُدفعُ في سبيلِه الغالي و النفيسُ، ورسالتُها الكبيرة نشرُ دعوةِ الإسلام، ورفعُ رايةِ التوحيد، فكان أبناؤها الستةُ و بناتُها الأربعةُ منارةً للتعليمِ و التضحية و الفداء.

جنازة ام نضال قدّمتْ “أم نضال فرحات ” ثلاثةً من أبنائها، كانت البداية “بمحمد” الذي نفَّذَ عمليةً استشهاديةً في ما كانت تُسمَّى بمغتصبةِ “عتصمونا”، حيث ودعتْه بقلبٍ راضٍ ونفسِ مطمئنةٍ حاملاً وصيتَها له بأنْ يفرِغَ ذخيرتَه الكاملةَ صوبَ المحتلِّ الذي دمّرَ البشر و الشجر و الحجر، و قتلَ النساء و الأطفال والشيوخ، وارتكبَ المجازرَ تِلوَ المجازر بأبناءِ الشعب الفلسطيني.

ثُم توالتْ “أم نضال” في توديعِ أبنائها ،حيث كانت على موعدٍ في توديعِ ابنِها البِكر “نضال”، ففتحتْ بيومِ شهادتِه صفحاتٍ رصَّعتْها بحروفِ الصبر والتضحية، وخطّتْ معالمَ تلك الصفحاتِ دماءُ شهداءِ أبنائها وتواصلَ مسلسلُ التضحياتِ في حياة “أم نضال فرحات” فقدّمتْ ابنَها الثاني “محمد” شهيدًا في سبيل الله، تُحيكُ الصبرَ على فِراقِ فِلذةِ كبدِها بنسيجِ الإرادةِ والإيمان القوي، وكان موعدُ ابنِها الثالثِ “رواد” مع الشهادة، فأغلقتْ حزنَها و لوعةَ فِراقها لأبنائها في قلبها، و غلَّفتْهُ بجدار العزيمةِ الصلبةِ التي لا تستكينُ ولا تعرِف الِّلينَ.

وحكايةُ “أم نضال فرحات” لا تقتصرُ فقط على فراقِ الأحبة و لوعةِ الاشتياق، فقد كان لها موعدٌ مع مفصلٍ آخَرَ من مفاصلِ القضيةِ الفلسطينية بعدَ مفصلِ

 

الاستشهادِ ، فلِلأَسرِ حكايةٌ أخرى تذوقتْ مرارتَها “أم نضال فرحات” عندما أُسِرَ ابنُها “وسام” أحدَ عشرَ عاماً في سجونِ الاحتلال، كما كثيرٍ من أمهاتِ أبناء فلسطينَ اللاتي تذوقنَ جرعاتِ الحرمانِ من أزواجِهنَّ و أبنائهنَّ الذين غيَّبتْهم السجون.

أم المجاهدينفي حكايتها مع الأسرِ تسطِّر “أم نضال فرحات” أنموذجاً آخَرَ للمرأة الفلسطينيةِ؛ التي تقدِّمُ الغالي و النفيس في سبيلِ دعوتها وقضيتِها العادلة، فتُودِّعُ ابنَها الشهيدَ، وتُقرِئُهُ الوصيةَ، و تُقبِّلُ جبينَ ابنها الأسيرِ، وتعطيهِ جرعاتِ الصبر، ولم تقتصرْ عند هذا الحدِّ.
فلا تزالُ بعزيمتها تسطِّرُ فصولاً جديدة من فصولِ العطاءِ المستمر بلا توقُّف، فقد قُصفَ منزلُها أربعُ مراتٍ من قِبلِ قواتِ الاحتلال، التي مزَّقتْ لقاءاتِها مع أحِبَّتِها و قُرَّةِ عينِها و شتَّتْ شملَها، وقصفتْ بيتها، ومع كل تلك التفاصيل تبدو في معالمِها وتضحياتِها تعجزُ عن وصفِها حروفُ الكلِمِ في اللغةِ العربية، بل وفي جميعِ اللغات، خاضتْ “أم محمد فرحات” التجرِبةَ البرلمانية التي كانت فيها أنموذجاً يمثِّلُ كافةَ تفاصيل القضيةِ الفلسطينية أمام العالمِ أجمع.

شهاداتٌ حيّةٌ

في حوار الثريا مع أ. “رجاء الحلبي” إحدى قيادات الحركة النسائيةِ فتقول بكلماتٍ يعتصرها الألم:” أم نضال فرحات حتى وإنْ غابتْ بجسدها ؛هي معنا بروحِها وذِكراها العطرة، نودِّعُها ونقول بأنّ بصماتِها  لن تُنسَى وباقيةٌ بينَنا ما بقينا”. وتضيف متابعة :” لقد كانت من الرعيلِ الأول الذي تربّى في بيوتِ الله، وعلى يدِ الشيخ “أحمد ياسين” رحِمَه الله”.

 

وأوجزت أ. الحلبي في وصفِ “أم محمد فرحات” بعبارة تقولها:” هذه المرأةُ العملاقة أبَتْ إلا أنْ يكون جهادُها من نوعٍ آخَرَ، وليس بالكلامِ، وإنما بالأفعالِ، فقد رسمتْ للمرأة المسلمةِ صورةً رائعةً في الجهاد والتضحيةِ والفداء؛ حين قدّمتْ ثلاثةً من أبنائها شهداءَ، وكانت على استعدادٍ لتقديمِ المزيدِ من أبنائها، فقالتْها علانيةً و بصراحة :” لو أنّ جميع أبنائي استُشهدوا لكُنتُ سعيدة”.

جنازة ام نضال فرحات

وتتابعُ الحلبي بصوتٍ يحملُ اشتياقاً لامرأةٍ خطَّتْ حياتَها بصمودِ الجبالِ، فتقول:”اطَّلعْنا على وصيةٍ لها؛ كُتبتْ بخطِّ يدها ،فكتبتْ فيها (هي مَوتةٌ فما أحلَى أنْ تكونَ في سبيلِ الله).

كلماتٌ تقشعِرُّ لها الأبدانُ، خُطّتْ بعبارةٍ كانت هي نهجُ حياةٍ؛ عاشتْ عليه “أم نضال فرحات” و سار عليه أبناؤها وأبناءُ فلسطين جميعاً.
تضيف “الحلبي” متحدثةً عن “أم نضال فرحات” فتقول:”كانت حياتُها في سبيلِ الله، وقد آوَتْ الشهيد “عماد عقل” في بيتِها، وكانت تزورُ الفقراءَ والشهداء والمرابطين في الثغورِ والمستشفيات.

ولم يتوقّفْ عطاؤها رغم مرضِها بعد حربِ السجيل، فقد كنا نذهبُ إلى أماكنَ متعددةٍ بعد الحرب، وكنا نجدُها أمامنا، بل و تسبقُنا في الدخول.
وتختصرُ “الحلبي” حديثها عن “أم نضال فرحات”:”هي امرأةٌ مجاهدةٌ سيكتبُ اسمُها في صفحات التاريخِ المشرقة، خنساءُ فلسطين استطاعتْ أنْ ترسمَ معالمَ واضحةً للجهاد والفداء”.

هي الحرف وهي القصيدة

أم نضال وتقولُ النائبُ في المجلس التشريعي سميرة الحلايقة “للثريا” :”سنعبِّرُ دوماً عن حُبِّنا لهذه المرأةِ العظيمة، الأمُّ التي ضحّتْ بفِلذاتِ كبدِها من أجل فلسطين، فهي لم تدافعْ عن فلسطينَ بالكلمة، وإنما بالمواقفِ والأفعال، ودفعتْ في سبيل ذلك ثمناً غالياً مضيفة :”الكلماتُ تعجزُ عن وصفها؛ لأنها هي الكلمةُ وهي نفسُها الحرفُ، وهي نفسُها القصيدة“.

وبكلمات متلعثِمةٍ كأنّ ذاكرتها تتوقفُ، وكلماتُها تنحني أمام وصفِها لِثكلِ المرأةِ العظيمة فتقول:”هي خنساء، وقدّمت أكثرَ من الخنساء، بل هي سيدةُ الخنساوات”.

وتضيفُ الحلايقة :”قد لا تأتي سيدةٌ بمِثلِ عطائها و تضحياتها، نحن بانتظارِ أنْ تلدَ أمهاتُ فلسطين كأمِّ نضال فرحات، تحملُ صفاتِها وأخلاقَها العالية؛ بالتحمل والصبر والجلَدِ والرفقِ بالغير، ومساعدةِ الآخرين، ومشاركةٍ في الأفراح والأتراح”، لا أستطيعُ أنْ أضعَها في سطر أو سطرين، فقد كانت كتاباً مفتوحاً وطريقاً سهلاً ومعبداً، يجب على جميع الأمهاتِ أنْ تسيرَ على هذا الطريق، فقد صنعتْ مواقفَ، وفجّرتْ الثورةَ في نفوس الأمهاتِ، وفي القلوب المترددةِ على طريقِ الجهاد والمقاومة”.

رحلتْ “أم نضال فرحات” بجسدِها الطاهر، لكنها لم ترحلْ بروحِها، لم ترحلْ بمواقفِها ، لم ترحلْ بعطائها اللا محدود، لم ترحلْ بصماتُها في تاريخ القضيةِ الفلسطينية، فكلماتُها ترسَخُ في الذاكرةِ وفي العقول، حياتُها ومسيرتُها مدرَسةٌ تَدرَّسُ لتعليمِ التضحيةِ والفداء، ولتسيرَ على نهجِها كلُّ نساءِ فلسطين.
أم رواد فرحات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى