قصةٌ تَجعلُ الوِلدانَ شِيباً، وتُندِي قلوباً قَسَتْ

أبو إبراهيم:أبداً ما تذمَّرتُ؛ لأنّ ليَ الجنة
تقرير-عبدالرحمن الشيخ
حكايةٌ لَمّا سمعناها للوهلةِ الأولى؛ ظنَّنا أنها من وحيِ الخيالِ أو أضغاثِ الأحلامِ، لا وجودَ لها على أرضِ الواقع، لم أكنْ أتصوّرُ يوماً أني سأواجِهُ وضعاً كهذا الوضعِ أو صورةً كهذه الصورة، تجوَّلنا خلالَ أعوامٍ في أنحاء قطاعِ غزةَ، ودخلْنا بيوتَ الصابرين، واللهِ إني لم أجِدْ حالاً كهذا الحالِ منذُ أعوامٍ مضتْ، أقفُ معكم اليومَ مُضطّراً أنْ أُغطِّيَ وجهَ هذه الأُسرةِ الكريمةِ بناءً على طلبِها ؛حتى نحفظَ لهم كرامتَهم التي هي جزءٌ من كرامتِنا.
الحاجُّ أبو إبراهيم.ب وزوجتُه من حيِّ التفاحِ بغزة، يعيشانِ منذُ عشراتِ السنينَ في بيتٍ قديمٍ صغيرِ المساحة، يحتوي على غرفتينِ صغيرتينِ أهلكَهُما الدهرُ، وعفا عليهما الزمنُ، تربطُ بين الزوجينِ الطاعنَينِ في السنِّ علاقةُ قرابةٍ من الدرجةِ الأولى، ولم تكنْ لَديهِما في ذاكَ الوقتِ المعرفةُ الكافيةُ حولَ مخاطرِ زواجِ الأقرباءِ، وما قد يُخلِفُه من عواقبَ وخيمةٍ؛ تُلقي بظلالِها المؤلمةِ عليهما.
أنجبا ثلاثةَ أبناءٍ: اثنان منهم يعانونَ من إعاقاتٍ عقليةٍ شديدة، والآخَرُ كان في بدايةِ الأمرِ لا يعاني سوى من الخَرسِ أو البُكم، لكنه بحسَبِ ما قاله أبوه _البالغُ من العمر 75 عاماً _كان طفلاً مُبدِعاً وممثِّلاً مسرحياً بارعاً:”لديَّ ولدٌ وبنتٌ وُلِدا منذُ أكثرَ من ثلاثين سنةً بإعاقاتٍ عقليةٍ شديدة، أُنظِّفُ عليهم، وأقومُ على احتياجاتِهم من مأكلٍ وملبسٍ ومشربٍ وحمامٍ وغيرِها؛ بالتعاونِ مع زوجتي المريضةِ، والتي كبرتْ في السنِّ وضعُفَ بصرُها وقلَّتْ حيلتُها”.
في المرَّةِ الأولى التي جاءتْ فيها لجنةٌ من وزارةِ الشئونِ الاجتماعيةِ وهيئةِ الإعمارِ ؛للاطلاعِ على حالِ الأسرةِ البائسِ، فاحتْ رائحةٌ كريهةٌ جداً من المنزل، والسببُ بطبيعةِ الحالِ؛ وجودُ اثنينِ من المعاقينَ بشكلٍ كاملٍ في غرفةٍ؛ تفتقدُ إلى التهويةِ والظروفِ الصحيةِ الملائمة، وقد كانت عمليةُ التقاطِ الصوَرِ أمراً صعباً للغايةِ؛ نظراً للمَشهدِ المُريعِ والرائحةِ الكريهةِ، وحين دخلْنا الغرفةَ التي يعيشُ فيها الأخُ وأختُه؛ اعتقدْنا في البدايةِ أنهما مَسخانِ أو كائنانِ فضائيانِ أو أمواتٌ قد استيقظوا، حقيقةً كان المَشهدُ مُرعِباً جداً.
قصةُ المُبدِعِ “زاهر”
“زاهِر” 52 عاما ًهو الوحيدُ من بينِ إخوتِه ذوِي الإعاقةِ؛ الذي وُلدَ دونَ أيِّ إعاقةٍ عقلية، وقد كان طفلاً مُبدِعاً متفوّقاً في دراستِه؛ إضافةً إلى أنه ممثلٌ مسرحيٌّ بارعٌ، فبحسَبِ أصدقائه السابقينَ وجيرانِه الذين عرفوهُ؛ فإنّ “زاهر” كان مُقلِّداً بارعاً للممثلينَ المسرحيينَ، إلى أنْ أصابتْهُ الفاجعةُ والمصيبةُ الكبرى.
في أحدِ الأيامِ قبلَ ما يزيدُ عن ثلاثينَ سنةً_ حين كانت المسارحُ منتشرةً في قطاعِ غزة_ ذهبَ “زاهر” كعادتِه إلى المسرحِ؛ ليقومَ بحركاتِه الإبداعيةِ المعتادة، ولكنْ في حركةٍ عفويةٍ غيرِ مقصودةٍ كُسرَ طرَفٌ من المسرحِ؛ ما أدَّى إلى دخولِ مسمارٍ طويلٍ في إحدَى عينيهِ الجميلتينِ، فَفقدَ على الفورِ “زاهر” تلكَ العين.
الأطباءُ أكّدوا على أنّ فُقدانَ “زاهر” لعينِه اليمنى؛ سيؤثِّرُ لا محالةَ على دماغِه، وقد يؤدّي إلى تلَفِ جزءٍ منها، وبالفعلِ بعدَ عِدَّة أشهر بدا “زاهر” كثيرَ الانفعالِ، مُبادِراً إلى ضربِ كلِّ مَن حولَه، ويُلحِقُ الأذَى بنفسِه وبأهلِه، إلى أنْ وصلَ إلى حالةِ جنونٍ كاملةٍ، وُضعِ على إثرِها في غرفةٍ صغيرةٍ في البيتِ الصغيرِ بمفردِه؛ يأكلُ ويشربُ وينامُ، ويقضي حاجتَه في الغرفةِ الصغيرة، ولكنْ إلى متى سيبقَى “زاهر” على هذا الحالِ؟.
يقولُ “أبو إبراهيم” مناشِداً:”أناشدُ أطباءَ العالمِ أنْ يأتوا ويشاهدوا حالَ وَلدي “زاهر”، فرُبّما كان له علاجٌ، إنّ قلبي يعتصرُ ألمًا عليه، ولا نقولُ إلا ما يُرضي ربَّنا سبحانَه وتعالى، فالحمدُ للهِ ملءَ السمواتِ والأرض”.
الوزارةُ تنتفضُ
بعدَ زيارةٍ واحدةٍ من وزارةِ الشئونِ الاجتماعيةِ لمنزلِ عائلةِ “أبو إبراهيم” اتَّخذتْ من جانبِها إجراءاتٍ فوريةً من شأنِها التخفيفُ من حجمِ المعاناةِ، كان أوَلُها نقلَ اثنينِ من المعاقينَ إلى مستشفى الوفاءِ الطبي، والتوصيةُ بتوفيرِ أقصَى درجاتِ الرعايةِ والحمايةِ لهما، وتوفيرِ كافةِ احتياجاتِهما الصحيةِ والإنسانية.
كما قامتْ الشئونُ الاجتماعيةُ _بالتعاونِ مع هيئةِ الإعمارِ_ بالشروعِ في ترميمِ بيتِ الأُسرةِ وتوسعتِه؛ ليكونَ ملائماً للعيشِ الآدَميّ، حيثُ تقومُ الوزارةُ في هذه الأثناءِ ببناءِ ثلاثةِ غُرفٍ جديدةٍ وحمّامٍ ومطبخٍ، بالإضافةِ إلى إجراءِ إصلاحاتٍ واسعةٍ على معظمِ أرجاءِ المنزل، هذا وتُنسِّقُ الإدارةُ العامةُ للحمايةِ الاجتماعيةِ مع المؤسساتِ المحليةِ والدوليةِ والوزاراتِ المَعنيّةِ بشكلٍ حثيثٍ لتلبيةِ كافةِ احتياجاتِ الأُسرةِ من مأكلٍ وملبسٍ ومشربٍ.
رضا الله تعالى
وعندَ سؤالِ الحاجِّ “أبو إبراهيم” عن سرِّ صبرِه هو وزوجتُه _وقد بلَغا من الكِبَرِ عِتيّاً_ أجابَ بِهمّةٍ عاليةٍ: إنّ سرَّ صبري وتسليمي بقضاءِ اللهِ وقدَرِه؛ يكمُنُ في رضا اللهِ تعالى والوالدين، ثُم أَعَدْنا تَكرارَ السؤالِ:في حياتِكَ لم تتذمّرْ أو تتأفّفْ من وضِعكَ وحالتِك؟ فقال:”أبداً ما تذمَّرتُ لأنّ ليَ الجنة”.
وبعد ما سبقَ فإنّ وزارةَ الشئونِ الاجتماعيةِ؛ تناشدُ القلوبَ الرحيمةَ، وكافةَ المؤسساتِ بالمسارعةِ لِمَدِّ يدِ العَونِ لهذه الأُسرةِ الصابرةِ الثابتة، لزيادةِ روحِ الألفةِ والتعاونِ والتعاضدِ بين أبناءِ المجتمعِ الفلسطينيّ، ونختمُ بحديثِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلم:”مَثَلُ المؤمنينَ في توادِّهم وتعاطُفِهم وتعاضُدِهم كمَثَلِ الجسدِ إذا اشتَكى منه عضوٌّ؛ تداعَى له سائرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحُمّى” صدقَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلّم.