المُحرَّرُ ريّان.. حول السجن لأكاديمية تعليمية

حاوره: عبد الرحمن عبدربه الطهراوي
ولِدتُ في الخامسة عشر من أغسطس لعام 1975م في قريةِ قراوةِ بني حسّان قضاء سلفيت، في وسطِ عائلةٍ فلسطينيةٍ ملتزمة، ترعرَعتُ فيها على المبادئ الإسلاميةِ وعلى حبِّ الوطنِ والنضالِ من أجله، درستُ المرحلةَ الأساسيةَ بمدرسة القريةِ الوحيدةِ، وكنتُ شغوفاً بالتاريخِ والجغرافيا، ولم أُكمِلْ دارستي الثانويةَ؛ بسببِ الوضعِ الماديّ للعائلةِ، فتوجَّهتُ للعملِ في حِرفٍ مختلفةٍ.
وفي الوقتِ الذي كنتُ أعملُ فيه كانت عيناي الصغيرتان تراقبُ ما يفعلُ المستوطنون بأهالي القريةِ وأراضيها، والتي تميزتْ بأشجارِ الزيتونِ واللوز والساحاتِ الخضراءِ؛ التي تمرحُ فيها الغزلانُ، فضلاً عن ينابيعِ المياهِ العذبة، ولم يسلَمْ سكانُ القريةِ من بطشِ المستوطنينَ الذين يقبعونَ فوق التلالِ التي تحيطُ بنا.
لذا قرَّرتُ أنْ أنتقمَ لقريتي بما أستطيعُ فِعلَه، وفي صباح 30/6/1993م حملتُ مُصحفي وأخفيتُ السكينَ بين ثيابي، وشققتُ طريقي بين الجبالِ؛ حتى وصلتُ لمستوطنةٍ صهيونيةٍ مُقامةٍ على ربوعِ وطني فلسطين، على إحدى تلالِ القرية، وفي طريقي رأيتُ مغتصِباً يُدعى (يورم سخوري) وزوجتَه، لم أتردَّدْ بإخراجِ السكينِ وطعنِهما بها، وحينذاك قُتلَ “سخوري” وأصيبتْ الزوجةُ.
وفي طريقِ الهروبِ سقطتْ السكينُ من يدي، واختفيتُ لمدةِ خمسةِ أيامٍ متواصلةٍ داخلَ أحدِ الكهوفِ، وفي الليلةِ الخامسةِ قرّرتُ أنْ أعودَ إلى البيت، لتكونَ قواتُ الاحتلالِ لي بالمرصادِ، واعتقلتني وأنا لم أبلغُ السادسةَ عشرَ من عمري.
شهادتي بكالوريوس و ماجستير
حُكمتُ بالسَّجنِ مدى الحياةِ، بعدَ ما يقاربُ العامَ من الشبحِ والتعذيبِ المتواصلِ في أقبيةِ التحقيق، ليتمَّ بعدَ ذلك نقلي لسجن “جنيد”؛ لأموتَ وأُدفنَ كما كان يقولُ الجنودُ، وهنا كانت بدايةَ رحلتي بتحدّي السَّجان وتحويلِ سجني لجامعةٍ، ومنذُ اليومِ الأولِ عزمتُ على وضعِ خُطةٍ لي عنوانُها (اطلبْ العلمَ من السجنِ إلى الحرية)، فكانت بدايتي بتقديمِ امتحانِ شهادةِ الثانويةِ العامة، وفعلاً حصلتُ عليها بشِقيها الأدبيّ والعلميّ.
ومع إغلاقِ سجنِ “جنيد” في عام 1995م، نُقلتُ لسجنِ “نفحة الصحراوي” لأواصلَ مسيرةَ تعليمي الذاتية، ولكنْ لا بدَّ من كلمةٍ هنا، وهي أنّ مسيرةَ العلمِ والتعلُّمِ تحتاجُ لسكينةٍ وراحةِ بالٍ، وهذا بالطبعِ غيرُ متوفِّر، فالسجّانُ قد يمنعُ دخولَ الأقلامِ، ويصادرُ الكتبَ، ويحطّمُ القرطاسيةَ المتوفِّرةَ لدَى الأسرى، ولكنْ لأنكَ أسيرٌ؛ فأنتَ تكافحُ من أجلِ الحياة، والتحاقُ الأسرَى من خلفِ القضبانِ بالجامعاتِ؛ يُعَدُّ انتصارًا على السجّانِ وسياساتِه.
ومنذ تلك اللحظةِ عزمتُ على تعلُّمِ اللغةِ العبرية، فأتقنتُها خلالَ شهور، وبدأتُ أقرأ كلَّ يومٍ كتاباً في شتَّى الموضوعاتِ الدينيةِ والسياسيةِ والاقتصادية، ومن ثَمَّ أُلخِّصُ ما فيه حتى لا أنساهُ، وخلالَ تلك المرحلةِ سجلتُ بالجامعةِ العبريةِ، تخصُّصَ علومٍ سياسيةٍ وعلاقاتٍ دولية، لأُحدِثَ طفرةً نوعيةً، وأسجّلَ مساقَينِ بدلاً من مساقٍ كما جرتْ العادةُ عند الأسرى، وليزدادَ هذا التميُّزُ عندما حصلتُ عن درجةِ الامتيازِ بأحدهما، وبعد أربعِ سنواتٍ؛ حصلتُ على درجةِ البكالوريوس الأُولى.
وفي سجنِ “عسقلان” الداخلِ له حديثٌ خاص، فلم أقفْ.. بل واصلتُ المسيرَ؛ لأني مؤمنٌ أنه لاشيءَ مستحيلٌ طالَما هناك إرادةٌ قويةٌ تنبعُ بداخلي، ففي السجنِ كنتُ أُعلِّمُ أخي “إياد” ما يستصعبُ عليه من موادِ الثانويةِ العامةِ عبرَ الجوال.
وأكملتُ حياتي التعليميةَ؛ فدرستُ البكالوريوس الثانيةَ في الشؤونِ الإسرائيلية، وخلالَ تلك الفترةِ عوقبتُ بمنعِ إكمالِ تعليمي لمدةِ سنتينِ؛ بتهمةِ تهريبِ جوالٍ خلوي لداخلِ السجنِ، وبعد انقضاءِ العقوبةِ حصلتُ على درجةِ البكالوريوس الثانيةِ عام 2005م، والتحقتُ بجامعةِ القدسِ المفتوحةِ لمدةِ عامٍ؛ ممّا أغضبَ سجاني؛ فعاقبني بالنقلِ لسجنٍ ثالثٍ، لم أستسلمْ لظلمةِ السجنِ، ففي عام 2007م ركعتُ ساجدًا لله؛ بعدما حصلتُ على درجةِ “الماجستير” في النظمِ الديمقراطيةِ المتعددة، وكان عنوانُ رسالتي “الديمقراطية والإسلام” أنجزتُها خلالَ عامين.
بالعزيمةِ و اليقينِ
وإنْ سألَ أحدُكم كيف وصلتُ إلى هذا.. فستكونُ إجابتي بالعزيمةِ واليقينِ تفعلُ ما تريدُ، السجنُ قد يأسرُ جسدَكَ، ولكنْ لن يستطيعَ أنْ يقيّدَ فكرَكَ، لذلك انطلقتُ باحثاً بين ضفافِ الكتب، وأذكُر بأني كُلفتُ بإعادةِ تجليدِ جميعِ كتبِ مكتبةِ سجنِ نفحة، فما كنتُ “أُجلِّد” كتاباً إلا وأَطَّلعُ عليه وازدادُ علماً منه، فلقد كنتُ أقرأ في اليومِ ما يقاربُ 15ساعةً، أنامُ وأستيقظُ والكتابُ جليسٌ معي دوماً، واستمعتُ لجميعِ أشرطةِ الدكتور “طارق سويدان” الذي يتحدثُ عن التنميةِ، وأُخرى عن تاريخِ فلسطينَ وبلادِ الأندلس.
ومن داخلِ سجنِ “جلبوع” نشرتُ أولَ مقالٍ لي في جريدةِ القدس، وأيضاً لقد كان لي بعضُ الكتبِ منها “الأسرَى والمصيرُ المجهول” الذي يدورُ حولَ أهميةِ صفقاتِ التبادلِ عند الأسرى، وكتاب “يومياتُ أسيرٍ مُضرِب” الذي أنجزتُه خلالَ فترةِ إضرابِ الأسرى عام 2004م، والذي استمرَّ لمدة 19 يوماً، وكذلك كتابُ حياةِ الباشا، وقمتُ بعملِ عدةٍ أبحاثٍ دراسيةٍ؛ منها ما يتحدثُ عن نجاحِ الديمقراطيةِ في الأرجنتين والبرازيل، وآخِرُها عن أسبابِ فشلِ الديمقراطيةِ في إفريقيا.
قد يخطُرُ ببالِ أحدِكم سؤالٌ عن السببِ الذي دفعني للاجتهادِ في العلمِ والتعلمِ رغمَ قسوةِ السجّان، فأقولُ في أولِ أيامِ السجنِ تذكرتُ عبارةَ (اطلبْ العلمَ من المهدِ إلى اللحدِ) فاستشعرتُ بأنها موجَّهةٌ لي؛ لأني محكومٌ مدى الحياةِ، لذلك صنعتُ من السجنِ أكاديميةً وجامعةً لتعليمِ الأسرى الفلسطينيين، ضارباً أنموذجاً في تحدّي ظلمةِ السجنِ وسجّانيه، لأتحولَ إلى شعلةٍ من العطاءِ والمثابرة، فلقد قرأتُ خلالَ سنواتِ الأَسر لـ19 عاماً ما يقاربُ ستةَ آلافِ كتابٍ، فكنتُ مُحِبّاً للكتبِ الفقهيةِ، وأيضاً التي تتحدثُ عن الديمقراطيةِ والإسلام، وتعلمتُ أربعَ لغاتٍ “العبرية والفرنسية والروسية والانجليزية”.
اليومَ وعلى أعتابِ السابعةِ والثلاثين، وبعدَ أنْ أكرمني اللهُ بالحريةِ؛ خرجتُ لإكمالِ مسيرتي التعليمةِ، فأنا أعملُ الآن بنظامِ الساعاتِ في جامعةِ الأُمة، ومحاضراً باللغةِ العبريةِ في التعليمِ المستمرِّ بالجامعةِ الإسلامية، ولقد نشرتُ عدّةَ مقالاتٍ في الصحفِ الفلسطينية، وأُعِدَ الخُطةَ لدراسةِ الدكتوراه.
النجاحُ لا تُقيِّدُه القيودُ، وهذا ما أثبتَه الأسرَى الفلسطينيونَ بقليلٍ من الورقِ والأقلامِ وبعضِ الكتبِ المُهرّبةِ،لقد بدَّدوا ظُلمةَ السجونِ بنورِ العلمِ، وجعلوا منها أكاديميةً تعليميةً تتحدّى سياسةَ التجهيلِ والإفراغِ الثقافيّ التي تمارسُها سلطةُ السجون.