العزلُ الانفرادي “الموتُ البطيء”

الثريا: خاص
العزلُ الانفرادي أو الموتُ البطيء، وجهان لعملةٍ واحدة؛ يستخدمُها الاحتلالُ ضد الأسرى القابعين خلف سجونِ الظلمِ والقهر، خَطُّوا لهم الموتَ بشتّى صنوفِ العذابِ التي يستخدمونها للنيلِ من عزيمتهم، لتبقى صرخاتُهم المختنقةُ خلف تلك الأسوارِ الحاقدةِ، التي تغتصبُ أرضَ فلسطين، وضعوهم في مساحاتٍ لا تتجاوزُ المترَ أو أقلَّ، فقد مسحتْ قسوةُ تلك الأيامِ لونَ الشمسِ الذهبيةِ من ذاكرتهم، وملمحَ القمرِ الدائري وسطَ ظلمةِ الليل، ولم يَعدْ لصوتِ العصافير مكانٌ في الذاكرةِ؛ التي عجّتْ بتفاصيلِ التفتيشِ الليلي العاري، ووجَهُ المحقِّقِ الذي لم يتوانَ عن إذلالِهم للحظة، فيضربُ ويقمعُ، ويكسرُ كذلك، ومن تلك السياساتِ التي كان يستخدمُها المحتلُّ لكسرِ إرادةِ الأسرى العزلَ الانفرادي، ولم تأتِ تلك السياساتُ التدميريةُ جزافاً، بل يستعينُ الاحتلالُ بخبراءَ ومختصينَ في الهندسة البشريةِ؛ للبحثِ عن أساليبَ لتدميرِ الروحِ المعنويةِ للأسرى من خلالِ سياسةِ العزل.
وِفقَ دراسةٍ أعدّها الأسيرُ المحرَّرُ، والمختصُّ بشؤونِ الأسرى “فؤاد الخفش” بعنوانِ أسرى العزل .. أسلوبٌ ممنهجٌ للموتِ البطيء، نَصِفُ حالَ الأسرى داخلَ زنازينِ العزلِ الانفرادي؛ ليرى العالمُ جبروتَ الاحتلالِ؛ الذي استباحَ أرضَ فلسطينَ، ودمّرَ فيها الشجرَ والحجرَ، وأسَرَ وقتلَ البشر .
وعودةً إلى العزلِ؛ فهو عقوبةٌ تفرضُها إدارةُ سجونِ الاحتلالِ؛ إمعاناً في إذلالِ السجينِ، ومحاولةً لكسرِ إرادتِه وتحطيمِ نفسيته، حيثُ يعيشُ معزولاً عن العالمِ الخارجي، لا يستطيعُ الاتصالَ مع أيِّ إنسانٍ كان؛ سِوى السجّان، وهو شبيهٌ بعقوبةِ السَّجنِ الإداري، حيثُ يقضي الأسيرُ المعزولُ سنواتٍ عديدةً من عمرِه؛ دونَ أنْ يدري متى يخرُجُ؟
إمعانٌ في التعذيبِ:
ولا تتوقفُ ممارساتُ الاحتلالِ عن استخدامِ كلِّ الوسائلِ في انتهاكِ إنسانيتِهم، وحرمانِهم من أدنَى حقوقِهم؛ التي كفلتْها لهم كلُّ القوانينِ والشرائعِ والأعراف، ومن ألوانِ هذه المعاناةِ، وهي تستخدمُ العزلَ المباشرَ بعدَ انتهاءِ مرحلةِ التحقيقِ؛ دونَ الدخولِ إلى أقسامِ السجنِ العادية، والإقامةِ مع المساجينَ الجنائيينَ، حيثُ رفعُ أصواتِ المسجّلات ليلاً ونهاراً، والصراخُ المُستمرُ الذي يرهِقُ الأسرى، وتدهورُ حالةِ الأسرى الصحيةِ، وتركُهم دونَ علاجٍ، ودون اكتراثِ مصلحةِ السجونِ لهم، والمداهماتُ الليليةُ، وحملاتُ التفتيشِ؛ التي تبثُّ فيهم الرعبَّ والذُّعر، واستخدامُ العنفِ المفرِطِ ضدّ الأسرى، ومنعُهم من مواصلةِ التعليم، واستهدافُ قادةِ الحركةِ الأسيرةِ وعزلُها، وتحديدُ وقتِ طلبِ الماءِ، وإعاقةُ زياراتِ المحامين، واستخدامُ العزلِ ضدَّ الأسيراتِ.
كذلك مدّةُ الخروجِ إلى الساحةِ ( ما يسمّى بالفورة ) لا تزيدُ عن ساعةٍ يومياً،ً وهذه مدّةٌ ليست كافيةً.
ومعظمُ الأسرى المعزولينَ ممنوعونَ من زيارةِ عائلاتِهم، ما يؤدّي إلى زيادةِ حجمِ المعاناةِ النفسيةِ لكلٍّ من الأسيرِ وعائلته، عِلماً أنّ الأسيرَ يعاني من نقصٍ في حاجياتِه الأساسيةِ، وعدمِ القدرةِ على إدخالِ تلك الحاجياتِ عن طريقِ العائلة، وفي الآوِنةِ الأخيرةِ؛ منعتْ إدارةُ السجونِ نقلَ الأغراضِ بين زنزانةِ أسيرٍ معزولٍ وآخَرَ منعاً باتّاً، الأمرُ الذي أدّى إلى تفاقُم معاناتِهم، حيثُ يتمُ عزلُ بعضِ الأسرى من الأقسامِ العاديةِ، أو من التحقيقِ مباشرةً، دونَ أنْ يكونَ معهم احتياجاتُهم الأساسية، ودونَ أنْ يكونَ لديهم مالٌ على حساباتِهم.
وتصلُ المعاناةُ إلى استخدامِ عقوبةِ “السنوك” وهو عبارةٌ عن غرفةٍ صغيرةٍ جداً؛ طولُها 180سم وعرضها150 سم، وبالكادِ تكفي للنوم، ولا يوجدُ فيها متّسعٌ للصلاة، كما أنها لا تحتوي إلا على الفرشةِ وقارورتينِ؛ إحداهما لشُربِ الماءِ، والأُخرى للاستنجاءِ من البولِ، والخروجُ للغائطِ مسموحٌ به مرةً واحدةً في اليوم، ما يجعلُ الأسيرَ يقتصدُ في الأكلِ؛ كي لا يحتاجَ للخروجِ لقضاءِ حاجتِه.
وأمّا عن نوعيةِ الطعامِ في غرفِ العزلِ؛ فحدِّثْ ولا حرجَ، فهي متردّيةٌ إلى حدٍّ بعيد، لذلك يعتمدُ الأسيرُ في معظم الأحيانِ على بقّالةِ السجنِ (ما يسمّى الكنتين) لشراءِ وطبخِ الطعام، مما يُثقِلُ كاهلَ الأسيرِ وعائلته مالياً. وتزدادُ المعاناةُ في غرفِ العزلِ؛ بقِلّةِ التهويةِ، والرطوبةِ العالية، حيثُ يوجدُ في زنزانةِ العزلِ شباكٌ واحدٌ صغيرٌ ومرتفعٌ وقريبٌ من السقف، بينما بابُ الزنزانةِ لا يوجدُ فيه سِوى شباكٍ صغيرٍ مساحته 8 سم.
وهناك محكمةٌ صوريةٌ يُعرضُ عليها الأسيرُ كلَّ ستةِ شهور؛ إذا كان العزلُ انفرادياً(أي شخصٌ واحدٌ في الزنزانة) أو كلَّ سنةٍ؛ إذا كان العزلُ مزدوجاً( أي شخصان في الزنزانة)، وهذه المحكمةُ تأتمرُ بأمرِ مخابراتِ الاحتلالِ، أو ما يسمّى” الشاباك” ومصلحةِ السجونِ، أو ما يسمّى ” الشاباص”، وتفتقرُ لأدنَى صوَرِ ومقوّماتِ العدالة.
وصفُ الزنزانة:
تبلغُ مساحةُ الزنزانة 2.7م مربع، وتشملُ الحمّامَ ودورةَ المياه، ولا يوجدُ مكانٌ أو متّسعٌ للمشي، وحتى لا يوجدُ متّسعٌ لأغراضِ الأسيرِ وحاجياته، وقد تتضاعفُ المأساةُ إذا كان هناك أسيرانِ في الزنزانة، ما يتسبّبُ في انتشارِ الأمراضِ، وبالذاتِ أمراضِ الجهازِ التنفسي.
كما حدثَ مع الأسيرِ المقدسي “جهاد يغمور” والذي يعاني من التهابٍ رئويّ حادٍّ، وإذا أرادَ أحدٌ تصوُّرَ حجمِ المعاناة، فما عليهِ إلاّ أنْ يتخيّلَ أنّ الأسيرَ في هذه الزنزانةِ الضيقةِ؛ يطبخُ ويستحِمُّ ويقضي حاجتَه، ما يجعلُ الزنزانةَ ممتلئةً بأبخرةِ الطعامِ عند الطبخِ، وبخارِ الماءِ عند الاستحمامِ، وروائحِ قضاءِ الحاجة.
والأمرُ الذي يزيدُ معاناةَ الأسرى، ويلوِّعُ قلوبَهم ؛عند وصولِ خبرٍ للأسيرِ؛ أنه قد توفي قريبٌ له، فتنفطرُ قلوبُهم، وتزدادُ أوجاعُهم، لكنّ الأسرى ليسوا أناساً عاديين، بل هم مميَّزونَ بصبرِهم وثباتِهم، وهم أصحابُ فكرةٍ وهدف، واستذكارُ هذا الهدفِ يخفّفُ عليهم ما هم فيه من المعاناة، فالمعزولُ يشغلُ وقتَه بقراءةِ القرآنِ، وفي الذّكرِ والتسبيح، فيشعرُ الأسرى بالسكينةِ والطمأنينة، و يصبحون أكثرَ قدرةً على التحمُّلِ لكلِّ ما يتعرّضون له.
وبعدَ خوضِ الأسرى معركةَ الأمعاءِ الخاوية، وانتصارِهم فيها على سياساتِ الاحتلالِ الظالمة، فقد منَّ اللهُ على بعضِ الأسرى المعزولينَ بالفرجِ إلى الأقسامِ العادية، واستقبلَهم الأسرى بفرحٍ شديدٍ، ولكنْ لا يزالُ منهم من يَقبعُ في زنازينِ العزلِ الانفرادي.