آباء يطردون أبنائهم ويعلنون أنتم لستم أبنائنا

تقرير : محمود عبد الكريم هنية .
صمت مهيب في مكان آخذة أجوائه في الهدوء على غير العادة ، ووسط حشد لفيف من كبراء الحي و عدد من الجيران جمعوا على أثر الصراخ والعويل ، و في تلك الزاوية الغربية من ذاك المكان المظلم التي تشخص أمامها الأبصار متقدة النظر نحوها ، حيث يجلس “أبو حسن” الرجل كسا الشيب شعر جسده ، ورسمت التجاعيد على وجهه خرائط تستدل عليها موطن الفقر والجوع والحرمان وعراك السنين ، كان يجلس على ذاك الجانب يحبس الدمع في عينيه التي تتطاير فيها الشرر ويضع أحدى كفيه على الأخرى ، وتجلس من حوله تلك العجوز المسنة تضع شالتها على وجهها ، لتخفي من ورائه صوت أنين ٍلطالما اعتادت أحبال حنجرتها عليه حتى باتت أعزوفة الحزن تتغنى بها أوجاعاً وآلاما ، تحاول أن تواري بها دموع الحسرة والألم التي شقت على وجنتيها أخاديد وخنادق تتلمس فيها معالم نكبة ونكسة هجرت من تربها طيور الرحمة وسكائن السريرة .
هدوء استثنائي لم يلبث طويلاً فسرعان ما دوى ذاك الصوت المرعد كأنه الرعد في ليلة هادرة تسلب القلوب معاني السكون ” الولد مش راضي يفهمني بدو يجنني ” كانت تلك الكلمات الأولى التي ينطق بها أبو حسن بعد كثير من الإلحاح من جاره أبو محمد حول سبب ما جرى، فسرعان ما تنسمت من وسط تلك الرعود تلك السحابة الهادئة لتمطر بكثير من الدموع على وجهها . ” وحد ربك يا أبو حسن هو ايش إلي صار ابنك حسن حبيبك بحبك وبخاف منك ، يا رجال الولد راح يضيع منا يا ناس راح يضيع ابني مني “، كانت تلك الكلمات البسيطة كافية لان تذرف الدموع من مقلتين أبا حسن فيخفض صوته المشحوب بالشحنات الكبيرة فتمطر مقلتيه بالبكاء ” شو أسوي يا ناس ؟”.
باختصار كانت تلك هي اللمحات الأخيرة في الليلة الأخيرة التي حسمت أيام عجاف سبقتها من نقاشات عقيمة لا تحمل في طياتها سوى الارتفاع في الصوت وعقوق وتحجر في المواقف ، حتى جائت هذه الليلة التي لم يعد لحسن فرصة فيها ليبلل وسادته التي اعتادت على دموع آخر الليل بعد نهار طويل يحاول عبثا أن يقضيه خارج البيت ويأتي متأخرا يحاول أن يفلت من عتابات اعتاد عليها في كل ليلة ، حتى قررا الأب والابن معا في نقاش مرعد ، وفي ليلة ظلماء لم ينور فيها بدر الحكمة والتعقل أن تكون اللحظة التي تعلن فيها حالة الخصومة ليرتع شيطان الفرقة بينهما.
على شاطئ البحر وأمام تلك الأمواج المتلاطمة التي تذكر حسن بتلك الأمواج التي لطمت بأهازيج حسن واحلامه ، وأغرقته دواماتها في بحر التيه والحيرة ، وأمام ريح عاصفة كتلك التي عصفت بعلاقته مع والده وقف حسن تصرخ أنفاسه بالكثير من الهموم تكابد الجوزاء في وجدانه ، يتساءل بحيرة كبيرة عن تلك الأسباب التي دفعت العلاقة مع والده للتدهور الشديد ، وفي عصف ذهني كبير قلعت خيام الماضي واستوحت على كثير من النسيان في عقله ، قرر حسن الاتصال بصديقه الاستثنائي حسان ،لا يدري لماذا حسان بالضبط لكن على ما يبدوا أراد حسن أن يستأنس بحكمة صديقه التي يعرفها جيدا ، وكأن في خلجات صدره صدى لذنب يشعر فيه ويريد من يصدقه الحديث .
“لا اشعر بأنك ابني”
الشكل والملبس والجلوس على الانترنت لساعات طويلة وبطالة الابن التي فرضت عليه في وقائع الحصار ، وفهم متطلبات الحياة واختيار التخصصات الذاتية كل هذه هي من جملة الأشياء التي كان يختلف حسن مع أبيه فيها ، حيث يقول حسن ” الكثير من الأشياء بل كل شئ بدنا نختلف فيه ، تخصصي الجامعي طريقة شكلي ملبسي مأكلي علاقاتي الاجتماعية صداقتي كل شئ أشعر بأنه يولد خلافاً بيننا ، ينتهي بالصوت المرتفع ويقر حسن بعقوقه في هذه المسألة “.
ويضيف حسن ” لم اشعر لحظة بأنها توجد أي قناة من قنوات الحوار بيننا حتى بات والدي لا يطيق رؤيتي على سفرة الطعام وأن أراد شئ يقولها لي عبر والدتي بصوت مرتفع لأسمعه ، في آخر مرة قال لي لا اشعر بأنك ولدي كما يقول حسن “.
هل حقاً هذه طبيعة الحياة بين حسن وأبيه حاول حسان أن يستفهم طبيعة هذه المشكلة ؟فتواصل مع والدة حسن لتقول له ” بأنها لم تشعر في لحظة بأن العلاقة بين زوجها وأبنها فيها أي شئ من الرحمة والود فكل قنوات الحوار مغلقة حتى شبهتها بعلاقة ” حماس وفتح ” ! وتعتقد أن السبب المباشر لكل تلك الخلافات هي الضائقة المالية لزوجها وتهور ولدها في شكل حياته وهو ما يرمي بظلاله على تلك العلاقة .
وتعزو الحاجة أم حسن الخلل لزوجها لأنه كما تقول لم ينتهج النهج الصحيح في طريقة تعامله مع أخطاء ولده وطريقة تصحيحها ولكنه دائماَ يميل لتعنيف ابنه وبات “يستسهل عملية طرد ولده من المنزل “.
“همسة عتاب ونصيحة محب”
يحاول الدكتور درداح الشاعر أستاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة الأقصى تشخيص هذه الظاهرة التي باتت منتشرة لدى كثير من العوائل غير المستقرة والتي بات كثير من ابنائها في براثين التيه والتشرد بعد طردهم من البيوت ، حيث يقول: من أخطر المراحل العمرية التي يمر بها الشباب هي مرحلة المراهقة حيث يرتبك فيها سلوكهم ويبدوا غير سوى يحاولون ان يعبروا عن مشاعرهم وافكارهم ورغباتهم فيها بسلوك وطريقة تبدوا مريبة وغير منظمة ، ولكنها هذه المرحلة وبكل ما تحمل من خطورة هي بحاجة الى فهم عميق من الاباء وصبر طويل وحسن تقدير لحل المشكلات التي يمر بها ابنائهم فيها “.
ويعتقد الدكتور الشاعر ان الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها الفلسطينيون في القطاع تفرض نفسها على طبيعة العلاقة بين كثير من الاباء وابناءهم بشكل سلبي ولكنه يشير لضرورة الانتباه من قبل الاباء والحرص على ابنائهم سيما انه لا يوجد لدى الابناء الكثير من الفرص في ظل البطالة المنتشرة “.
وقد ناشد الشاعر الشباب الى ضرورة البحث الحثيث عن فرص عمل والعمل على تأسيس اعمال صغيرة بمساندة الاباء ، وضرورة حث الحكومة والعمل المؤسساتي على تعزيز الفرص والمشاريع الصغيرة والعمل على دعمها “.
وقد شدد الشاعر على خطورة طرد الآباء لأبنائهم مما من شانه ان يساهم في انحرافهم ووقوعهم في الخطر والمحظورات وتعاطي المخدرات وغيرها من الجرائم المحتملة “
واوفد بالنصيحة للشباب بالقول ” عليكم بطاعة ابائكم والحرص على شكل حياة تطور من وجودكم وتجعل من حياتكم معنى وهدف ، وللآباء الكرام ابنائكم امانة في اعناقكم وكثيرة التحديات التي يواجهونها وذلك كفيل بدعمهم وتعزيزهم ، داعياً الاباء الكرام لفتح قنوات الحوار والتواصي بالكلمة الطيبة ومحاولة مصادقة ابنائهم كأصدقاء فذلك كله من شأنه أن يحسم الخلافات ويزيل المشكلات في الاسرة.
لقد عاد حسن لأحضان غالية لطالما خافت عليه وبكت عليه الليالي الطوال حتى بات وجهها شاحب اللون فقد عز عليها الطعام والشراب لحين عودة فلذة كبدها ، عاد أيضاً لأحضان غال يعرف جيدا بأنه يحبه وحريص عليه مرتمياً بين قدميه ليأذنا ايضا بعهد جديد لا فرصة فيه لشيطان الفرقة بينهما عل الاباء يظفرون بنموذج فيه العبرة والعظة.