في غزة تناقضات مجتمعة

بقلم : محمود هنية
عادتْ “نور” من مدرستِها على غيرِ عادتِها ؛وكادت أنْ تطيرَ من الفرح، معالِمُ السعادةِ غمَرتْ كلَّ شيءٍ فيها، وأصبحتْ تناغِمُ الحياةَ بصوتِها، وهي تُدندِنُ” لَمّا نستشهد بنروحِ الجنة”، تراقصتْ عليها وفرحتْ، ولم تَعلمْ مناسبتَها للحدثِ!
جاء جَدُّها على عجلٍ ؛بعد يومٍ شاقٍّ ومتعِبٍ تحت وقعِ شمسٍ حارقة، أحرقتْ سِنيَّ عمُرِه وهدوءَ كِبَرِه، كتلكَ التي خطفتْ سِنيَّ عمُرِه الأولى، واغتالتْ لحظاتِ براءتِه؛ يومَ زحفَ مع أهلِه تحتَ وقْعِ حرِّها قبلَ عقودٍ مضتْ أثناءَ نكبةِ عامِ 1948.
قفزتْ سريعاً إلى حِضنِه الممتلئِ بالترابِ؛ جرّاءَ عملِه في السوق، حاوَلَ أنْ يُبعدَها بلُطفٍ؛ دونَ أنْ يؤذيَها برائحةِ البصلِ والثوم، التي تملأُ ثيابَه، غيرَ أنها أصرّتْ على احتضانِه وتقبيلِه، وأولُ شيءٍ بدأتْ به ” سيدو اليوم عيد ميلادي جِبلي كيكة”.
ضحكَ جدُّها فرحاً، ولكنه بدأ يصارعُ حزناً دفيناً في قلبِه، ذكّرتْهُ بولدِه “حسام” الذي اغتالتْهُ قواتُ الاحتلالِ، صباحَ يومٍ كالحٍ في شهرِ رمضان، حينما هم باقتطاف شئ من ثمار أرضه ليبيعها في السوق، لتقتطفه رصاصات المحتل وتختطفه من بين أحبته وأهله.
الشاب المهذب حسام الذي رفض الفقر والجوع وتحدى الاحتلال والعدوان، وتقدم لزراعه أرضه الحدودية، برغم المخاطر المحدقة ونيران الاحتلال، حاول والده ان يمنعه خوفاً عليه، ولكنه دائماً ما كان يصده بالقول ” سنزرع أرضنا ونرويها إما بالماء أو الدم”.
لقد رحلَ “حسام” وكبرتْ ابنتُه “نور” بحُلمِها وطفولتِها، وبدأ جدُّها يواري فَقرَه وحاجتَه أمامها، ونذرَ أنْ يقدّمَ لها كلَّ ما يستطيعُ، فكلّما تقادَمتْ به سُنونِ العمرِ، يزدادُ خوفاً على محبوبتِه أنْ يتلبّسَها ثوبُ اليُتمِ بالكاملِ، فتصبحُ يتيمةَ الأهلِ، ومكشوفةَ الظهر.
ذهبَ ليَسرَحَ بعيداً كيف يمكنُ أنْ يشتريَ لحفيدتِه “كيكة” الميلادِ؛ كي تحتفلَ مع أصدقائها الأطفالِ في روضتِها، مع ذلك تعهّدَ لجَدّتِها أنْ يعملَ لها عيدَ ميلادٍ؛ لم يُعملْ لأحدٍ غيرَها من قبلُ، ليعوِّضَها شيئاً من حنانِ أبيها، وبدأ في ذِكرِ ما سيفعلُه لحفيدتِه.
وعلى وقْعِ الحديثِ، توقّفَ الحاج “أبو حسام” على اتّصالٍ جاءَه على عجَلٍ؛ يا حاج قصفٌ في المنطقةِ الشرقيةِ أحرقَ نيالوناتِ البصل، بدأ “أبو حسام” وكما يقولُ المَثلُ ” يجري وما يدري”.
قرّرتْ الجدّةُ أنْ تلحقَ بزوجِها، وتحت إصرارِ “نور” ذهبتْ مع جدّتِها، وجَدَتْهُ جالساً واضعاَ الكفَّ على خدِّه مُحتاراً وباكياً، فتلك مشاهدُ رآها من قبلُ في طفولتِه؛ حينما أحتلَّ اليهودُ أرضَهم في المجدلِ، وذهبَ بعيداً يتذكّرُ الماضي البعيدَ القريبَ، وما يفعلُه المحتلُّ دوماً بهم.
نظرَ الجدُّ لحفيدتِه، وبدأ يزاحمُ الألمَ بابتسامةٍ مصطنَعةٍ، يحاولُ أنْ يداعبَها برغمِ الجرحِ “ما تخافي يا سيدي بدّي أعملّك عيد ميلاد”، سكتتْ “نور” هنيهةً، لتُلخِصَ معجزةَ الطفولة “بِدنا نصلح الأرض بحقّ الكيكة، وراح نعمل عيد الميلاد عند بابا بالجنة”.
عادوا إلى البيتِ ومع اقترابِ غروبِ شمسِ ذاك اليوم، تتابعتْ خطواتُ “نور” إلى فناءِ منزلِها ؛حيثُ يجلسُ جدُّها يحتسي كوباً من الشاي، رقدتْ في حِضنِ جدِّها أو على “كرسيِّ العرش” كما تصِفُه جدّتُها، ووسطَ ترحابِ جدِّها بها قاطعتْهُ قائلةً “سيدو همّا ليش اليهود قصفوا أرضنا اليوم؟ مش بكفّي قصفوا أرضنا بالمجدل زمان؟!”، لم يستغربْ جدُّها من سؤالها كما أنت،” فنور” مشهودٌ لها بذكائها وذاكرتِها المنتعِشة، حيثُ أنها لم تنسَ حكاياتِ جدِّها لها عن الهجرةِ، وما تحملُها من تفاصيلَ مؤلمةٍ، ردَّ عليها “همّا يا سيدو اليهود هادا طبعُهم، أنهم يقتلونا وين ما كنا، بس إحنا بعونِ الله راح نطلِّعهم يا سيدو من أرضنا”، قاطعتْهُ وقد ارتسمتْ على وجهِها ملامحُ الفرح: “يعني راح نرجع ع بيتنا بالمجدل إلِّى حواليه شجر العنب ؟” “إنْ شاء الله يا سيدو راح نرجع؛ وأزرع أنا وأنتِ العنب إلّي بتحبّيه وناكل منه” يقولُ جدُّها، كانت هذه اللحظاتُ كفيلةً بإشعالِ الحنينِ في قلبِه الذي أحاطَه سربٌ من الطمأنينةِ، بأنّ “نور” ما زالت تذكُرُ أدقَّ تفاصيلِ ما كان يرويهِ لها، بعد أنْ راجَعا سوياً بعضَ حكايا الهجرةِ.