ضبطُ المسافات ـ من كتابات د. عبدالكريم بكار

إعداد_ إسراء سعيد أبوزايدة
كانت المشكلةُ التي تواجِهُ الإنسانَ على مدارِ التاريخِ؛ هي تحديدُ نوعيةِ العلاقةِ التي يجبُ أنْ تربطَه بالخالقِ – تعالى – و بالزمانِ والمكانِ والناسِ والأشياءِ من حولِه، وسيكونُ من المؤسفِ أنْ نقولَ: إنّ النجاحَ في هذا الشأنِ؛ لا يكادُ يُذكرُ إذا ما قارنّاهُ بالإخفاقِ، وهذا يعودُ إلى أنّ الناسَ حينَ يريدونَ ضبطَ المسافاتِ الفاصلةِ بينهم وبين ما أشَرنا إليه؛ لا يرَونَ إلاّ جُزءاً من الحقيقةِ، كما أنّ عواطفَهم تسيطرُ عليهم، فتُشَوِّشُ على رؤاهُم، وتشوِّهُها، ومن هنا كان الذين يتّصفونَ بدرجةٍ عاليةٍ من العدلِ والإنصافِ قليلينَ للغايةِ، ولعلِّي أورِدُ هنا مثالَينِ على مسألةِ ضبطِ المسافاتِ؛ حتى يتّضِحَ المُرادُ:
1- الموقفُ من الحكومات:
لا يرتاحُ الناسُ _في العادة_ لوجودِ أيِّ سلطةٍ ضاغطةٍ في أيِّ مجالٍ من المجالات، ولهذا فإنّ معظمَ الناسِ يُضمِرونَ درجةً من العداءِ للحكوماتِ، لكنّ هذا لا يضرُّ ما لم يتجسَّدْ في قولٍ أو فعلٍ، وإذا تأمّلنا في حالِ المثقفينَ؛ بوصفِهم كائناتٍ واعيةً لِما تقولُ ولِما تفعلُ؛ فإننا نجدُ أنّ كثيرينَ منهم لم يستطيعوا ضبطَ المسافةِ التي يجبُ أنْ تفصلَهم عن حكوماتِ بلدانِهم؛ فهناك مَن مالَ إلى (المعارَضة) وهمُّهُم هو التشهِيرُ بأخطاءِ الحكومةِ، وكبارِ المسئولين، وإذا أَنجزَ بعضُ هؤلاءِ شيئاً جيداً؛ فإنهم يتجاهلونَه تماماً، وإذا ذَكروه، فإنهم يذكرونه على أنه من واجباتِهم ولا فضلَ لهم في ذلك. ومن المثقّفينَ مَن جعلَ من نفسِه بوقاًً ليس له عملٌ؛ سِوى الإشادةِ والتبريرِ لِما تفعلُه حكومتُه، والمُشكِلُ الذي يقعُ فيه هؤلاءِ؛ يتجلّى حينَ تكونُ الحكومةُ _التي تماهوا معها تماهياً كاملاً_ مزاجيةً أو فيها عناصرُ فاسدةٌ على نحوٍ صارخٍ. إنّ المثقَّفَ يظهرُ في هذه الحالةِ، وكأنه يوبِّخُ نفسَه، أو يظهرُ وكأنه يُقادُ عِوضاً عن أنْ يقودَ!
إنّ القيامَ للهِ – تعالى – بالحقِّ والقسطِ يتطلبُ تشجيعَ الأعمالِ الخيِّرةِ والثناءَ عليها؛ مَهما كانت علاقتُنا سيئةً بالقائمينَ عليها، كما أنّ من مستحقَّاتِ الريادةِ الثقافيةِ؛ أنْ ينقُدَ المثقفُ ما يراهُ من اعوجاجٍ وخلَلٍ؛ مَهما كانت علاقتُه جيدةً بمَن تسبَّبَ في ذلك الاعوجاجِ، لكنّ القيامَ بهذا الدورِ؛ يصبحُ غيرَ ممكنٍ، حين يجعلُ المثقفُ لسانَه أو سِنَّ قلمِه هو مَوردُ رزقِه، وإنّ ممّا يُجهدُ كلَّ جهودِ المثقفِ، وكلَّ إشراقاتِه الذهنيةِ؛ أنْ يعتقدَ الناسُ أنّ ما يقولُه مُجيَّرٌ لمصلحةِ جهةٍ من الجهاتِ.
2- الموقفُ من التراث:
التراثُ هو ما بسطَهُ العلماءُ والمثقفونَ من آراءٍ وأقوالٍ واجتهاداتٍ؛ قبلَ ما يزيدُ على مئةِ سنةٍ من الآن، ويظلُّ ارتباطُ الأممِ بتراثِها شيئاً لا بدّ منه، مَهما كانت المكانةُ العالميةُ لذلك التراثِ، ومعظمُ المثقفينَ ينقسمونَ كذلك إلى قِسمين: قِسمٌ ينظرُ إلى تراثِ الأُمةِ نظرةَ احترامٍ؛ يصلُ إلى حدِّ التقديسِ وحدِّ التعامل معه، وكأنه من إنتاجِ معصومينَ أو أشخاصٍ كاملين! وقِسمٌ ينظرُ إلى التراثِ باستخفافٍ، وكأنّ مَن أنتَجه؛ لم يكنْ لهم أيُّ درايةٍ جيدةٍ بالقضايا والموضوعاتِ التي عالجوها.
في البدايةِ؛ لابدَّ أنْ أُشيرَ إلى أنّ الكتابَ والسُّنةَ؛ ليسا من التراث؛ لأنهما ليسا من إنجازِ البشرِ، مع أنّ كثيراً من مفرداتِ تراثِنا ومعطياتِه؛ كانت تدورُ في فلَكِ الكتابِ والسُّنة، وكانت بسببِ التفاعلِ مع ثوابتِ الإسلامِ وأُطُرِه العامة. الذين يقدِّسونَ التراثَ؛ ينسونَ أنّ اجتهادَهم سيكونُ في نظرِ الأجيالِ القادمةِ عبارةٌ عن إرثٍ ثقافيٍّ، فهل يُطلبُ من تلكَ الأجيالِ أنْ تقدِّسَ آراءَنا وأحكامَنا، ونحن نشعرُ أنها قابلةٌ للنقدِ والردِّ؟! بل إننا اليومَ نرُدُّ على بعضِنا، ونعتقدُ أنّ كثيراً من رؤانا يفتقرُ إلى المزيدِ من النضجِ والوضوحِ، والسابقون ردُّوا على بعضِهم، وفنَّدوا كثيراً من الأقوالِ التي نعُدُّها اليومَ تراثيةً.
كذلك اليومَ من يقفُ موقفاً معادياً للتراثِ، فهم يعملونَ بجِدٍّ على النبشِ في (مزابلِ التاريخ) ليستخرجوا منها هفواتِ العلماءِ وآراءَهم واجتهادَهم الفجِّ والبعيدِ جداً من روحِ الشريعةِ، ومن متطلباتِ الحضارةِ، وينسى هؤلاءِ أنّ لدَى أُمّةِ الإسلامِ منهجاً ربّانياً معصوماً، كان على مدارِ التاريخِ محوراً لمقارباتِ أهلِ العلمِ لمختلفِ القضايا الحضاريةِ، كما أنّ المسلمين حكَموا مساحاتٍ واسعةً من الأرض، ولهذا فإنّ لديهم نظُماً دستوريةً، و قضائيةً، كما أنّ لَديهم تجرِبةً ضخمةً في السياسةِ وقيادةِ الأُمم، وهذا كلُّه يجعلُ التراثَ مملوءاً بالأشياءِ العظيمةِ والفذَّة.
إنّ ضبطَ المسافاتِ على نحوٍ جيدٍ؛ يعني أننا قادرونَ على فصلِ ذواتِنا عن الموضوعاتِ التي نعالجُها، كما يعني أننا نحاولُ رؤيةَ الصورةِ من كلِّ جوانبِها وزواياها، وهذه المحاولةُ-وإنْ كانت لا تكتملُ أبداً- إلاً أنها تظلُّ مطلوبةً دائماً؛ ولا يكلِّفُ اللهُ – تعالى – نفساً إلاّ وُسْعَها.
المصدر: من كتابات عبد الكريم بكار