تناقض توجيهات الوالدين خطر ينذر بالعقوق ويهدد أركان الأسرة

تحقيق: أنوار هنية
الأم:” افعل كذا”، الأب:” ألم أقل لك ألا تفعل؟”، نقيضان لموقف يحكمه الأب والأم، والابن يقف حائراً والعديد من التساؤلات تدور في ذهنه، أي كلام ينفذ؟، وأيهما خطأ وأيهما صواب؟ فيضطر أن يرفض كلا الأمرين ولا ينفذ أياً منهما، أو يضطر لأن يستمع لكلام الأقوى حتى يتجنب العقوبة.
“الازدواجية في التربية”، ناقوس الخطر الذي يطرق أبواب التربية الأسرية، فما المقصود بازدواجية التربية؟ وما أسبابها؟ وكيف يمكن حل خلاف التناقض في التربية بين الأجيال؟
“فدوى أبو زنادة”؛ مُدرِّسة تقول لـ “الثريا” :”كثير من الآباء والأمهات لا يلتفتون إلى تصرفاتهم، وذلك نلاحظه في حياتنا اليومية من تعامل بعض الآباء والأمهات مع أبنائهم، فعندما يتلفظ الطفل- في بداية كلامه- بكلمات خارجة عن حدود الأدب، يضحك له الوالدان ويبديان إعجابهما، بينما لو كان الطفل يقول تلك الكلمات أمام الضيوف فيجد أنواع العقاب النفسي والبدني، كذلك الأمر في باقي التصرفات الأخرى، يختلف تعاملهما معه إذا كانوا لوحدهما عنه إذا ما كانوا في زيارة أو بوجود الضيوف”.
“أنور البرعاوي”؛ الخبير النفسي يعقب قائلاً: “إن ذلك أخطر ما يتعرض له الأبناء، وهو دليل جهل وسوء تفكير، ويكون له نتائج مدمرة لشخصية الطفل، ومستقبل الترابط الأسري، وعلى الوالدين فورا إيجاد السبل التي من شأنها حماية الأبناء من التشتت الفكري والنفسي؛ لأن الطفل يصبح في حيرة من أمره لا يعرف هل هو صح أم خطأ؟، فمرة يثيبانه على السلوك وأخرى يعاقبانه على نفس السلوك، وغالبا ما يترتب على اتباع تلك الأساليب شخصية متقلبة مزدوجة في التعامل مع الآخرين، لا تميز بين الخطأ والصواب والحلال والحرام”.
افعل ولا تفعل!!
وتتحدث “سمر الرملاوي”؛ مدرسة عن تجربتها فتقول لـ “الثريا”: “يحدث ذلك أحيانا دون قصد، فحصل أن أخذ طفلي الكبير لعبة أخيه الأصغر، فضربه الصغير واستعاد لعبته، فأثنيت عليه؛ لأنه أخذ حقه ولم يتنازل عنه، بينما زجره والده؛ لأنه لم يحترم أخاه الكبير مستخدما الضرب والشتم، فوالده اعترض على أسلوبه في استعادة حقه، كما أنه زجر الابن الأكبر؛ لأنه أخذ شيئا ليس من حقه.
ويقول “البرعاوي”: “ليس هكذا تورد الإبل كما يقولون، فالأجدر أن يتقدم الوالدان من المتشاجرين ويستمعا لحجة كل منهما ويفصلا بينهما بالعدل، ومن المهم أن يشعر الأبناء بعدل الوالدين من خلال الإنصات العميق الذي يُشعر الطفل بالاهتمام ومن ثم يصبح الطفلان جاهزين لتقبل الحكم”.
بينما تتحدث “أم عبد الله” (30 عاماً)؛ ربة بيت عن تجربتها قائلة: “ابنتي في الصف السادس، ومع ذلك لا يريد زوجي إخراجها من المنزل مطلقا، بحجة أنها بنت وأنه يخشى عليها كثيرا، لكنني أسمح لها بذلك في غيابه، وتواجهني بالسؤال الصعب أليس ما أفعله حلال؟، فلماذا أبي يمنعني من ذلك؟ الأمر الذي يحدث لديها الكثير من التشتت”.
ويوضح “البرعاوي” أن هذا هُراء، وتنَطُّع مضر، “يجب أن ندرب الأبناء على الاعتماد على أنفسهم ونترك لهم مساحة للتعامل مع الحياة ليتعلموا ويواجهوا ويكونوا أقوياء، ولكن بعد أن نرسخ فيهم المبادئ والقيم والمثل، وبعد أن نحدد لهم حدود الحرية الشخصية، وبعد أن نبين لهم أن هناك خطوطا حمراء دينية واجتماعية وأخلاقية لا يمكن تجاوزها؛ أي علينا تربية الضمير وتعميق الوعي وتنوير الفكر ثم نعطي هامشا للحرية في حدود درء الشبهات وحماية الأبناء من المنزلقات”.
حصاد التربية
“محمد” الطفل الذي لم يبلغ العشر سنوات، كلمته نافذة على صغير وكبير العائلة حتى على والديه بحضور الجد و الجدة؛ لأنه الشقيق الوحيد لأربعة بنات، حاول الوالدان جاهدين عدم الهبوط في مستنقع دلال الابن الوحيد؛ لأنهما على حد تعبيرهما يريدونه رجلا يُعتمد عليه ليساند أخواته، لا طفلا مدللا يفعل ما يحلو له دون تحمل أي مسئولية.
تقول والدته لـ “الثريا”: “قررنا منذ البداية التخلص من فكرة الابن الوحيد المدلل، لكننا لم نستطع تطبيق ذلك بوجود الجد والجدة الذين يغدقان عليه بالحب والدلال الزائدين، فأصبح يفعل ما يحلو له، ولا ينفذ ما لا يعجبه مما نقوله له، ولا يجد حرجا في فعل ما يزعج الموجودين في حضور جديه، و كثيرا ما يتطاول على إخوته البنات الأكبر منه وكلما هممت بمعاقبته يخرج سريعا إلى حضن الجد الذي يحامي عنه، وكثيرا ما تحدثت معه أن صفات “محمد” أصبحت لا تطاق؛ فهو عصبي و نمرود ومتكبر ويفعل كل ما يحلو له دون مراعاة لأية اعتبارات، لكنه يقول لي إنه طفل صغير وعندما يكبر سيتعلم الخطأ والصواب.
ويرى “البرعاوي” أن عاطفة الأجداد زائدة ومفسدة لشخصية الطفل، و”نحن نؤمن تماما أن العاطفة كالماء قد تكون سببا للحياة وقد تكون الطوفان للشخصية، ولا يدرى الجد والجدة أنهما بإفراطهما في إشباع حاجات الطفل والحماية المبالغ فيها وعدم محاسبته علي أي خطا بأنهما يبنون إنسانا يحمل من السلبيات أكثر من الايجابيات، فتجد هذا الطفل ينشأ وقد تعود على الأخذ وعدم العطاء يعيش على الاتكالية والكسل، لا يحب العمل، والمثابرة، والجهد، وبالتالي يكون قليل الصبر، والتحمل، وعند التعرض للضغوط يصر على تنفيذ رأيه، ولا يستجيب للأوامر، وهذا جزء من صفات كثيرة للابن المدلل لا يحب أحد من الآباء والأمهات والأجداد أن تتوفر في ابنه.
وينصح “البرعاوي” بعدم الإفراط في التدليل والحماية، بل تعويد الطفل على العمل والمثابرة والجهد، ومكافأته عند العمل، وعقابه عند الخطأ، ومشاركته في تحمل مسئولية نفسه، وتشجعيه على تنمية قدراته ومهاراته، مما يساعد على زرع الثقة بداخله، فتتحقق له السعادة، ويستمتع بحياته بعيد عن الدلال الزائد.
د. البرعاوي
يجب ألا نجعل من أبنائنا حقلا للتجارب
وتعدد السلطات التي تؤدي إلى التشتت
الفكري وتقتل الإبداع والملكات الخلاقة
وينوه “البرعاوي” إلى أن مهمة تربية الأبناء موكلة للآباء أساسا ويجب ألا نجعل من أبنائنا حقلا للتجارب وتعدد السلطات التي تؤدي إلى التشتت الفكري وتقتل الإبداع والملكات الخلاقة وتجعلهم إمعات لا رأي لهم، وتجعلهم غير قادرين على تحديد الإطار المرجعي لأفكارهم وقيمهم مما يجعلهم بلا شخصية واضحة المعالم.
سيطرة وتهميش
وفي ذات السياق تحدثت “أم محمد” (40 عاماً)، التي أبدت استيائها جراء ما يقوم به زوجها من سيطرة وتهميش لما تقوم به، فما أن تنتقد ابنتها في تصرف (ما) حتى يقوم الزوج بدور المدافع حتى وإن كانت على خطأ، فتقول للسعادة :”لا أستطيع تنبيهها على أي سلوك تقوم به، وإن فعلت فهي تجد محامي الدفاع لها فلا تكترث كثيرا لما أقوله، فهي تتردد كثيرا على صديقاتها وتجلس ساعات طويلة لمشاهدة التلفاز، الأمر الذي أدى إلى تراجع مستواها الدراسي لكن والدها يتركها على راحتها و يقول إنني أتدخل كثيراً في حريتها الشخصية، ويجب أن تنال قسطا من الحرية لتشعر باستقلاليتها رغم أنني لا اعترض على هذا المبدأ إلا أنها استغلته بشكل يزيد عن الحد وعجزت معها ومع والدها.
ويعقب “د. البرعاوي” على تلك التصرفات بأن “هذا جهل مدقع ويدل على حالة مرضية، فالرجل السوي يشجع زوجته على المشاركة لما لذلك من دعم نفسي، فالزوجة طاقة يجب أن يستفيد منها العقلاء مما يحقق السعادة والسكينة ويبعث روح التعاون في الأسرة، كما يجب على الزوجين إيجاد وحدة فهم مشتركة في أساليب التربية وإيجاد أرضية لكيفية تعاملهما مع أبنائهما، حتى لا ينشا جيل متشتت.
بينما تقول “نهى محمد” (30 عاماً) للثريا:” يوجد الكثير من المشاكل بين زوجي و إخوته ووالديه على تقسيم الأراضي والورثة، فقاطع كل منهم الآخر، حتى أن زوجي قاطع والده، ونحن نسكن جميعا في منطقة واحدة تجمعنا، وعادة ما يلعب الأبناء مع أبناء عمهم، ويلتقون بجدهم ويسلمون عليه وما أن يعلم والدهم بذلك أو يراهم، حتى يبدأ في توبيخهم ويصل أحيانا إلى حد الضرب، وعادة ما أتدخل وأمنعه من ذلك وأقول له إن ما تفعله حرام وإن ما يفعله الأبناء هو الصواب ويستمعون إلى نقاشاتنا، وحينما يغادر والدهم يبادرون بسؤالي ألم تقولي أن ما نفلعه هو الصح وما يفعله والدي هو الخطأ فلماذا يعاقبنا؟ وأجيبهم أحيانا وأصمت أحايين أكثر لأنني لا أملك إجابة؟”.
أسباب وآثار و حلول
ويعرف “البرعاوي” ازدواجية التربية بأنها؛ اختلاف الآباء على تحديد السلوك المرغوب فيه الذي يجب على الأولاد الالتزام به، أو تحديد السلوك غير المرغوب فيه الذي يجب على الأولاد الابتعاد عنه.
ويبين أن أسباب هذه الازدواجية هي؛ العادات والتقاليد والرأي العام السائد، والأنظمة والقوانين المعمول بها، كذلك ثقافة الوالدين وأساليب التنشئة التي مرا بها: “فالآباء الذين عاشوا تجربة أسرية وحياتية سمح لهم بإبداء الرأي وتقبل الرأي الآخر والتسامح سينعكس على التوافق والتكيف الأسري وبالتالي الحكمة في التعامل مع الأبناء، كذلك مستوى التدين للوالدين سيساعد على وحدة الرؤية والفكر والسلوك مما يسمح بوجود سياسة واحدة في التعامل مع الأبناء حيث إن الهدف واحد”.
ويجمل “د. البرعاوي” الأضرار النفسية الناجمة عن ازدواجية التربية: “مثل هذه الخلافات بين الآباء والأمهات تؤثر على الأولاد سلباً، فمن الظلم أن يعاقب الطفل على نفس السلوك أو يثاب عليه، فإذا اختلف الأبوان وخلت حياتهما من الوفاق والوئام في تربية الأولاد فإن الأطفال سيعانون من ذلك كثيراً ويميلون إلى العدوانية والمشاركة ويحبون النزاع والخصام، وهذا يغذي بدوره التوتر بين الأبوين ويصبح جو المنزل ثقيلا بسبب الانفجاريات التي تحدث فيه، كما أن شخصية البناء تتأثر سلبا فقد تنشأ شخصية هروبية أو استسلامية ومضطربة الفكر وغير قادرة على شق الطريق في الحياة وعاجزة عن اتخاذ القرار، كما لا يستطيع الأبناء تحمل المسؤولية فضلا عن الإحساس بالضغط المستمر”. ويؤكد أن اضطراب العلاقات الأسرية يعد سببا مباشرا لعقوق الوالدين مستقبلا وسببا لتفكك العلاقات الأسرية.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام، كيف يمكن حل خلاف التناقض في التربية بين الأجيال، الأمر الذي يوضحه “د. البرعاوي”: “يكمن الحل في الاتفاق بين الوالدين في أساليب معاملة الطفل، وتحديد السلوك السيئ من السلوك الجيد، فيقي الطفل من ازدواجية الشخصية ومن الصراع النفسي الذي لا لزوم له، ويجب الانتباه إلى أنه في حالة الاختلاف يجب ألا يناقش ويظهر الخلاف أمام الأبناء، فالآباء يحب أن يقدموا لأبنائهم سياسة واضحة محددة يفهمها الأبناء ليشكل الآباء إطارا مرجعيا مقبولا من الأبناء”.
رؤية إسلامية
ولنا في التربية الإسلامية مواقف عدة، و نماذج كثيرة أسست للتربية السليمة الخالية من التناقضات الهادمة التي تشرخ الشخصية المسلمة السوية القادرة على التكيف، فيسرد “د. ماهر الحولي”؛ أستاذ الشريعة الإسلامية في الجامعة الإسلامية موقفاً يمثل قمة الثبات في التربية قائلا: “روى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ بن مالك قَالَ: “أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، قَالَ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا، فَبَعَثَنِي إِلَى حَاجَةٍ، فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّي، فَلَمَّا جِئْتُ، قَالَتْ: “مَا حَبَسَكَ؟!. قُلْتُ: “بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَةٍ”. قَالَتْ: “مَا حَاجَتُهُ؟”. قُلْتُ: “إِنَّهَا سِرٌّ”. قَالَتْ: “لَا تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحَدا”. قَالَ أَنَسٌ: “وَاللَّهِ لَوْ حَدَّثْتُ بِهِ أَحَدا لَحَدَّثْتُكَ يَا ثَابِتُ“.
و يستدرك “د. الحولي” إن هذا الموقف يمثل منتهي التناغم والتوافق، بين المؤسسة التربوية وبين المنزل، بين دور الحبيب- صلى الله عليه وسلم- وهو يرتب برقي أساسيات بناء شخصية هذا الغلام العظيم- رضوان الله عليه- وبين دور الأم- رضوان الله عليها- وهي تكمل هذه الصياغة التربوية الراقية وذلك بأن تتأمل قولتها الواعية: “لَا تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحَدا”.
ويضيف: “فلم تُحدِث هذه الأم تضارباً تربويا ولم تجبره على البوح بالسر، كما أنها لم تعتبر عدم بوح ابنها لها تقليلا لشأنها إنما رسخت لديه هذا المفهوم، ولم تحدث عند ابنها تضاربا يشعره بالتذبذب بين قرار الرسول- صلى الله عليه وسلم- بعدم البوح وبين رغبتها بمعرفة السبب، بل أحدثت تناغما تربويا يعزز لدى ابنها هذا السلوك”.
وأخيرا فإن التربية عملية صعبة و تحتاج غلى الكثير من الصبر و الطاقة و الفهم و الحكمة في التعامل مع الابناء الذين هم غراس المستقبل و هم رجال الامة الذين عليهم بعول النصر و التمكين، فاتقنوا صناعة عقولهم ليتقنوا فن احترامكم و تقديركم.