بين العقابِ والبلاءِ؛ تكمُنُ سيرةُ حياةِ اﻹنسان

بقلم:رحاب أسعد بيوض التميمي
(البلاء أوّلُه شِدّةٌ وضيقٌ، وآخِرُه نصرٌ من الله )(مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)] النساء:79 [
فعَدا عمّا جاء في تفسيرِ هذه الآيةِ، فقد يَختلطُ _على من يَسمعُها_ تمييزُ أصحابِ المصائبِ من أصحابِ البلاء، حتى يظنَّ أنّ كلَّ سيئةٍ أو أزمةٍ يمرُّ بها المرءُ؛ هي بالضرورةِ عقابٌ بفعلِ عملِه السيئ,ﻷنه تعوّدَ أنْ يرُدَّ الحسنةَ إلى كلِّ ما ظهرَ من النّعَمِ،والسيئةَ إلى كلِّ ما ظهرَ من سوءٍ, ناسياً أنّ كثيراً من النّعمِ ظاهِرُها فيه الرحمةُ، وباطنُها فيه العذابُ، والعكسُ صحيحٌ أيضاً.
فأنا أرى _واللهُ أعلَمُ_ أنّ الابتلاءَ الذي يتعرّضُ له المسلمُ؛ يقعُ ضِمنَ الحسنةِ التي مِن اللهِ, لأنّ ثمراتِ الابتلاءِ فيها كلُّ الحسناتِ، والعِبرةُ في عواقبِ اﻷمورِ، عدا عن أنّ اللهَ هو المتفضِّلُ بالنّعمِ، وﻻ يمنعُها أو يسلبُها إلا بسيئةِ اﻹنسانِ،
والبلاءُ هو امتحانُ درجةِ منزِلةِ اللهِ عندَ عبدٍ أَحبَّهُ اللهُ لشِدّةِ تقواهُ، بدليلِ أنّ البلاءَ هو جزءٌ من حياةِ اﻷنبياء، فمَا تعرّضَ له اﻷنبياءُ من شِدّةٍ ومحارَبةٍ وأذىً؛ هو بالضرورةِ من الابتلاءِ الذي يسبِقُ النصرَ والتمكينَ، ابتلاءٌ نتجَ عنه اجتباءٌ واصطفاءٌ وتمكينٌ لهم في اﻷرضِ، وعُلوٌّ ورِفعةٌ. في حين أنّ العقابَ من نفسِ اﻹنسانِ؛ أيْ نتيجةَ عملِه السيئ، والذي ﻻ يعودُ عليه إلا بالخُسرانِ ،
لذلك قد يختلطُ على الناسِ التفريقُ بين الابتلاءِ والعقابِ؛ ﻷنّ الشدّةَ والألمَ ، ونوعيةَ المصائبِ المُشترَكةِ هي التي تَجمعُ بينهما, فالحسنةُ من اللهِ تَشملُ الصبرَ على البلاءِ الذي فيه الجزاءُ،وحُسنُ العاقبةِ،والسيئةُ من النفسِ تَشملُ العذابَ وسوءَ العقابِ.
فالبلاءُ هو امتحانُ المَحبّةِ من اللهِ لعبدٍ اجتباهُ ثُم اصطفاهُ، والعقابُ هو حصادُ السوءِ لعبدٍ اختارَ؛ رضا نفسِه والشيطانِ ،على رضا الرحمنِ. وقد يكونُ البلاءُ بالخوفِ وعدمِ اﻷمنِ، كحالةٍ من التعبِ النفسيّ تعتري نفسَ اﻹنسانِ ﻷيِّ سببٍ كان، أو بفقرٍ، أو بفقدانٍ في الذريّةِ، أو معاناةٍ بسببِ نقصٍ في ثمارِ الحياةِ بمُختلفِ أشكالِها
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ*أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) ]البقرة:155-157 [
وكلُّ مَن عاش الرّضا والقناعةَ وسطَ هذه الظروفِ؛ فهو في عيشِ البلاءِ، ويختلفُ في درجتِه حسبَ تقوَى الإنسانِ ..
الفرقُ بين الابتلاءِ والعقابِ ؛أنّ الابتلاءَ هو جزءٌ من سيرةِ الأنبياء، فليس هناك نبيٌ وإلا وقد ابتُليَ في قومِه أو أهلِه وعشيرتِه أو بدَنه،أو زوجِه، فالبلاءُ قد حلَّ بالأنبياءِ ثُم الصالحين عبرَ مسيرةِ الحياةِ،ثُم اﻷمثلَ فاﻷمثلَ، وأكملُ الناسِ إيماناً؛ أشَدُّهم بلاءً,قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:((أشدُّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ،ثُم الصالحونَ،ثُم الأمثلُ فالأمثلُ، يُبتلَى الرجلُ على حسبِ دِينِه، فإنْ كان في دينه صلباً؛ اشتدَّ به بلاؤه، وإنْ كان في دينِه رِقّةً ابتُلي على قدْرِ دِينه،فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ؛ حتى يَتركَه يمشي على الأرضِ وما عليه خطيئةٌ)أخرجه الإمام أحمد وغيره.فالبلاءُ هو دليلُ محبةِ اللهِ للعبدِ المؤمنِ؛ يبتليهِ ليُطهِرَه وليَصطفيه، ثُم ليجعلَه في مَعيّتِه.
أمّا العقابُ فهو نتيجةُ سخطِ اللهِ على المرءِ لذنوبٍ أذنبها, وهناك فرقٌ بين اﻹثنينِ؛ فالبلاءُ بالضرورةِ تنزلُ معه الرحماتُ التي تَنتجُ عن الرضا بما قسمَ الله، تُعينُ المرءَ على احتمالِه والصبرِ عليه.أمّا العقابُ فيكونُ منفرداً صاحبُه بالشدّةِ والأذى؛ حتى يضيقَ بهِما.
إنّ من إحدى مراحلِ البلاءِ؛ أنْ يُسلِّطَ شيطانُ الجنِّ شياطينَ اﻹنسِ على اﻹنسانِ الطيبِ صاحبِ اﻷخلاقِ؛ لعِلمِ الشيطانِ المتخَفي قدْرةَ صاحبِ اﻷخلاقِ على التأثيرِ في المجتمعِ، خيراً وإصلاحاً, وهذا لا يروقُ للشيطانِ الذي يقودُ معركتَه ضدّ اﻷخلاقِ، فيَؤُزُّهم أَزّاً عليه حِقداً وغيرةً, حتى يردُّوهُ عن دِينِه وأخلاقِه (إنِ استطاعوا) أيّ مُحاصَرةً له في كلِّ ما يعملُ باﻹنكار والجحودِ؛ لعله يضيقُ بالخُلقِ ويترُكُه،بل قد تزدادُ محاصرةُ الناسِ له؛ حتى تَضِيقَ به الدنيا، فيقعَ في المحَكِّ؛ إمّا أنْ يتركَ الخيرَ والعملَ به،حتى يريحَ نفسَه، ويرضَى عنه الناسُ ،وإمّا أنْ يُصِرَّ عليه رُغمَ المحاصَرةِ ، فيزدادُ تعلُّقاً بالعملِ الصالحِ،من أجلِ رِضا الرحمن،حتى يستويَ عنده مَدْحُ الناسِ وذَمُّهم، بعدما يتيقنُ أنْ ﻻ مدْحَهم يرفعُ، وﻻ ذمَّهم يهينُ،وحتى يقعَ في نفسِه أنّ طلبَ النصرِ من الناسِ نقصٌ في اﻹيمانِ وذُلٌ وهوانٌ.
وأنّ الفرجَ ﻻ يمكنُ أنْ يكونَ إلاّ من عندِ الرحمنِ، فيُسقِطُ الناسَ من حساباتِه، ويزدادُ قُرباً من اللهِ بالطاعاتِ، فيكونُ قد نجحَ في تجاوزِ مرحلةٍ من مراحلِ الامتحان، وهي الانتصارُ على نفسِه والشيطانِ؛ بالثباتِ على الحقِّ والدِّينِ، رُغم التعرُّضِ للشدائدِ والمكائدِ، وبذلك يزدادُ قرباً من اللهِ الرحمنِ الرحيم، وهذا ما حصلَ مع اﻷنبياء حينما تَسلّطَ عليهم أقوامُهم ليَردُّوهم عن دِينِهم،وسلّطوا عليهم سفهاءَهم،واتّهموهم بالجنونِ والسِّحرِ وغيرِها من اﻷكاذيبِ, فلم يمنعْهم ذلك من إتمامِ رسالاتِهم والثباتِ على الحقِّ، فهذا كلُّه يقعُ بمن يريدُ اللهُ اصطفاءَهم؛ بدرجاتٍ مختلفةٍ حسبَ درجةِ القدْرةِ والدِّينِ، قال تعالى(اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) ]الحج:75 [
في حين أنّ المُعاقَبَ بالعادةِ ﻻ يتعرّضُ لشدائدَ تَقهَرُه قبلَ وقوعِ العقابِ، بل قد يُبسَطُ له في الدنيا ،ثُم إنّ المُعاقَبَ قد ينافقُ له الناسُ؛ ﻷنّ أخلاقَه ليس فيها ما يَقهرُهم أو يحسدُونَه عليها, بالعكسِ فقد يكونُ سوءُ خلُقهِ سببَ حُبِّهم له!
إنّ البلاءَ ظاهِرُه فيه العقابُ؛ ليمتحِنَ اللهُ نفوسَ الناسِ من الحاقدينَ والحاسدينَ؛ الذين ينتظرون أنْ تلحقَ المصائبُ بمَن يُعادونَ حِقداً وحسداً، فيَظنّون أنهم قد انتصروا، وتَحقّقَ لهم ما تمنّوا، ليَميزَ اللهُ الخبيثَ من الطيبِ، وليرفعَ المُبتلَى بصبرِه على شماتِة الناسِ الدرجاتِ العُلى، حتى إذا أنعمَ اللهُ على صاحبِ البلاءِ بثمراتِ الصبرِ( من تمكينٍ ورفعةٍ )تحوّلتْ الشماتةُ إلى نصرٍ من اللهِ له عليهم، بتميّيزِه عنهم وهم يَنظرون.أمّا العقابُ فليس وراؤه نصراً وﻻ تمكيناً, بل قد يكونُ حصاراً للإنسانِ ليس بعدَه مَنفذٌ وﻻ ملجأٌ ، بل قد يكونُ فاتحةً لعذابٍ أكبرَ؛ إنْ لم يتّعِظْ ويَؤُبْ ويَرجِعْ.
إنّ أصحابَ البلاءِ لهم في كثيرٍ من اﻷحيانِ حقوقٌ عند الناسِ؛ بسببِ ظُلمِ الناسِ لهم، وافترائِهم عليهم، وعلى ما يفعلونَ من خير, في حين أنّ المُعاقَبَ؛ للناسِ حقٌّ عليه؛ بسببِ ظُلمِه لهم .
إنّ المعاقَبَ قد يُستدرجُ، وتُفتحُ له الدنيا، حتى يُصيبَه العُجبُ بنفسِه، فيقعُ في حبِّها، وينسى المُنعِمَ المُتفضِّلَ عليه، فيطغَى ويبغي، أو يصيبُه الغرورُ، أو يرتكبُ المُحرّماتِ، حتى إذا غرقَ في حبِّها؛ جاءه العذابُ من حيثُ لا يَحتسِبُ، فيكونُ قد استُدرِجَ من خلالِ النعمة .أمّا المُبتلَى فقد يفتحُ اللهُ عليه الدنيا، فيتعاملُ معها بحذَرٍ, ﻷنه يعلَمُ أنّ اللهَ يُعطيها لِمَن أحبَّ، ولِمَن ﻻ يحبُّ،وأنّ المسؤوليةَ تزيدُ بزيادةِ النّعم عليه،وأنه سيُسألُ من أين اكتسبَ؟ وأين سيُنفِقُ؟فلا يَغفُلُ عن خالقِه، ولا عن ردِّ الجميلِ إلى المُنعِم عليه بزيادةِ الطاعاتِ، فيحبُّه اللهُ من شدِّة طاعتِه،فيبتليهِ حتى يصطفيهِ وينصُرَه ويُبقيه بمَعيّتِه؛ حتى لا يُفتنَ في الدنيا ومتاعِها.
إنّ المبتلَى إنْ قُدِرُ عليهِ رِزقُه؛ عاش الرضا والقناعةَ بما قسَمَ اللهُ له، حتى شعرَ بِهما أنه أغنَى الناسِ؛ ﻹيمانِه بقولِه عليه الصلاة والسلام:(مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ،آمِنًا فِي سِرْبِهِ،عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا.)أخرجه أحمد والبخاري وإبن ماجة والترمذي.في حين أنّ المعاقَبَ إنْ قُدِر عليه رزقُه؛ ضاقتْ عليه الدنيا، وعاش ساخطاً حاقداً،حاسداً .
إنّ فترةَ البلاءِ؛ يحيطُ اللهُ بها المرءَ بالحمايةِ؛ رُغم شِدّةِ البلاءِ،وتتنزّلُ بها الرحماتُ، ويبدّلُ اللهُ ضعفَه قوةً بعدَ البلاءِ,ويجعلُ له رهبةً في قلوبِ أعدائه,حتى يصبحَ مَن كان الناسُ يستخِفّون به لطِيبتِه،يحسبونَ له ألفَ حسابٍ,ويَمُدُّ اللهُ المبتلَى بنورٍ يمشي به بين الناسِ، ويُنوِّرُ قلبَه باﻹيمانِ؛ الذي يميزُ به بينَ الحقِّ والباطل, ويجعلُه دائمَ الوقوفِ والانتباهِ على الحسناتِ والنّعمِ التي في حياتِه؛ ليستأنسَ بها مع الشدَّةِ, ويفرحَ أنّ اللهَ لم يجعلْ فتنتَه في دِينِه، فتَهونُ عليه مصيبتُه، فيَحمدُ اللهَ عليها,فتكونُ العلاجَ لنفسِه لتجاوُزِ المصيبةِ.في حين أنّ صاحبَ العقابِ يُصابُ بالإحباطِ والمسكَنةِ، وﻻ يستطيعُ الوقوفَ على ما أنعمَ اللهُ به عليه، وتزيدُه المصيبةُ حِقداً وغَيرةً؛ حتى يتمنّى أنْ يلحقَ الناسَ ما لحِقَ به .
إنّ من أحوالِ البلاءِ؛ أنْ يشتدَّ الأمرُ على المُبتلَى قبلَ الفرَجِ؛ حتى يصيبَه اليأسُ من تأخيرِه، ثم يأتي الفرَجُ من حيثُ ﻻ يحتسِبُ، كما هو شأنُ اﻷنبياء.(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) ]يوسف:110 [
ليَشعرَ فِعلاً أنه ممّن اصطفاهم اللهُ, وإنّ من مؤشِّراتِ الابتلاءِ أنْ يخفّفَ اللهُ عن المبتلَى بالمُبشّراتِ التي كانت تسري على الأنبياء، وتخفّفُ عنهم أثناء ابتلائهم، وهي الرؤَى الصالحةُ؛ يراها المؤمنُ، أو تُرَى له، فتجعلُه ﻻ يقنطُ من رحمةِ اللهِ، وتُشعِرَه بأنّ اللهَ ناصرُه _ولَو بعدَ حين_ كما في الحديثِ.
فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال:سألتُ رسولَ اللهِ عن هذه الآية(لهمُ البُشرَى في الحياة الدنيا وفي الآخِرة)فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:(الرؤيا الصالحةُ يراها المؤمنُ أو تُرى له)
الابتلاءُ يزيدُ من إيمانياتِ المسلم، ويزيدُه قُرباً من اللهِ، بِدءاً بمُحاسبةِ النفسِ، وطلبِ العفوِ من اللهِ، إنْ كان بسببِ تقصيرٍ منه بالدعاءِ، كما كان عليه الصلاة والسلام يقولُ:
(إنْ لم يكنْ بكَ عليَّ ذنبٌ فلا أُبالي)وزيادةُ العباداتِ حتى يشعرَ المرءُ أنّ حياتَه ﻻ تستقيمُ إلاّ بكثرةِ الطاعاتِ والنوافلِ؛ ﻹدراكِه أنّ النجاةَ فيها.في حين أنّ العقابَ يُبقي المرءَ في غفلةٍ، ويزيدُه بُعداً عن الدِّين؛ لكثرةِ الحسرةِ والاعتراضِ على قدَرِ اللهِ، وعدمِ محاسبةِ نفسِه، أو قد يرمي في أحسنِ الأحوالِ أنَّ العينَ سببٌ ما أصابَه.
من ثمراتِ البلاءِ أنْ يحبَّ اللهُ المسلم، ثم ينعكسُ هذا الحبُّ على أهلِ اﻷرض؛ ﻷنّ الله إذا أحبَّ عبداً نادَى في السماء إني أحبُّه، فأحِبُّوه حتى ينزلَ حبُّه في اﻷرض,كما جاء في الحديثِ:(إذا أحبَّ الله تعالى العبدَ، نادَى جبريل،إنّ الله تعالى يحبُّ فلاناً،فأحبِبْه،فيُحبُّه جبريل،فينادي في أهلِ السماء:إنّ اللهَ يحبُّ فلاناً فأحِبُّوه،فيُحبُّه أهلُ السماء،ثم يوضَع له القَبولُ في الأرض)عكسُ المعاقَبِ نتيجةَ سخطِه وعدمِ محاسبةِ النفسِ؛ لا ينعكسُ العقابُ على عملِه تغييراً وإصلاحاً، فيزدادُ سوءاً، ويزيدُ بُغضُ الناسِ له .
إنّ صاحبَ البلاءِ تصغُرُ الدنيا أمام عينيه؛ حتى تصبحَ آخِرَ همِّه، حتى يستوي عندَه فيها المدْحُ أو الذمُّ.أمّا المعاقَبُ فيزدادُ حُبُّ الدنيا في نفسِه، وحِرصُه عليها، ويحبُّ أنْ يُمدَحَ، ويَفجُرُ إذا ذُمَّ .
البلاءُ هو طوقُ النجاةِ للمؤمنِ من فِتَنِ هذه الدنيا,فقد يبتلي اللهُ المؤمنَ في شِدّةٍ في نفسِه أو ولدِه أو نقصٍ من مالِه؛ لكي يمنعَه من الافتِتانِ بالدنيا والحرصِ عليها، وحرصاً عليه حتى ﻻ يقعَ في حبِّها,فيصبحُ من الغافلينَ، فيَبتليهِ ليلجأَ إليهِ ويدعوهُ، فيكونُ البلاءُ سببَ خروجِ الدنيا من نفسِه.
في حين أنّ المُعاقَبَ قد يزدادُ افتِتاناً في الدنيا؛ حتى توقِعَه في غفلتِها, وقد تكونُ هناك درجةٌ للمؤمنِ عند اللهِ، ﻻ يرتفعُ ويصلُ إليها إلاّ ببلاءٍ مُعيّنٍ؛ يكفِّرُ اللهُ به ما فاتَه، ويُطَهِرُ به زَلاتِه؛ حتى يصلَ إلى درجةِ المُصطفينَ الأخيارِ، بعكسِ العقابِ قد ينزلُ بالإنسانِ منزِلةً نتيجةَ السخطِ على قضاءِ اللهِ، عدا عن أنّ سيرةَ المرءِ، ومدَى حُبّهِ للخيرِ وفِعلِه، أو أنانيتَه وكِبرَه؛ تُحدِّدُ إنْ كان ما أصابَه ابتلاءٌ أو عقابٌ، والسيرةُ تَستدِلُ بالشهودِ الثِقاتِ.