المقاومةُ معادلةٌ لا تَقبلُ القسمةَ إلاّ على نفسِها

بقلم إباء أبو طه
صعبةٌ تلك اللحظاتُ التي نفتقدُ فيها شَهيةَ بَذْلِ الدمِ وروحِ الشهداءِ، وخوضِ معاركِ المواجهةِ مع المحتلِّ، لتأتيَ جنازةُ الشهيدَين (عماد وعادل عوض الله) تُعيدُ ترتيبَ الأبجدياتِ الروحيةِ والفكريةِ من منظورِها الخاص، بلا سياقاتٍ وشعاراتٍ مزيّفةٍ ومنمّقةٍ، تَحمِلُنا نحوَ اشتهاءِ العملِ المقاومِ؛ تلك الفكرةُ التي فكَّكتْها (أوسلو) ومنظماتُ المجتمعِ المَدَنيّ والمؤسساتُ الاجتماعية، من خلالِ موضوعاتِ ” المقاومة الناعمة” اكتبْ مقالاً إذَنْ تُقاوِم، وكنْ ناجحاً تخدمْ وطنكَ… بهذا تقاوِم، كنْ منضبطاً تَحترمْ الناسَ أنتَ مقاوِم، لكنْ أمامَ مَشهدِ الجنازةِ المهيبِ للأخَوينِ؛ تتساقطُ كلُّ الفرضياتِ، لتبقَى عبارةٌ واحدةٌ ” المقاومةُ بندقيةٌ وخُلقٌ ” وأيُّ محاولةٍ لتمريرِ فكرةِ المقاومةِ السلميةِ؛ ليستْ إلا تشويهاً لصورةِ المقاومِ، ولفكرةِ الشهيدِ بحدِّ ذاتِها، والتي لم تُنجِبْ لنا سِوى جيلٍ مُعطَّلِ الطاقاتِ، خاملِ الفكرِ، يَنزِعُ عنه كلَّ أرْديةِ العملِ العسكريّ أمامَ فكرةِ ” أنتَ تبتسمُ؛ إذنْ أنتَ مقاوِم ” .
في الضفةِ المحتلة؛ غيابُ مشاهدِ التشييعِ والعروضِ العسكريةِ أو أيِّ فكرةٍ لها صلةٌ بالعملِ المقاومِ؛ كفيلةٌ لتذويبِ روحِ المواجهةِ والكُرهِ للمحتلِّ، فأمامَ صورةِ الفلسطينيّ الجديدِ؛ الذي يتعرّضُ لعملياتِ التعريةِ والتذويبِ بواسطةِ المفاوضاتِ والاتفاقاتِ المُبرَمةِ مع المحتلِّ، تغدو فكرةُ العيشِ على الذكرياتِ ” كالمجازر، والتهجيرِ القسْريّ للفلسطينيينَ، وطردِهم من أرضِهم” أفيوناً لا يََسترِدُّ الحقوقَ ولا يُرسِّخُ المقاومةَ، فإنْ لم يكنْ هناك استراتيجيةً واضحةً تعيدُ ترتيبَ العملِ المقاومِ؛ بالشكلِ الذي يجعلُ فكرةَ العملِ العسكريّ حاضرةً في النفوسِ أولاً وفي الميدانِ ثانياً.
قد يَلمحُ المتابعُ لأحداثِ الضفةِ خلالَ أربعةَ عشرَ عاماً فقدانَ فكرةِ الإيمانِ الناضجِ بالمقاومةِ، وهذه تأتي من أمرَين: أوَّلُها؛ التربيةُ الوعظيةُ القائمةُ على سطحيةِ الخطابِ، وتشتيتِ الأفقِ وتشويهِ الغاياتِ، سواءٌ كانت في المدارسِ من خلالِ المناهجِ التي تخلو من معاني المواجهةِ والمقاومةِ والنفيرِ، وتقدّمُ أولوياتِ حبِّ الوطنِ تحتَ أيِّ صورةٍ؛ حتى إنْ كان مجزوءاً مقطوعاً أو مشوّهاً، عدا عن معاني احترامِ القوانينِ التي تسلبُ كلَّ إمكاناتِ السعيِ للثورةِ وللحريةِ ولتغييرِ النظامِ القائم، حتى أنّ التاريخَ الذي يُعرضُ على الطلبةِ يطبِّقُ قاعدةَ ” التاريخُ يكتبُه المنتصرون” لِتجدَ مُناخاً استسلامياً وشعوراً منهزماً أمامَ تاريخٍ لا يَذكرُ من فلسطينَ سِوى انهزاماتِها وسقطاتِها أمامَ الاحتلالِ، تَفتقدُ أمامَها سؤالاً يُطرحُ من قبلِ الجهاتِ التعليميةِ : كيف لنا أنْ نكتبَ التاريخَ بطريقتِنا ،لا على الطريقةِ التي يريدُها الصهاينةُ أنْ نرويها ونتحدّثَ بها ؟
لا يقتصرُ ذلك على التاريخِ، بل فكرةُ الشهداءِ وحضورُ النماذجِ شِبهُ معدومةٍ، وإنْ ذُكِرتْ فهي على استحياءٍ، وإنْ طالَ الحديثُ بها؛ فقد يكونُ جريمةً لخروجِها عن المنهجِ التعليمي، لنَشهدَ في واقعِ الأمرِ عملياتِ قتلٍ جماعيةً للطلبةِ في قِلّةِ معرفتِهم بتاريخِ وطنِهم، وبالشهداءِ وبفكرةِ استرجاعِ الحقوقِ بالمقاومة.
وقد تَطالُ التربيةُ الوعظيةُ منابرَ المساجدِ أيضاً، الداعيةَ إلى تقوَى اللهِ بالصلاةِ والزكاةِ واجتنابِ المُحرّمات؛ قارعةً المصلّينَ بذنوبِهم، متناسيةً حثَّ الناسِ على الجهادِ في سبيلِ اللهِ، وإيقاظَ بصائرِهم بمعاني المقاومةِ وبنماذجِها الفرديةِ، وتسطيحِ معاني العباداتِ بأداءِ الفرائضِ، لا بالفِرارِ بِرفعِ الظلمِ واسترجاعِ الحقوقِ وغيرِها.
كما أنّ الخطابَ الإعلاميّ الفلسطينيّ بشتَى وسائلِه المَرئيةِ والمسموعةِ؛ يقومُ على ” الشكوَى” حيثُ يدورُ حولَ مشاكلِ الفلسطينيينَ المتعلقةِ غالبيتُها ” بسرقاتِ الماءِ والكهرباء” وارتفاعِ الغلاءِ وغيرِها، لِيُبعِدَنا عن طرحِ سؤالٍ: هل يلعبُ الإعلامُ الفلسطينيّ دوراً في التثقيفِ السياسي ” ؟ هل هو إعلامٌ فقط خطابيٌّ مَبنيٌّ على التربيةِ الوعظيةِ الشبيهةِ بالمدارسِ والمنابرِ في التوجيهِ والتلقينِ وتقديمِ الأجوبةِ الجاهزة، أَم يفتحُ آفاقاً قائمةً على يقظةِ الفكرِ، وإعمالِ العقلِ في الجوانبِ المتعلقةِ بالمقاومةِ، واسترجاعِ كلِّ ماهو مسلوبٌ؛ بعيداً عن الشعاراتِ المزيّفةِ والمواقفِ الحكوميةِ الباهتة؛ عَدا عن عملياتِ الترويجِ لأفكارٍ تَخضعُ لأجِنداتٍ خارجيةٍ، والتي باتت تزحفُ إلى الوعيِ الفلسطينيِّ؛ من خلالِ نشرِ لافتاتٍ كبيرةٍ تدعو إلى قضايا عدّة منها: الشراكةُ والحوارُ مع أوروبا، وقضايا متعلقةٍ بشكوَى ترفَعُها النساءُ لجهاتٍ خاصةٍ عند التعرُّضِ للاغتصابِ أو للتحرُّشِ الجنسي، ومطالبِ المساواةِ مع الجنسِ الآخَرِ، وهي غالباً ما تختمُ بعبارةِ ( بِدَعمٍ من ال usa) والتي تَحرِفُ بوصلةَ الفلسطينيين بعيداً عن فكرةِ المقاومةِ، فغالباً ما يُروّجُ لِمثلِ هذه القضايا أكثرُ من الترويجِ لمقاطعةِ المنتَجاتِ الصهيونيةِ، أو التنسيقِ الأمنيّ مع الاحتلالِ.
الأمرُ الثاني: العصبيةُ الفكريةِ؛ والتي قد تنقلُ المَرءَ مِنا إلى مساحاتِ الأنانيةِ والتعصُبِ، والذي يتجاوزُ فيها كافةَ التقاطعاتِ الإنسانيةِ والآفاقِ الرّحبةِ الجامعةِ لكُلِّ القِيمِ، لاسيّما المتعلقةُ منها بفكرةِ التحررِ ورفضِ الخضوعِ، لتهبطَ في ظِلها الغاياتُ، وتُشتَّتَ الطاقاتُ، ويصبحَ العملُ المقاومُ جزئيةً في منظومةٍ كُليّةٍـ تغيبُ فيها المركزيةُ، وتغدو فكرةُ تعليقِ رايةٍ لحزبٍ مُعينٍ، أو توزيعِ بيانٍ لجهةٍ مُعيّنةٍ، أو صَبغِ شهيدٍ بانتماءٍ مُعينٍ؛ هي مَن تَحتلُّ صدارةَ المَشهدِ، وتتراجعُ أمامَها عسكريةُ العملِ، وجاهزيةُ المقاومةِ.
إذنْ المقاومةُ معادلةٌ لا تَقبلُ القسمةَ إلاّ على نفسِها؛ هي فكرةٌ ومنهجٌ، يكتملُ بها البناءُ، ويُهدَمُ بِدونِها، فهي الضفةُ الأُخرى لحياةِ الشعوبِ، وقُوتِها الذي يُنجِبُ الأبطالَ.