القدسُ بين ماضي الاحتلالِ وحاضرِ التهويدِ

الكاتب أ. عبد الرحمن صالحة
يسألونكَ عن القدسِ؛ هي أولى القبلتينِ، وثالثُ الحرمينِ الشريفينِ، بعدَ مكةَ والمدينة، مسرحُ النبواتِ وزهرةُ المدائن، وموضعُ أنظارِ البشرِ منذُ أقدمِ العصورِ ، وأمُّ الحضاراتِ وأرضُ الأنبياءِ ، محضِنُ المسجدِ الأقصى ، وأرضُ الإسراءِ وبوابةُ الأرضِ إلي السماء ،وأرضُ المَحشرِ والمَنشرِ .
فعندَ النظرِ في الصراعِ العربيّ الإسرائيليّ بشكلٍ عام، وفي الصراعِ الفلسطينيّ الصهيونيّ على وَجهِ الخصوصِ؛ تجِدُ أنّ هناكَ مؤامرةً كبيرةً على ذاكرةِ الشعوبِ العربيةِ؛ لمَحوِ القضيةِ الفلسطينيةِ من عقولِ العربِ والمسلمين .
فمِحورُ الصراعِ مع الصهاينةِ يتمثلُ في اغتصابِ الأرضِ المبارَكة “أرضُ فلسطين” منذُ أنْ أعلنَ الصهاينةُ إنشاءَ ” دولة إسرائيل ” في( 14 / 5/ 1948 م) و قيامُ الصهاينةِ باحتلالِ غربيِّ القدسِ، وطردوا سكانَها العربَ منها، وحيثُ استمرَّ التنكيلُ والطردُ في القدسِ حتى عام ( 1967)م لتحتلَّ إسرائيلُ أيضاً الجُزءَ الشرقيَّ المتبقّي من القدسِ .
فمنذُ عام( 1948) م تبنّتْ الحكوماتُ الإسرائيليةُ السياسةَ المتعاقبةَ ؛ لتهويدِ القدسِ بسلسلةِ إجراءاتٍ واعتداءاتٍ على أهلِ المدينةِ، وعلى الأماكنِ المقدسةِ “إسلاميةً ومسيحيةً” حتى لم تَبقَ حارةٌ أو زاويةٌ في القدسِ إلاّ وتعرّضتْ للحفرياتِ، فإذا اكتُشفتْ آثارٌ إسلاميةٌ؛ تلقى الإهمالَ والضياعَ، وحتى التدميرَ، ولا توَثَّقُ! وكان أهمَّ الانتهاكاتِ والاعتداءاتِ و أخطرَها؛ الشروعُ في تنفيذِ مخطّطاتِ الحفرياتِ تحتَ أساساتِ البلدةِ القديمةِ والأماكنِ المقدسةِ؛ بذريعةِ الكشفِ عن التاريخِ اليهوديّ، وهيكلِ سليمان، ولكنّ الهدفَ الحقيقيّ لهذه الحفرياتِ تصديعُ هذه المعالِمِ، والتسبُّبُ بانهيارِها.
إنّ الفكرَ الصهيونيّ، والأيدلوجيةَ الصهيونيةَ منذُ تَبلوُرِهما؛ تهدفانِ إلى اتّجاهٍ واحدٍ؛ هو النفيُّ الكاملُ للشعبِ الفلسطينيّ، وترحيلُه واستبدالُه باليهودِ من مختلفِ أنحاءِ العالم! وكانت الخطةُ ترتكزُ على الاستيلاءِ على أكبرِ مساحاتٍ ممكنةٍ من الأراضي الفلسطينية، وإجبارِ السكانِ الفلسطينيينَ على مغادرةِ أراضيهم وبيوتِهم، بمختلفِ الطرُقِ والوسائلِ ، ثُم دفْعِ الهجرةِ اليهوديةِ إلى أرضِ فلسطينَ، وهذا النهجُ الإسرائيليُّ أدّى بدَورِه إلى برنامجِ عملٍ يوميٍّ؛ يرمي إلى إعادةِ تكوينِ المدينةِ وتشكيلِها من جديدٍ، وإعادةِ صياغةِ التركيبةِ والخريطةِ السكانيةِ الديموغرافيةِ لها .
فإنّ إسرائيلَ سعتْ وتسعى إلي تحقيقِ وجودٍ يهوديٍّ دائمٍ ومباشرٍ في المسجدِ الأقصى ومحيطِه، وتحويلِ الهُويةِ العربيةِ الإسلاميةِ للقدسِ إلي هُويةٍ يهوديةٍ .
وفي المقابلِ ؛عندَ النظرِ في موقفِ الدولِ الإسلاميةِ والعربيةِ ؛من سياسةِ التهويدِ والتنكيلِ بالقدسِ، حيثُ أيقنَ المسلمونَ أنّ القدسَ أرضٌ عربيةٌ إسلاميةٌ غيرُ قابلةٍ للتنازلِ، وطالبوا العالمَ الإسلاميَّ بتحريرِ قِبلةِ المسلمينَ الأولى، وحمايةِ المقدساتِ الإسلاميةِ، حيثُ أنّ مؤتمراتِ القِممِ الإسلاميةِ كلَّها؛ نصّتْ على رفضِ الاحتلالِ والسيطرةِ الإسرائيليةِ على مقدساتِ المسلمين.
كما و أكّدتْ الأُمةُ العربيةُ بكاملِها رفضَها التامَّ للاحتلالِ الإسرائيليِّ لفلسطينَ عامةً، وللقدسِ خاصةً، إلاّ أنّ الموقفَ الرسميَّ العربيَّ غالباً ما يكتفي بالشجْبِ واستنكارِ الممارساتِ والاعتداءاتِ الإسرائيليةِ على المقدَّساتِ الإسلاميةِ في القدسِ، دونَ القيامِ بإجراءٍ فعّالٍ؛ لوقفِ تلكَ الاعتداءاتِ، وقد أكّدتْ جامعةُ الدولِ العربيةِ على أنها لن تعترفَ _تحتَ أيِّ ظرفٍ من الظروفِ_ بشرعيةِ الاحتلالِ، والإجراءاتِ التي تتّخِذُها إسرائيلُ “السلطةُ القائمةُ بالاحتلال” والتي ترمي إلى تغييرِ الوضعِ القانونيّ أو الشكلِ الجغرافيّ أو التركيبِ السكانيّ لمدينةِ القدس، ورفضِ سياسةِ التهويدِ.
ودَعتْ الجامعةُ العربيةُ كافةَ دولِ العالمِ إلى التحرُّكِ لوقفِ الممارساتِ الإسرائيليةِ ضدَّ المقدساتِ الإسلاميةِ، والإسراعِ في التوصلِ إلى حلٍّ لقضيةِ القدسِ من خلالِ المفاوضات.
ولكنني أريدُ في نهايةِ مقالي؛ أنْ أُعقِّبَ على الوسيلةِ التي اقترحتْها، ودَعتْ إليها الجامعةُ العربيةُ، لحلِّ قضيةِ القدس وهي ” وسيلة المفاوضات ” وبكلِّ أسفٍ؛ الجامعةُ العربيةُ اقتصرتْ في طريقةِ حلِّ القضيةِ على المفاوضاتِ؛ التي تُعَدُّ حصاناً خاسراً بكلِّ المقاييسِ، وفي كل الجولاتِ والمراحلِ؛ لأنها غيرُ مُجدِيةٍ في مواجهةِ الهمجيةِ الصهيونيةِ الإسرائيلية، وأعتقدُ أنّ الجامعةَ العربيةَ تتبنَّى وسيلةً ضعيفةً للحلِّ، ولم تمتلكْ زمامَ القوةِ في أيِّ موقفٍ عبرَ مراحلِ التهويدِ؛ التي مرّتْ بها القدسُ ، فكان من الأجدرِ استخدامُ وسائلَ أكثرَ قوةً؛ لِثَنيِ ومنعِ إسرائيلَ من تهويدِ القدسِ؛ أبرزُها المقاطعةُ السياسيةُ والاقتصاديةُ، وإنهاءُ عمليةِ التطبيعِ التي مارستْها إسرائيلُ مع معظمِ الدولِ العربيةِ، بالإضافةِ لدعمِ المقاومةِ الفلسطينيةِ في مجابهةِ ومواجهةِ العدوِّ الصهيونيّ .