غير مصنف

“وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم”

بقلم : أحمد أبو رتيمة  ناشط شبابي

“وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم”

كلامي هذا ليس تحليلاً سياسياً ولا تنبؤاً بما ستؤول إليه الأحداث إنما هو محاولة لفهم الغاية الوجودية مما قد وقع فعلاً من أحداث شديدة على نفوسنا حتى يساعدنا هذا الفهم في حسن الظن بالله وألا تؤدي بنا الزلزلة الشديدة إلى أن نظن بالله الظنون..

شطر آية تلخص المشهد بأكمله “وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين”...

الرغبة البشرية تميل دائماً إلى الخيارات السهلة المريحة وتكره المواجهة والنفير وطريق ذات الشوكة لذا يصف الله حال المؤمنين من أصحاب النبي وهم خير جيل: “وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون”..

كان المؤمنون يفضلون العير على النفير، والعبرة في هذه الآية كما في القرآن عموماً ليست بخصوص السبب المتمثل هنا في غزوة بدر إنما تشتمل سنةً عامةً، فالبشر يؤثرون دائماً الخيارات السهلة ويودون أن يعفوا من طريق المواجهة والابتلاء ..

في الحالة المصرية كنا نود أن تكون غير ذات الشوكة لنا فنفوز في الانتخابات ويستقر لنا الملك ونقضي على الفلول ونطهر القضاء والإعلام والداخلية والجيش ثم تستقر لنا الأمور ونحكم دون منغصات لكن التدبير الإلهي مختلف “ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون”..

إذاً السنة الإلهية التي لا تتبدل ولا تتحول ولا تتأثر برغائبنا البشرية هي إحقاق الحق وإبطال الباطل وهذه السنة هي التي ترتكز عليها أحداث التاريخ، فصيرورة أحداث التاريخ تتجه نحو تحقيق هذا الهدف ليحق الحق ويبطل الباطل.. والحق والباطل هي معان متجردة تتعالى على تصنيفاتنا البشرية ففي كل لحظة هناك حق يجب أن يحق وباطل يجب أن يبطل لذا يصير الله الأحداث في الاتجاه الذي يحق الحق أي يظهره ويرسخه ويثبته ويبطل الباطل أي يفضحه ويسقطه ويكشف زيفه أمام الناس..

تحقيق هذه الغاية الإلهية يتطلب حراكاً دائماً لذا فإن طبيعة التاريخ طبيعة ديناميكية وليست استاتيكية فلا يوجد مصطلح نهاية التاريخ، وكل حدث يمهد للحدث الذي يليه في سلسلة متواصلة من الأسباب والنتائج إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وحين نزلت آية “اليوم أكملت لكم دينكم” بكى أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأنه تفطن ببصيرته التاريخية إلى أن الكمال لا بد أن يتبعه نقصان، لذا فإن التاريخ لم يذكر ولن يذكر أن الملك استقر ودام لأمة من الأمم أو جماعة من الجماعة إنما هي حركة دائمة “وتلك الأيام نداولها بين الناس”..

فهم الطبيعة الحركية للتاريخ يجعلنا ندرك أن الأحداث لا بد أن تظل في حالة دينامية متواصلة فهذا شرط ضروري لا يمكن تصور الحياة بدونه، ويدفعنا لاستشراف المستقبل وماذا سيكون بعد أن نحقق أهدافنا..

العقلية الاستاتيكية تتوهم أن هناك شكلاً نهائياً يؤدي إلى الاستقرار لذا فهي تبذل كل جهدها للوصول إلى أنموذج متخيل، لكنها تغفل عن الخطوة التالية التي ينبغي الاستعداد للقيام بها فور تحقق هذا الأنموذج، مثلاً في حالتنا الفلسطينية نحلم بتحرير فلسطين ظانين أن تحقيق هذا الهدف الكبير هو نهاية المطاف، لكن أكثرنا لا يملك القدرة على التجاوز والتفكير في اليوم التالي لتحرير فلسطين، لأن العقلية الاستاتيكية هي التي تحكمنا فنتصور أن تحقيق هذا الهدف سيمثل نهاية التاريخ وأن سلسلة الأحداث التاريخية ستتوقف في ذلك اليوم وأن التاريخ لن يواصل مساره إن كان هبوطاً أم صعوداً..

في الحالة المصرية فإن العقلية الاستاتيكية تعبر عن نفسها بتخيل أن ينجح الرئيس محمد مرسي في بسط سيطرته وإحكام نفوذه وتطهير الإعلام والقضاء والداخلية والجيش ثم يستتب له الأمر ويطبق برنامجه الانتخابي دون منغصات ومعيقات..حسناً لا مشكلة في وضع هذه الأهداف وفي السعي الجاد لتحقيقها بل إن من الواجب العمل على تحقيقها، لكن المشكلة هي في الجمود على هذا الشكل وغياب القدرة على استشراف المستقبل وطرح سؤال: ماذا بعد؟؟

لو أن الحكم استقر لمحمد مرسي وتمكن فعلاً من تحقيق كل هذه الإنجازات العظيمة فطهر العسكر والقضاء والداخلية والإعلام وحقق النهضة والتنمية والرخاء في أعلى معدلاتها، ما هي الخطوة التي يمكن أن نتخيلها بعد ذلك؟؟ المشكلة أننا لا نحمل أي تصور لما بعد ذلك فنهاية التاريخ بالنسبة للعقلية الاستاتيكية في هذه الحالة يتمثل في حكم الإسلاميين، لكن ركود الماء يؤدي إلى الأسن، والسنة الإلهية هي في بقاء التدافع “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض” ولو استقر الأمر للإسلاميين فانفردوا به تماماً كما لو أنه استقر لغيرهم فسيغيب التحدي المستفز لمواصلة العمل وسيقعدون عن النفير وسيدب التراخي في نفوسهم وسيخلف جيل جديد من الذين لم يتحملوا عبء مرحلة الاستضعاف ولم يبذلوا جهداً في تحقيق النصر كما فعل الذين سبقوهم فلن يدركوا قيمة النصر الذي بين أيديهم وسينصرفون إلى حياة الترف والركون إلى الشهوات وسيكون تفريطهم بهذا النصر أسهل، وهكذا فإن غياب التحدي سيؤدي إلى الفساد..

هنا تتبين الحكمة الإلهية من صرفنا عن طريق غير ذات الشوكة، فطريق الشوكة لا يعطينا انتصارات سهلةً مما يبقينا في حالة حركية دائمة ويستفزنا لمواصلة العمل والتقدم ويبقي حالة التدافع بيننا وبين المنافسين حتى لا نركن ونقعد فتفسد الأرض..

حتى ندرك هذه المعاني العميقة لا بد أن نتخلص من فكرة مركزية الدولة، فالوصول للسلطة ليس هدفاً في ذاته وليس هو غاية المنتهى، إنما الغاية هي تحقيق سنة الابتلاء وسنة التدافع، فتؤدي هذه الحركية الدائمة إلى تقدم متواصل وتطهير وتزكية للنفوس، والدولة ليست سوى محطة من المحطات لتحقيق سنة التدافع فإن حيل بيننا وبينها كان لنا متسع في الأرضية الواسعة المتمثلة في المجتمع..

هذه الرؤية تؤدي إلى تجاوز الإطار الضيق الذي نحصر تفكيرنا فيه، وتحررنا من الشعور باليأس والتأزم وضيق الخيارات، فنحن أصحاب رسالة أوسع من أن تحصر في سلطة وانتخابات فينتهي هذا المشروع بانتهاء هذه السلطة، إنما أساس مشروعنا هو استهداف الإنسان والعمل على تحريره وتزكيته وتنميته في أي موقع كنا فيه، وسواء كانت غير ذات الشوكة أو ذات الشوكة فإن هذا لا يزعجنا لأنها في المحصلة ستحقق الهدف الوجودي المتمثل في إحقاق الحق وإبطال الباطل..

والله غالب على أمره..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى