العدوان على غزةحكايات الناجين

نور الدين… نجا من الموتِ ليواجهَ الحياةَ وحيداً بعد قُبلةِ الوداعِ

 الثريا غزة: آية عفانة

انتهتْ الحربُ؛ لكنّ جراحَ أطفالِ غزةَ لم تنتهِ بعدُ، بل بدأتْ معها حكاياتُ الشوقِ والفِراقِ على ذَويهم، لم يحلَموا بالسفرِ إلى بلدٍ جميلٍ ليقضوا فيه إجازتَهم الصيفيةَ، فإغلاقُ المعبرِ يحولُ دونَ سفرِ المرضى للعلاجِ! فضلاً عن السفرِ للسياحةِ، كما أنّ أوضاعَ أهالي قطاعِ غزةَ تَحولُ دونَ تلكَ الأُمنيّاتِ؛ التي تتمتعُ بها كلُّ الشعوبِ، فقد كان جلُّ أمنيّاتِ أطفالِ غزةَ أنْ يعيشوا بأمانٍ مع عائلاتهم! ولكنّ آلةَ الحربِ الصهيونية بَترتْ حتى أبسطَ أمانيِّهم بصاروخٍ حلَّقَ بحياتِهم بعيداً؛ لتُمسي مُجردَ ذِكرى، الطفلُ “نور الدين حمد الناجي” الوحيدُ من عائلتِه شاهدٌ على مجازرِ الاحتلالِ، تُحاوِرُه “الثريا” وتطلقُ العنانَ لكلماتِه المصدومةِ، و خيالِه الذي يعجُّ بتفاصيلِ القتلِ والدمار.

يومُ الأربعاء ، الساعة الحاديةَ عشرَ ونصف، في أولِ أيامِ العدوانِ على قطاعِ غزة ، كانت عائلةُ “حمد” على موعدٍ مع الشهادةِ! و كان “نور الدين” على موعدٍ مع رحلةِ الفِراقِ؛ التي لم يكنْ يحسبِ لها حساباً، كانوا يجلسون معا… يرتشفونَ الشايَ في حديقةِ منزلِهم، اجتمعتْ الوالدةُ المُسنّةُ مع أبنائها و زوجاتِهم وأحفادها، يتداولون أطرافَ الحديثِ… بينما قبّلَ “نور الدين” جَبينَ والدَيه، واستأذنَهم باللعبِ مع أبناءِ عمِّه في زاويةٍ مجاورةٍ لهم، لم يكنُْ “نور الدين” يَعلمُ أنها القُبلةُ الأخيرةُ ! فلا تزالُ ذاكرتُه تَطبعُ ذلك المَشهدَ، و يمرُّ عليه في كلِّ ثانيةٍ، اختطفََ الموتُ حبيبَيهِ بلا سابقِ إنذار!! حينما باغتتْهم طائرةٌ حربيةٌ صهيونيةٌ بصاروخَينِ… أودَيا بحياةِ (6 ) من أفرادِ العائلةِ…  من بينِهم والدا نور، وأصيبَ طفلانِ من ضِمنِهم “نور الدين” بإصابةٍ أدّتْ إلى خروجِ أحشائه!! لكنّ اللهَ كتبَ له النجاةَ!! و بعدِ إجرائه لعدّةِ عملياتٍ جراحيةٍ؛ تعافَى جزئياً… حيثُ لا يزالُ لا يستطيعُ تناولَ الطعامِ، بل يتناولُ طعامَ الأطفالِ، ويحتاجُ إلى عامَينِ ليعودَ لحالتِه الطبيعيةِ .

والدي أحياء

9998481454هل يسامحُ “نور الدين” العالمَ الذي تركَه بدونِ أبٍ أو أُم!؟ من سيُضمّدُ جراحَه؟ من سيُعِدُّ له الطعامَ؟  من سيذهبُ معه في أولِ يومٍ  بالمدرسةِ؟ ماذا سيكونُ شعورُه حينما يرى  كثيراً من الأطفالِ  بصُحبةِ ذويهِم؟ لماذا يَقتلونَ الأبرياءَ بهذه البساطةِ؟ لماذا يهدمونَ البيوتَ على رؤوسِ ساكنيها؟ لماذا يصمتُ العالمُ على جرائمِ الاحتلالِ الصهيوني…؟ أسئلةٌ كثيرةٌ إجاباتُها مُفرغةٌ، و سلوانا أنَّ شهداءَنا في الجنةِ، و قتلاهم في النارِ، فعلى الرغمِ من الصمودِ الأسطوريّ الذي سطّرَه الشعبُ الفلسطينيّ في مواجهتِه للعدوانِ الإسرائيليّ؛ إلاّ أنّ الاحتلالَ تركَ _ولا يزالُ_ بصماتِه المريرةَ على الأطفالِ.

حاولْنا أنْ نتحدّثَ مع “نور”؛ لكنّ علاماتِ الصدمةِ لا تزالُ ماثلةً في ملامحِ وجهِه… فالأيامُ لم تمسحْ _ولو قليلاً_ من حزنِه، وسنواتُ عمرِه الست تجعلُه لا يستوعبُ ما حدثَ له، وأولُ ما قاله لنا “والدايَ أحياء… لا تقولوا استُشهدوا!! سيأتون إلى البيتِ قريباً”.

“خدوني عندكم”

تبعثرتْ كلماتُ اللغةِ أمامَنا! فلم نعدْ نقوَى على الحديثِ! قُلنا له” أهلُكَ في الجنة”، وكرّرتْ قولَنا جدَّتُه أمُّ والدتِه التي تقومُ على رعايتِه، وقالتْ هم في الجنةِ… في السماءِ يسمعونَك و يرَونكَ، باغتَنا بعبارتِه:” إذا كانوا يسمعوني فأنا أقولُ لهم: تعالوا عندي، أو خدوني عندكم” ،” بدّي أشوفهم، مشتاق إلهم… بدي أعيش معهم”، قالتْ له جدّتُه، والعَبَراتُ تخنقُ صوتَها :” ما بنفع يا ستّي… هم في السماء”، لم يقتنعْ! وقال بطفولةٍ عفوية :”بدي أموِّت حالي عشان أروح عندهم “، لم تتمالكْ جدَّتُه نفسَها!! و لَكَمْ تكابرُ أكثرَ!! فكان دَفقُ دمعِها أكثرَ وقعاً من الحديثِ!!.

لم يتحدّثْ معنا أكثر، و التصقَ “نور الدين” بجدّتهِ أكثرَ و أكثر… أشاحَ بوجِهه بعيداً عنّا علّه يرى شعاعَ أملٍ يوصلُ اشتياقَه لوالدَيهِ!!، رغمَ أنه رأى مَشهدَ استشهادِ والدَيهِ أمامَ عينيهِ؛ إلاّ أنه يقولُ لمَن حولَه؛ أنّ والدَيهِ سيعودانِ قريباً كما تقولُ جدّتُه”.

وتضيفُ بمرارةٍ تضجُّ في صوتِها :”تعرّضَ “نور الدين” لصدمةٍ أفقدتْهُ الرغبةَ بالحديثِ مع الآخَرينَ، وأجدُ صعوبةً في التعاملِ معه، لاسيّما وأنّ طريقةَ تعبيرِه الوحيدةَ؛ هي الصراخُ والضربُ والتكسيرُ” .

وتناشدُ جدّتُه الجهاتِ المعنيةَ ؛أنْ تتولَّى رعايتَه من الناحيةِ النفسيةِ، و تطالبُ المُرشدينَ النفسيّين بالقيامِ بمَهامِّهم في رعايةِ هؤلاءِ الأطفالِ، خصوصاً “نور” الذي أصابتْهُ إعاقةٌ نفسيةٌ؛ هي أكثرُ ضرراً من الإصابةِ الجسديةِ .

الفقد  أكثر إيلاما

وتتابعُ جدَّتُه :”وحول حالةِ “نور الدين” تحدَّثنا إلى الخبيرِ النفسي د. “درداح الشاعر” يبيّنُ أنّ الفقدَ أكثرُ الخبراتِ إيلاماً للأطفالِ على وجهِ التحديدِ! لأنّ هذا يعني انعدامَ الأمانِ، وازديادَ حالةِ الخوف”.

 ويضيفُ د. الشاعر :” يجبُ أنْ يكونَ هناك شخصيةٌ مركزيةٌ بديلةٌ عن الأمِّ والأبِّ لتعويضِهم  الحبَّ والحنانَ، كأنْ تكونَ (خالة، عمة، أو جدة)،وفي هذه الحالةِ يفضَّلُ أنْ يكونَ البديلُ يمتلكُ شخصيةً قويةً و معنوياتٍ مرتفعةً؛ ليحفظَهم من الأخطارِ، ويرعاهم حقَّ الرعايةِ “.

وحول الأساليبِ التي يجبُ أنْ يلجأَ إليها البديلُ لتفريغِ الشِّحناتِ والسلبيةِ لدى الطفلِ؛ حثَّ “الشاعر” على ضرورةِ ممارسةِ بعض الأنشطةِ: مِثلَ الرسمِ والألعابِ، وزيارةِ الأصدقاء، وتقديمِ صورةٍ من صورِ الدعمِ المعنويّ: كالحديثِ عن انتقالِ مَن فقدوهم إلى الجنةِ وللرضوانِ، وتقديمِ الدعمِ النفسيّ والروحانيّ اللازمِ؛ كي يتمكّنوا من التخلُّصِ من المشاكلِ المستعصيةِ، وعرضِهم على أخصائيّ نفسيّ للحديثِ معهم و معالجتِهم .

وجروحُ الأطفالِ النفسية هي أَبعدُ من أنْ تكونَ جرحاً يشفَى بعدَ انتهاءِ العدوانِ، و أقسَى من أنْ تُنسَى! و آثارُ الجريمةِ لا تزالُ حيةً على جدرانِ منزلِهم المُلطَّخِ بالدماءِ!، لعلّ الأيامَ القادمةَ تمسحُ جراحَهم! و تداوي قلوبَهم التي تفطّرتْ من لوعةِ الفراقِ وألمِ الاشتياقِ!!،فأكثرُ ما يَشفي صدورَهم انتقامُ المقاومةِ لدماءِ شهدائِهم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى