أطفالُ غزةَ: إجازةٌ صيفيةٌ بطَعمِ الموتِ واصرار على مواصلة التعليم!

الثريا: إسراء سعيد أبوزايدة
كبُرَ أطفالُ الحجارة، وصنعوا الصواريخَ من العدَمِ، وفي ظِلِّ حصارٍ مُحكَمٍ على قطاعِ غزةَ, أطفالُ هذا العصرِ سيَصنعونَ من الصواريخِ قنابلَ نوويةً؛ تُزلزلُ قلبَ الكيانِ الصهيونيّ، وتصيبُه في نخاعِه الشوكيّ، فيصابُ بالشللِ التامِّ، والعودةِ إلى حياةِ التشتُتِ والتشرذُمِ التي كان عليها في الدولِ الأوروبية.
أطفالُ غزةَ أصبح لدَيهِم خبرةٌ في الحروبِ, فحربُ العصفِ المأكولِ لم تكنْ الوحيدةَ التي مرَّغتْ أنفَ المحتلِّ؛ بل سبقتْها حربانِ في أقلَّ من عشرِ سنواتٍ, قلوبٌ متيقِّنةٌ أنّ النصرَ قادمٌ لا محالةَ, وأجسادٌ مُلتفَّةٌ حولَ مقاومةٍ باسلةٍ.
الطفلة “قمر الددا” ذاتُ الأربعةَ عشرَ عاماً من سكانِ حيِّ التفاحِ, سلبَ الاحتلالُ منها ومن ذَويها أدنَى حقوقِهم؛ ألا وهي الأمنُ والاستقرارُ, تَصِفُ لنا رهبةَ الحربِ وسخونةَ لياليها, والرصاصَ الذي رافقَهم في كلِّ مكانٍ تَخُطُّ أقدامُهم عليه، يرسلُ لهم رسائلَ الكراهيةِ والعنصريةِ! ويُرهبُ قلوبَهم الصغيرةَ!.
تتحدّثُ الطفلة”الددا” لــ “الثريا” عن أيامِ الرعبِ التي جعلتْ كلَّ نبضةٍ في قلبِها كرصاصةٍ تخترقُ جسدَها…! وفي بيتٍ مستورٍ، سقفُه من “الزينقو” مكوَّنٌ من غرفتينِ وحمّامٍ ومطبخٍ وصالةٍ صغيرةٍ تسكُنُ فيه قمر, لم يشفعْ له شكلُه المتواضعُ جدّاً من تطايُرِ أساساتِه كالورقِ في الهواءِ, :” بيتُ عمّي مكوّنٌ من خمسةِ طوابقَ, تمَّ قصْفُه بأولِ صاروخٍ من قِبلِ الطائراتِ الحربيةِ بِدونِ طيارٍ, وتطايرَ سقفُ سطحِنا المكوّنُ من “الزينقو”, ما كنا عارفين وين نروح!, وفي بيت عمّي حوالي( 50) شخصاً, هربَ الجميعُ كأنه يومُ الحشرِ,وتصِفُ “الددا” المَشاهدَة بالقولِ(اللي طلع حافي، واللي طلعتْ بشعرها, وبعد دقائق معدودة؛ نزَّلوا البيت زي البسكوت بصاروخ اف16).
وجهٌ طفوليٌّ مطبوعٌ على ملامحِه علامةُ الجودةِ في الحزنِ, سلَبوا منه أدنَى حقوقِه ألا وهي الابتسامةُ, وتضيفُ قمر:” من شدّةِ القصفِ تناثرتْ الشظايا على بيتِنا, وكانت حبيباتُ الزجاجِ المكسورِ تَتغلغلُ تحتَ أاقدامِنا, وتضيفُ و شريطٌ من الذكرياتِ يلفُّ في مخيّلتِها :”صرنا نحبي عشان نطلع من البيت قبل ما يوقع علينا, وأضحت المنطقة أثراً بعدَ عين! كأنه زلزالٌ أصابنا!, وهدمَ بيتَنا والبيوتَ المجاورةَ , ذهبْنا إلى بيتِ عمّي الآخَر , ما إنْ وصلْنا؛ قُصفتْ سيارةٌ أمامَ البيتِ, رأينا مَشاهدَ تقشَعِرُّ لها الأابدانُ, ثلاثةُ شهداءٍ رؤوسهم انفصلتْ عن أاجسادِهم”.
وتُتابعُ حديثَها بصوتٍ مخنوقٍ؛ كأنّ شريطاً مصوَّراً يمُرُّ أامام مرأى أعيُنِها، واصفةً لنا قسوةَ أيامٍ اخترقتْ طفولتَها:” صرنا نتشاهد على حالنا وندعي ونقرأ قرآن”.ومازالتْ “قمر” تردِّدُ حسبيَ اللهُ ونِعمَ الوكيل على اليهودِ, والدولِ العربيةِ, ومَن تآمرَ على غزةَ، وتركَها لوحدِها, وعيونُها لم تجِفّ من الدموعِ.
حرقةٌ تعتصرُ قلوبَ الصغارِ قبلَ الكبارِ, وتَسردُ لنا باقي الحكايةِ بقلبٍ مكتوٍ ى متحسِّرٍ على ما حدثَ بالشعبِ الفلسطينيّ من نكبةٍ حقيقيةٍ:” خرجْنا من المنطقةِ بعد ذلك, وأبوي ذهب ليرى ما تبقى من بيتنا, ونحن نبكي، وقلنا له بعوّض الله عالدار، ربنا حيعوضنا بأفضل منها”.
وتسردُ لنا حكايةَ تَشتُتِ شملِ العائلةِ، وتفاصيلَ جديدةً عايشوها بِمُرِّها وقسوتِها قوستها:” ذهبْنا إلى مدارسِ الإيواءِ في منتصفِ “رمضان” ولحد الآن وما حدا سائل فينا , بيعتبروا حالهم عوضونا لما يعطونا الأكل , كُنا معزّزين مكرّمين ببيوتنا , لا نحتاج لطعام أو شراب من اأحد!، نحن لسنا متسوّلين! ولا ننتظر لقمة الطعام!، حسبي الله ونعم الوكيل على اليهود والعرب المتآمرين اإلّلي تكالبوا على شعبنا، ووصّلونا لهادي الحالة، و ربنا ينصر المقاومة اإلّلي ردّت اإلنا اعتبارنا، و خفّفتْ عنا مصابنا”.
عائلةُ “قمر” كآلافٍ من العائلاتِ الغزيّة… دمَّرَ الاحتلالُ الصهيوني بيوتَهم؛ فأصبحوا بلا مأوى, تقولُ:” ربنا ستّار بعباده, بيداوينا وبيشفي جراحنا,زينا زي كل هالناس, ما في حدا اأحسن من حدا بهاد الوضع”.
وعن شعورِها لبدءِ العامِ الدراسي؛ وقد دُمّرَ بيتُها، وتبعثرتْ كتبُها بالهواءِ تقولُ:” هم دمّروا بيوتنا؛ لكنهم لم يدمّروا اإرادتَنا وأحلامَنا وحبَّنا للتعليمِ، واإكمالِ مسيرتِنا التي بدأناها، فلن يوقِفَنا اإرهابُهم ولا تدميرُهم، بل نقولُ لهم سنحملُ اأقلامَنا باليدِ اليمنى وسنحملُ سلاحَنا باليدِ اليُسرى “.
وترسلُ “قمر” رسالتَها للمقاومةِ؛ مصحوبةً بملامحِ الفخرِ والعِغزّةِ :”نصركمُ اللهُ، وثبّتَكم تبثتكم و سدَّدَ رَميكَم، فأنتم فخرُ أُمّتِنا وعِزُّنا، و بكم ومعكم سنُحرِّرُ اأرضَ فلسطينَ كاملةً بإذنِ الله”.
وأنهتْ “قمر” حديثَها بقولٍ حاسمٍ:” لولا المقاومةُ؛ كان اليهود عبَروا على غزة، ودبحوا الناس، ورموهم بحاوية النفايات… أعزَّكُم الله”.