العدوان على غزةحكايات الناجين

” ملائكةُ الرحمةِ “شهاداتُ وجعٍ على الحرب

الثريا_ آصال أبو طاقية :

خاضُوا معتركَ الحياة بلباسِهم الأبيض، تحت قصفٍ عنيفٍ ودماءٍ تناثرتْ في كل مكان، أشلاءٌ ممزقةٌ شوّهت معالمَ الأجسادِ، اختلطتْ الأرواحُ، وأضحى _قسْراً عليهم_ أنْ يعيشوا في هكذا أجواء، فلطالما أطلقَ عليهم ” ملائكة الرحمة “.

تركوا فِلذاتِ أكبادهم وأزواجَهم من ورائهم، استودعوهم رعايةَ الرحمنِ، ودَعوا اللهَ أنْ يحفظَهم من كلِّ سوء، خرجوا لتأديةِ رسالتهم حاملينَ أرواحَهم على أكتافِهم، متمنّين أنْ تمضيَ الأيامُ على خيرٍ دونَ فَقدِ حبيبٍ أو إصابةِ رفيقٍ.

الدكتور “يوسف أبو الريش” وكيلُ وزارةِ الصحةِ الفلسطينيةِ يقولُ لـ”الثريا:” كانت أجواءُ الحربِ قاسيةً جداً على الأطباء والعاملين بوزارة الصحة ، صعوبةٌ في الوصول لأماكنِ العمل، لعدمِ وجود طرُقٍ آمنةٍ، واستهدافُ كلِّ شيء متحرّك، واستهدافُ عوائلَ وبيوتٍ، ونزوح ُالكثير منهم إلى أماكن مختلفة، إلاّ أنهم أصرُّوا على استمرار عملِهم، وتضميدِ جراحاتِ شعبهم “.

ويضيف (65%) منهم لم يكنْ لديهِم المالُ الكافي للتحرك؛ مما دفعهم للاقتراضِ من آخَرينَ، أو القدومِ إلى العمل مشياً على الأقدام، ولولا وجودُ عاملِ التحدي والصبرِ لديهم؛ لما استمرَّ العملُ بهذا القدرِ من المسؤوليةِ الاجتماعية!! .

أسلحةٌ فتّاكة

وعن بعض المواقف التي تجلّتْ فيها معاني الصمود يذكر د. “أبو الريش” منها؛ حالةَ الثبات الأسطوريةَ التي رآها في أشخاص فرادَى نجوا من عائلاتٍ أبيدتْ بالكامل! تشدُّ من أزرِ المقاومة، وتؤكّدُ الثباتَ على المبادئ والدفاعَ عن الأرض .

ويتابع :” لقد ارتكب الاحتلالُ جرائمَ مركّبةً من خلال استخدامِ أسلحةِ فتّاكة ” الدايم ” والتي لا تُستخدم حتى في حرب الجيوشِ؛ تسببتْ في بتر الأطرافِ وتمزيقِ الأوصال، عدا عن منعِه وصولَ سياراتِ الإسعاف إلى أماكنِ الاستهدافِ، واستهدافِه لسيارات الإسعافِ و المنشآتِ الصحية “.

أمّا رئيس قسم التخديرِ في مجمّع ناصر الطبي، بمدينة خانيونس د. “نبيل الأسطل”” فيقول :” هناك الكثيرُ من الحالاتِ الصعبة: بَترٌ بالأعضاءِ، وحروقٌ غريبة جداً، إضافةَ إلى سرعة التهابها خلال ساعاتٍ قليلة، وكانت الشظايا تصيبُ أعضاء الجسدِ من الداخل بشكلٍ مباشر وتُتلِفُه” .

ويضيف :” من الصعب جداً أنْ تمارسَ عملَك؛ وأنت تتوقّعُ في كل لحظةٍ أنه من الممكنِ أنْ يُستهدفَ الأهل، ما جعلني أعيشُ في ضغطٍ نفسي رهيبٍ، لأنّ القصفَ عشوائييٌّ!! فحينما أسمعُ أنّ أحداً أصيبَ من منطقة بيتي؛ أسارع إلى الاستقبالِ كي أتأكدَ أنّ عائلتي بخير”.

ما كنتُ أخشاهُ حدثَ بالفعل! فقد أصيبتْ بناتي الثلاثُ ، لين ” 3 سنوات” أصيبتْ في الحوض وكسرٍ في الساق، وندى ” 9 سنوات ” بشظايا في البطنِ، وتمزقٍ في الأمعاء، أمّا خديجة ” 5 سنوات” أصيبتْ بشظايا في جميع أنحاء جسدِها، إلاّ أنّ ما حدثَ لم يكنْ ليثنيَني عن عملي ولو للحظةٍ واحدة.

مشاهدُ مؤلمة

وعن أصعب المواقفِ تحدّثَ عن امرأةٍ في العشرين من عمرِها، قد بُترتْ ساقيها من فوق الركبةِ، وابنتُها الصغيرة ذاتُ العام الواحد تنامُ في حِضنِها وهي مصابة، وعند دخولها لغرفةِ العملياتِ بقيتْ الطفلةُ مع جدّتها على البابِ؛ تنتظرُ خروجَ أمِّها إليها! .

ويتابع د. الأسطل :” لقد عايشتُ جميعَ الحروب، إلاّ أنّ هذه المرّةَ كانت الإصاباتُ بشكلٍ مختلفٍ تماماً، فالشظايا في كثيرٍ من الأحيانِ عند تصويرِها في صورة الأشعةِ لا تظهرُ، إلاّ أننا نتفاجأ بوجودِها بالجرحِ أثناء إجراءِ العملية، لذلك نطالبُ الجهاتِ المعنيةَ بمتابعةِ نوعية الإصاباتِ والسلاحِ المستخدَمِ، ومضاعفاتِه التي تنتجُ عنه” .

أما مديرُ قسمِ الاستقبالِ والطوارئ في مستشفى الشفاء د. “أيمن السحباني” فيقول :” استقبلْنا عدداً مهولاً من الإصاباتِ! ، العمل متواصلٌ لا ينقطعُ، وسطَ شهاداتٍ من الجميع بعِظمِ الإنجازاتِ والعملِ الدؤوبِ الكبير ، في بعض الأحيان خلال أيامِ رمضان؛ كان يضطّرُ الأطباءُ لكسرِ صيامهم في الساعة (11 )ليلاً؛ بشربةِ ماءٍ لا تسمنُ ولا تغني من جوع!.

ويذكر د. “السحباني” بعضَ المواقف العصيبةِ التي رآها؛ طفلةٌ في الخامسةِ من عمرها؛ أُدخلتْ إلى العنايةِ المركّزة، وهي تلفظُ أنفاسها الأخيرةَ؛ لإصابتها بجروح بالغةٍ في فكِّها، وكسرِ أسنانِها؛ كانت تقول بصعوبةٍ شديدة ” أنا ما بدي أموت ” ومع كل حرفٍ تنطِقُه كان يدخلُ بقايا أسنانِها وفكِّها إلى الداخلِ.

“مشان الله”

أما الموقفُ الآخرُ؛ عندما جيء بالأبِ مبتورَ القدمينِ، برفقةِ أولادِه الأربعة، وقد وضعوهُ على أسِرَّةِ المستشفى، وباشرَ الطبيبُ في فحص الأبِ، فقال له ” الحقوا أولادي مشان الله” ، وعندما ذهب إلى أبنائه بجانبه صرخوا ” روح الحقوا أبوي ” .

ويوضّح أنّ الأسلحةَ التي تمَّ استخدامُها غريبةٌ جداً، فقد كان الأطباءُ يُخيطوا الجروحَ؛ إلاّ أنها تستمرُّ في النزيفِ، مما يدلِّلُ على استخدامِ نوعيةٍ مختلفةٍ من الأسلحةِ القاتلةِ والمدمّرة، إلى جانب وجودِ أطفالٍ بدونِ رؤوسٍ!! ومقطّعةٍ إلى نصفينِ! وأشلاءٍ محترقةٍ كنّا نتعرّفُ على أصحابِها من عظامِ الجمجمةِ والفخذِ!! .

زادَهم إصراراً…

أمّا طبيبُ الباطنةِ في مستشفى الأوروبي د. “أحمد الحتة” فكان يذهب من غزة إلى المستشفى الأوروبي في جنوب القطاعِ، ويعودُ إلى بيتِه تحت القصفِ المتواصلِ في كل مكانٍ، وخطورةِ الوضعِ؛ من أجلِ أنْ يقومَ بعملِه على أكملِ وجهٍ .

ويقول :” لقد استقبلْنا رفاقَنا في العملِ شهداءَ من الأطباءِ والمسعفينَ والممرضين؛ إلاّ أنّ ذلك لم يُثنِ أيّاً من الزملاءِ عن الاستمرارِ في عملِه، بل زادهم إصراراً وتسابُقاً لخدمةِ شعبهم؛ يقيناً منهم بأنها رسالةٌ لا بدِّ من تأديتِها تُجاهَ الوطنِ والقضية “.

ويتابع د. الحتة :” لقد شهِدنا حرباً قاسيةً؛ لم تَستثنِ أحداً، وخاصةً الأطفالَ والنساءَ وكبارَ السنِّ، واستخدمَ فيها العدوُّ سلاحاً محرَّماً دولياً؛ تسبّبَ في كثرةِ إصاباتِ البترِ والحروقِ غيرِ العاديةِ، عدا عن آثارِه المُسرطِنة في المدَى البعيدِ “.

ويذكرُ بعضَ المشاهدِ المؤثّرةِ؛ حينما وصلَ طفلٌ وحدَه عبرَ الإسعافِ، ولا يتجاوزُ خمسةَ أشهر، مصابٌ بنسبة (50%) بحروقٍ في جسدِه ، بقيَ لأيامٍ عديدةٍ حتى تمَّ التعرُّفُ عليه من قِبلِ أحدِ أقربائه؛ لاستشهادِ عائلتِه! .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى