أسرانا

“أسعد أبو صلاح” حكاية جسد روحه متعلقة بتحرير الأسرى

تقرير: محمد هنية

لا زلنا نرصد حكايات وآهات أهالي الأسرى، حكايات تحمل في طياتها معاناة فراق ولهفة لقاء لأحبة غابوا عن العين لكنهم لم يغيبوا للحظة عن القلب. حكايتنا لهذا اليوم تحكي قصة والد سُجِنَ هو وابناه وشقيقه وابن شقيقه في ليلة خبأها لهم القدر، لتبدأ هذه الأسرة بعدها فصلا جديدا من فصول المعاناة، فصل يتشابه بتفاصيله مع فصول لحكايات أسر فلسطينية أخرى لم نكشف النقاب عنها بعد، وهي أيضا تتشابه مع فصول سابقة خاضتها تلك العائلة.

بطل حكايتنا، هو الأسير المحرر في صفقة وفاء الأحرار “أسعد أبو صلاح”، والذي حُكِم عليه بالسجن لمدة 25 عاما قضى منها ثلاث سنوات.

اعتُقل “أسعد” هو وابناه، “فهمي” والمحكوم لمدة 20 عاما، و”صلاح” والمحكوم 15 عاما، وشقيقه “سعيد” والمحكوم عليه ست سنوات ونصف، وابن شقيقه “غسان” والمحكوم عليه مدة 15 عاما، اعتقلتهم قوات الاحتلال في ليلة السابع عشر من فبراير من عام 2008م بعد مداهمة القوات الصهيونية الخاصة لمنزلهم المقام على المنطقة الحدودية شمال قطاع غزة.

لم يكن هذا الاعتقال الأول “لأسعد” بل اعتقل قبل ذلك أربع مرات، كانت أولاهن عام 1988م وحكم إداري مرتين مدة ستة أشهر على التوالي، وبعدها في عام 1990م وفي عام 1992م وحكم عليه الإداري في المرتين، والمرة الرابعة عام 1993م وحكم عليه ثلاث سنوات ونصف أمضى منها عامين وخرج في صفقة التبادل بين الاحتلال والسلطة الفلسطينية عقب اتفاقية أوسلو.

يحدثنا أسعد عن أيام الأسر فيبدأ حديثه بعد تنهيدة طويلة رسمت بزفراتها ألما غرسه الاحتلال بقوة، فيقول: “كانت تلك الأيام عصيبة جدا، خصوصا أننا لم نترك ورائنا أحدا يعيل أسرتي أو أسرة أخي، لكن صمدنا وبفضل الله قهرنا السجان”، ويحدثنا “أسعد” عن المفارقة العجيبة حيث خرج في عام 95 وترك خلفه إخواننا وأصدقاء، وعاد إليهم في عام 2008م ليعود إلى نفس الزنزانة مع وجود عدد من إخوانه الذين تركهم، فيحدثنا عن عزائمهم القوية وصمودهم الأسطوري، ليخرج هو وإخوانه في صفقة التبادل، معلنين انتصارهم الحقيقي وقهرهم للسجان.

شريط الألم

وفي اختصار لشريط الحياة يتحدث “أسعد” عن لحظات الأسر مع أبنائه وابن شقيقه في نفس الزنزانة، فيبدأ حديثه وقد ترطبت عيناه تمهيدا لتساقط دموع اللوعة والاشتياق، فيقول: “كنا نستذكر حياتنا ونحن خارج السجن ونتبادل الذكريات والمواقف، كنا نحاول أن نفك عن حزننا بتذكر الألم..!!”، ويتحدث “أسعد” عن مواقفه مع أبنائه فيقول: “كنت لما أكون قاعد وسرحان وافكر في شغلة، كان يأتي ابني فهمي ويكون عامل كاسة شاي أو قهوة، ويقول لي هونها يا حج ويقعد يمزح معي”، ويستذكر مع صلاح موقفا آخر فيقول: “جائني مرة مسرعا وبيده الجوال وقال لي أمي عالخط فأخذت الجوال بلهفة ورديت فلم يكن أحدا، فقال لي بدي أشوف قديش بتحب أمي”، ولا زال يستذكر أكلات السجن التي كان يعملها ابنه صلاح والذي يعلق عليها بالقول: “كان صلاح يعمل أكلا لذيذا جدا

كان يعمل المقلوبة والصيادية، ووالله لا زالت نكهة طعامه عالقة فيّ حتى الآن”.
ويحدثنا عن أصعب المواقف التي واجهته حينما اتصل في أول أيام عيد الأضحى ليهنئ والدته وفي اليوم الثاني اتصل ليحدث والدته وإذا بزوجته تخبره بوفاة والدته، لينقل بعدها إلى مشفى سوروكا.

جسد بلا روح

وتتوالى الذكريات والمواقف والتي تمر بكل حرقة وألم في ذهن “أسعد” وتمر السنوات ليأتي يوم الإفراج عنه في صفقة وفاء الأحرار، يحدثنا “أسعد” عن لحظات ما قبل خروجه فيقول وقد بدأت دموعه بالانهمار: “كانت لحظات صعبة جداً جداً، فالجميع كان فرحان لأنه سيخرج للحرية، إلا أنا فلم تصلني الفرحة”.

ويتابع حديثه بالتزامن مع تتابع قطرات دموعه الساخنة،: “تخيل لحظة ما يدي تخرج من يد ابني، وأنا يدي بدها ستخرج للحرية ويد ابني ستبقى داخل السجن، لحظات قاسية وابني ينادي عليّ بقوله: يابا .. يابا”، ويضيف: “أنا خرجت بجسدي لكن روحي لا زالت في الأسر، أنا قاعد قدام جسد بلا روح”، لم يحتمل مواصلة حديثه ولم نحتمل الاستماع لأكثر من ذلك فتركنا المجال لدموعنا لتعانق حرارة دموعه، وبعد هذا التوقف لا بد للثبات من حديث، فيقول: “الحمد لله .. الحمد لله رب العالمين، بس إحنا راح ننتصر وكل أبنائنا راح يرجعوا بإذن الله”

ويختم “أسعد” حديثه بتوجيه همساته لأحباب الغياب، فيقول: “أهمس في أذن “فهمي” وبقوله والله بحبك، وفي أذن “صلاح” اقول له مشتاقلك كتير، وفي أذن غسان اقول له يا شَقِي جننتني، وأقول لأخي سعيد ربنا يفك أسرك يا رب”.

ودعناه وخرجنا داعين الله أن يفرج همه، لكن تلك الهمسات لا زالت تلوح في المكان، تنتظر أصحابها لتتناثر على مسامعهم، وتبقى معاناة عائلة “أبو صلاح” مستمرة، حالها كحال جميع أسر الأسرى الذين ينتظرون بأحر من الجمر ساعة الفرج لأبنائهم.. نترككم على موعد مع قصة جديدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى