كتاب الثريا

لماذا نرشِّدُ الهِمّة العالية..؟(الجزء الأول)

بقلم: تركي الشثري مثقف وباحث في الفكر الإسلامي وداعية إسلامي

ماذا نريدُ بهذا العنوانِ؟ ولأي شيء نصبو..؟

تركي الشثريالهِمّةُ العاليةُ من مطالبِ العمل أيّاً كانت، وهنا نتحدّثُ عن الإصلاحِ بكافةِ صوَره اليانعةِ، فإنّ الهمّةَ العاليةَ شرطٌ ضروريٌّ للمُصلِح، ولم يقصِّرْ العلماءُ في القديمِ والحديثِ عن التأليفِ في الهمّة والحثِّ عليها.

الهمّةُ وَقودُ الدعواتِ، وإكسيرُ الحركةِ والتأثيرِ على النفسِ المصاحبةِ لها والمجتمعِ المحيط ،إنها الثورةُ النفسيةُ الخلاّقةُ التي لا تستكينُ ولا تُهادِنُ على حسابِ مكاسبِها ،وما ترجوهُ من نتاجٍ، ولم نكتبْ للتأكيدِ على هذا المعنى، فهو مُستفاضٌ في الخطابِ الإسلاميّ بشكلٍ واضحٍ، ولكننا نرومُ الالتفافَ على هذا المعنى، وتوجيهَه للمسارِ الصحيحِ بما يناسبُ عصرَ الضوضاءِ والصخبِ، عندما فقدَ كلُّ شيءٍ سِمَته وسلامَه الداخليَّ، وسيكونُ ذلك فيما يلي :

نطالبُ أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى بترشيدِ الهمّةِ العاليةِ، ذلك أنّ عصرَ الصورةِ والضوءِ فتّاكٌ، والعدسةُ لا تُمهلُ ولا تُهملُ، بل هي معك، ومن بينٍ يديكَ ومن خَلفِكَ، فلا تكادُ تفكّرُ و تتساءلُ و تفترضُ؛ إلاّ والتقطتْكَ الكاميرا لتكونَ صوتاً ضِمنَ حُزمةٍ من الأصواتِ المتباينةِ المتناقضةِ في شاشةِ “اليوتيوب وفيس بوك” والفضائياتِ المتسوِّلةِ لأدنَى متحدِّثٍ يشغَلُ ساعاتِ البثِّ، إنها عدساتٌ تتخطّفُ الناسَ، ولا تُمهِلُهم كي يشبُّوا عن الطوقِ، ولا يتزبّبوا بعد أنْ يأخذوا حقَّهم من التحصرُمِ، وَيلٌ لنا من هذه العدساتِ الباهرةِ والاستوديوهاتِ الباذخةِ! لقد سرقتْ المبادئَ والقيمَ والركائزَ والمنهجَ، حيث يُملَى عليكَ في هذه القناةِ مالا يُملَى عليكَ في القناةِ الأخرى، فتقولُ في هذه أسوَدَ وفي تلكَ أبيضَ، وفي القناةِ الثالثةِ ستختارُ اللونَ الرّماديّ.. ولا بدّ ..؟

إنّ هذا الدّفقَ الهائلَ من المعلوماتِ والإعلاناتِ والمقاعدِ الخاليةِ، والفرصَ الإعلاميةَ الذهبيةَ التي ننتهِزُها سراعاً بلا هَوادةٍ؛ أنتجتْ لنا جيلاً خِدَاجاً من المتحدِّثينَ في كلِّ شؤونِ الحياةِ، بلا خُطةٍ ولا ترتيبٍ ولا انتقالٍ سَوِيّ من مستوى للذي يليهِ برفقٍ، وإعطاءِ كلِّ فترةٍ ما تحتاجُه من وقتٍ، فإنّ إحراقَ المراحلِ باتَ السِّمةَ الأولى لعصرِ السرعةِ .

وفي مُعلّقةِ زهير :
فتُنتجُ لكم غِلمانَ أشأمَ كلَّهم … كأحمرَ عاد ثُم تُرضعُ فتُفطم

يقول “ثورو” ( كيف يمكنُنا تذكُّرُ جهلِنا الذي تتطلبُه عمليةُ نموِّنا، بينما نستخدِمُ معرفتَنا طوالَ الوقت ) .

لكلِّ عصرٍ مثيراتُه واستجاباتُه، وبالفعلِ فسعادتُنا وطمأنينتُنا تكمُنُ فيما بين المثيرِ لنا والاستجابةِ مِنا، فموقفُنا الرشيدُ في كلّ مرّة  بين المثيرِ والاستجابةِ له؛ هو الفصلُ فيما سنكونُه فيما بعدُ، والخانةُ التي نكونُ فيها بين الممتلئينَ والفارغينَ .

وهذا الذي مرَّ إشارةٌ ومثالٌ بسيطٌ فقط؛ لنُنزِلَ القولَ في ترشيدِ الهمّةِ على عصرِ الاضطرابِ، وإلاّ فهذه الممارسةُ_ وهي ترشيدُ الهمّة_ عملٌ نبيلٌ يحتاجُ مقدّماتٍ متنوعةً، تتناسبُ مع كلّ مثالٍ ووجهٍ من وجوهِ العصرِ السريعِ المزعجِ، ولعلّنا نُثني  في إجابةِ هذا التساؤلِ بمقدّمةٍ فلسفيةٍ مبسّطةٍ؛ تغورُ قليلاً في النفسِ والأَنا :

“باراك أوباما” استلهمَ شِعارَه الانتخابي ( التغيير ) من كتابِ الأمريكيّ روبرت غرين ( كيف تُمسكُ بزمامِ القوةِ؟ ثمانُ وأربعونَ قاعدةً تُرشدُك إليها ) فقد اختارَ القاعدةَ الخامسةَ والأربعين، والتي تقولُ ( بشِّرْ بالحاجةِ إلى التغييرِ، ولكنْ إياكَ أنْ تُصلحَ أكثرَ من اللازمِ دفعةً واحدة ) .

الإنسانُ نفسانيّ مشغولٌ بنفسِه ،وبفهمِ الأنفسِ من حولِه ،ويتعيّن ذلك ويطَّرِدُ إذا خاضَ الإنسانُ بحرَ الإصلاحِ “الخِضَم” فهناك أصدقاءٌ وأعداءٌ ومخالِفونَ ومختلفونَ ومستهزؤون ومتربّصونَ ومُخذِّلون، وهناك قبلَ هذا وذاكَ نفسُك الأمّارةُ واللوامةُ، وتطلُّعك للمُطْمَئنة أنت محتاجٌ لفهمِ نفسكَ لاكتشافِ ذاتِك وحدودِك وطاقاتِك النفسيةِ، وبوصِلةِ تَحكُّمك في تلك النفسِ، ومحتاجٌ لفهمِ الآخَرين لمراعاة نفسياتِهم، والانتقالِ بهم بكلِّ سلاسةٍ ورفقٍ من حالٍ إلى حال، وهذا من أعقدِ الممارساتِ البشريةِ أنْ تقودَ أنفُسَ، فمن المعلومِ أنّ قيادةَ قطيعٍ من الغنمِ، أو قطيعٍ من البشرِ، سهلٌ وميسورٌ، وأمّا أنْ تقودَ قادةً، وتُربّي مُربَينَ، وتسوسُ ساسةً، فهذا هو المجالُ الصعبُ، والغايةُ المتساميةُ لكلِّ مُصلحٍ نبيلٍ.

“فمحمد صلى الله عليه وسلم” قادَ الصحابةَ الذين سادوا الدنيا، وعلّموا العالمَ الحِكمةَ والرّقيَّ البشريّ في صورتِه الكاملةِ، كانوا يحبّونه “صلى الله عليه وسلم” ويفتدونه بالمالِ والنفسِ والولدِ، وبَرهنوا على ذلك بالقولِ والفعلِ، والأمثلةُ تندُّ عن الحصرِ، ولكنه ربّاهم قادةً، فهذا سيفُ اللهِ المسلول، وذاك أعلَمُ بالحلالِ والحرامِ، والآخَرُ الفاروقُ.. وهكذا، يبعثُ السرايا والأمراءَ، ويجعلُ طاعتَهم دِيناً، ويبعثُ جيشَ الشامِ بقيادةِ الشابّ الصغير “أسامة بن زيد” ومن بين أجنادِه عمر بن الخطاب، وأكابرُ الأصحاب، إنك وأنتَ تقرأ السيرةَ العطرةَ؛ لتلمسَ جلياً أنّ الصحابةََ فهِموا عن النبيّ الكريمِ “عليه أفضلُ الصلاة وأتمُّ التسليم” أنه يُعِدُّهم لأمرٍ جَلَلٍ، ومُهمةٍ غايةٍ في الخطورةِ، ألا وهي الانتقالُ بالإسلامِ من القرنِ المفضّلِ للذي يليهِ؛ على قنطرةِ حربِ المرتدّين.

والخطرِ المُحدقِ بالمدينةِ التي برزَ إليها الدينُ ومن ثَم نشرُ الإسلامِ في مملكتي فارسَ والرومِ، بعدما تمَّ التمهيدُ لذلك بالتصريحِ والتلميحِ والمبشِّراتِ والأوامرِ النبويةِ، ليصلَ إلينا الذّكرُ الحكيمُ بفهمِهم، ولا تزالُ الطائفةُ المنصورةُ إلى قيامِ الساعةِ، تعاني هذه المُهمّةَ بإذنِ الله، وأنتَ أيها المُصلحُ لا تجَهزُ جيشاً من المقلّدين المتردّدين ولا المُريدينَ الضعفاءِ، والذين يموتون بموتِك، بل تهيئُ الأرضَ لرجالٍ هم روحُ الأرضِ، يسري معهم المنهجُ في الحِلِّ والترحالٍ وتقلّباتِ الزمانِ، وتبدُّلِ الأحوالِ، فتموتُ ويبقى المنهجُ، وترحلُ ويبقى الرجالُ، ولنا في التاريخِ عِبرٌ،

ومن شاهدَ الدرعيةَ بعدما دكّتها ترسانةُ “إبراهيم باشا” لم يظنّ أنْ تقومَ قائمةٌ لهؤلاء العربِ الأكارمِ في قلبِ “نجْد” الأبيةِ، ولكنها رقدةٌ تُضمّدُ الجراحَ لم تَطُلْ إلاّ على الإفاقةِ الثانيةِ، وبعد ذلك الثالثةِ، فلم تكنْ رهنَ رجلٍ ولا رجلين، وإنما كانت منهجاً يعلو ولا يُعلى، ودستوراً يشُبُّ عليه الصغيرُ، ويهرمُ عليه الكبيرُ، وتُسالُ على جوانبهِ الدماءُ، وقد مطَطنا هذا اللوحةَ التاريخيةَ القريبةَ بلُغةٍ باهتةٍ متسوّلةٍ للمناصبِ والهِباتِ، ولو كانت في أمّةٍ أخرى _بغَضِّ النظرِ عن ملابستِها والمسكوتِ عنه فيها_ فهي في الجُملةِ ملحمةٌ خالدةٌ وقصةَ بناءٍ متفرّدةٌ، لو كانت في أمّةٍ أخرى؛ لكُتبتْ بحبرٍ حارٍّ مشرقٍ لذيذٍ دافعٍ لمواصلةِ المَجدِ ودوامِ الُّلحمةِ على التوحيدِ في نسختِه الأصلية، ولكنْ هيهاتَ ولصوصُ المتاحفِ لا يخلو منهم عصرٌ ولا مِصرٌ، هم كالأرضةِ تنخرُ ولا ترى، وتموتُ بعدما تفرّخُ آلافَ العفنِ والنتَنِ .

إلى هنا نتوقف في هذا المقال و نستكمل الجزء الثاني منه في مقال يوم الاربعاء المقبل بإذن الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى