رغمَ المكائدِ و”المَعمعات” السياسيةِ؛ سطَّر قلمُهُنَّ نقاطاً فاصلةً

الأديباتُ الفلسطينياتُ..مقاومةٌ من نوعٍ آخَر
الثريا_ إسراء سعيد أبو زايدة
وطنٌ مضطَّهدٌ، لم تمنعْهُ حواجزُ المحتلِّ من إنجابِ سلسلةٍ لا متناهيةٍ من عمالقةِ الأدبِ؛ الذين غذّتْ آلامَهم النكباتُ, فترجموها روائعَ, نقلتْ واقعَهم المريرَ, عبرَ أقلامِهم، التي ما زالت تكسِرُ حاجزَ الصمتِ؛ لتُبرهنَ للعالمِ أجمع بأنّ الفلسطينيَّ صاحبُ أرضٍ وقضيةٍ.
اعتلَت المنبرَ السياسيَ النسويَ بجدارةٍ, بمكافحتِها طيلةَ حياتِها، وتحدِّيها الاحتلالَ وجبروتَه, وما زال قلمُها يصدحُ بصوتِ الحقِّ والحقيقةِ.”الثريا” تفتحُ قلبَ فلسطينيةِ الميلادِ والموتِ، الأديبةِ والصحفيةِ الفلسطينيةِ “لَمى خاطر” وتُبحرُ معها في سفينةِ الحياةِ، وتتصفّحُ ذاكرتَها النابضةَ بالوعي, فهي فلسطينيةُ الكلماتِ والصمتِ, إنْ تَحدّثتْ أصابتْ العدوَّ وأتباعَه في عقرِ بيتِهم, وإنْ صمتتْ فصمتُها مُذهِلٌ، والعيونُ تحدقُ على كلِّ جديدٍ تخُطُّه أناملُها، حيثُ تسطِّرُ كلماتِها كالبنيانِ المرصوصِ، بكلِّ ما أوتيتْ من قوةٍ، ولا تخافُ في اللهِ لَومَ لائمٍ.
طلبْنا منها بطاقةً تعريفيةً عن نفسِها؛ فقالت “لا أملكُ عادةً تعريفاً طويلاً لنفسي، وحين أواجَهُ بمِثلِ هذا السؤالِ؛ أحبُّ دائماً إيجازَ الجوابِ بالقولِ أنني امرأةٌ صاحبةُ رسالةٍ في الحياة”, بدأتْ حديثَها لــ “الثريا” بتعريفٍ متواضعٍ عن نفسِها, مُبتعِدةً عن كلِّ الأساليبِ المُنمّقةِ التي تُنفِّرُ الكاتبَ من قرّائهِ.
في سياقِ حديثِنا اعتبرتْ “لمى خاطر” أنّ الكتابةَ في المجالِ السياسيّ نقطةٌ فارقةٌ في حياتِها:” أضافتْ لي قدْراً من الوعيِ يتطوّرُ وينمو مع الوقتِ، ومزيداً من الزهدِ في الاحتفاظِ بالأفكارِ النمطيةِ؛ التي إنْ ناسبَتْ زماناً فهي لا تُناسبُ آخَرَ، وعوَّدتْني الدّقةَ و محاولةَ تحرِّيها قدْرَ الإمكانِ في فَهمي ومَواقفي”.
ازدواجيةُ الأُسرةِ والعملِ
وتَحدّثتْ “خاطر” عن أوقاتِها مع عائلتِها، رغمَ انشغالاتِها المستمرّةِ قائلةً :”مَوقع أُسرتي من اهتمامي؛ لا يتغيّرُ مَهما كان حجمُ الانشغالاتِ، لأنني أؤمِنُ أنّ المرأةَ إنْ أخفقتْ داخلَ بيتِها؛ فكأنّها لن تصنعَ شيئاً مَهمَا راكمتْ من نجاحاتٍ خارجَه”.
المرأةُ التي تَحظى بزوجٍ مُحِبٍّ ومُتفَهِمٍ ومُشارِكٍ لها في اهتماماتِها وأحلامِها وهمومِها؛ هي محظوظةٌ بالفعلِ، وقدرتُها على العطاءِ كبيرةٌ، هذا ما أكّدتْهُ “خاطر” في حديثِنا معها:” كان زوجي خيرَ رفيقٍ في مسيرتي، لأنّ اهتمامَه ومساعدتَه وتشجيعَه ودعمَه ووعيَه بدوري العام؛ كلُّها أمورٌ ساندتْني طوالَ مسيرتي، ولا تزالُ مستمرةً”.
مُصالحةٌ مع الذاتِ :
وفي تفاصيلِ حياتِها واجهتْ “لمى” ظروفَ اعتقالِ زوجِها بكثيرٍ من الإرادةِ و التحدي، كمثيلاتِها من النساءِ الفلسطينياتِ، فتُعَقِّب قائلةً:” لم يؤثِّرْ اعتقالُ زوجي على رسالتي التي أؤمنُ بها، بل كنتُ أرَى مِثلَ هذه العقباتِ من لوازمِ المسيرِ للشخصِ المتصالحِ مع ذاتِه، الذي لا يكتفي بالكلامِ، بل يدفعُ ثمنَه، ويُصِرُّ عليه، بعدَ أنْ يدفعَ في سبيلِه جزءاً من راحتِه واستقرارِه”.
المرأةُ في المجتمعِ :
وتشيرُ “خاطر” إلى الدورِ الواقعِ على عاتقِ المرأةِ الفلسطينيةِ خاصةً والعربيةِ عامةً, باعتبارِها عنصراً فاعلاً في المجتمعِ، شأنُها شأنُ الرجلِ، وعن نظرتِها للمرأةِ تقول:”لستُ أحبُّ النظرَ للمرأةِ كحزبٍ أو طائفةٍ أو أقلّيةٍ، لكنْ إنْ أخذْنا بعينِ الاعتبارِ أنها كانت فئةً مظلومةً مهمّشةً داخلَ المجتمعِ، فيُمكِنُنا القولُ الآن: إنّ وضْعَها تحسَّنَ، وكذلك مكانتَها في المجتمعِ كعُنصرٍ كاملِ الأهليةِ، وليس من مُلحقاتِ الرجلِ”.
خنساواتُ فلسطينَ
للمرأةِ الفلسطينيةِ مكانتُها الخاصةُ، فهي التي ضحّتْ وصبرتْ وكابرتْ على جراحِها، وهو ما تُبيِّنُه “خاطر” في حديثِها، حيث تقولُ:” المرأةُ الفلسطينيةُ لدَيها آياتٌ جليلةٌ من الصمودِ والإقدامِ، فهي أمُّ الشهيدِ, وزوجةُ المقاومِ, وأختُ الفدائي، وتلك التي تقفُ مُكبِّرةً على أنقاضِ منزلِها، إضافةً إلى الجموعِ النسائيةِ التي خرجتْ في مسيرةِ تَحَدٍ وصمودٍ في شوارعِ غزةَ في ظِلِّ الحربِ”.
وتُشيدُ “خاطر” بدَورِ المرأةِ في الضفةِ الفلسطينيةِ, حيثُ كان لها حضورٌ كثيفٌ في جميعِ فعالياتِ ومظاهراتِ التضامنِ مع غزة، مِثلَما كانت حاضرةً في النشاطِ الإعلاميّ والإغاثيّ .
مساواةٌ بين الجنسينِ
وتؤكّدُ “خاطر” أنّ المرأةَ التي تُبصِرُ مواطنَ قوَّتِها، وتملكُ هدفاً كبيراً في حياتِها، لا تنالُ منها مَعاولُ الهدمِ، مَثَلُها مِثلَ الرجلِ الذي يشاركُها المسيرةَ، أي أنّ هذه النخبةَ في أيِّ مجتمعٍ (رجالاً ونساء) لها من الخصائصِ النفسيةِ ما يُبقيها ثابتةً في موقعِها في الميدانِ، وعلى الثغرِ المناسبِ، دونَ أنْ يكونَ لحساباتِ الخسارةِ أهميةٌ كبيرةٌ في حُسبانِها.
وتستدركُ خاطر:” التضحياتُ الفلسطينيةُ تتحدّثُ عن نفسها، من خلال قِيمتِها النضاليةِ، ومن خلال النماذجِ التي قَدّمتْ هذه التضحياتِ، موضّحةً أنّ جرحَ المرأةِ الفلسطينيةِ (كما الرجل) سيبقى مفتوحاً ما بقيَ الاحتلالُ، وفي كلِّ مرحلةٍ ستَبرُزُ نماذجُ نسائيةٌ تتجاوزُ الأدوارَ التقليديةَ لها، لتصنعَ مواقفَ استثنائيةً، وتَحفِرَ اسمَها في صدارةِ المشهدِ المقاومِ.
البُعدُ النضاليُّ
ما دامت فلسطينُ تحتَ الاحتلالِ؛ فلا بدّ ألاّ تفرّطَ المرأةُ الفلسطينيةُ بخصوصيتِها؛ التي يجبُ أنْ تمنحَها بُعداً نضالياً في جميعِ مراحلِ حياتِها، تلك الرسالةُ التي تَحمِلُها “خاطر” لبناتِ جنسِها، وللمرأةِ الفلسطينيةِ خاصةً؛ كَونَها تُمارسُ نضالَها على الساحةِ الفلسطينيةِ قائلةً:” لا بدَّ أنْ تَعيَ أنها مَدرستُه الأهمُّ، وحاضنتُه الأخطرُ، ولذلك فالوعيُ بدورِها وفَهمُه جيداً أمرانِ مُهِمّانِ، وعلى المرأةِ أنْ تتسلَّحَ بهما, إنْ أردْنا ألاّ تَجدِبَ الأرضُ الفلسطينيةُ من الرجالِ والمُضحّينَ والمتقدّمينَ على الدروبِ دونما إبطاءٍ.
وأوضحتْ “خاطر” أنّ هناك فرقٌ كبيرٌ بين أُمٍّ تُربّي أبناءَها على الجبنِ، وتَحرّي منهجَ السلامةِ, وأخرى تزرعُ في قلوبِهم معانيَ الإقدامِ والبذلِ والشجاعةِ، واستشعارِ المسؤوليةِ, مُحذّرةً المرأةَ بشكلٍ عامٍ من فقدانِ هُويتِها وضياعِ بوصلتِها، ومن انجذابِها لمتاهاتِ التقليدِ الأعمى، ومن تَقزُّمِ اهتماماتِها وأحلامِها، ومن التقوقُعِ على الذاتِ، والرّضا بأنْ تعيشَ على هوامشِ الحياةِ والمواقفِ.
صوتُ الحقيقةِ
وفي معرِضِ ردِّها حولَ التهديداتِ التي تتعرّضُ لها بشكلٍ مستمرٍ، وتأثيرِها على استمراريةِ عملِها:” لو كان للخوفِ مساحةٌ في وَعيِّي؛ لانكسرتُ عندَ أولِ مواجَهةٍ، وتراجعتُ عند أولِ مُنعطفٍ، القضيةُ هنا ليست فقط إيماني بقيمةِ صوتِ الحقيقةِ، إنما كذلك إيماني المُطلَقُ بأنّ ما أصابَني لم يكنْ لِيُخطئَني، وما أخطأني لم يكنْ ليصيبَني.. ومَعيةُ اللهِ حينَ ترافقُ المرءَ؛ تُكسِبُه قوةً مذهِلةً، تَحمِلُه على التفاجؤِ من ذاتِه ومن قدرتِه على امتصاصِ الصدمات”.
تكميمُ الأفواهِ
وتبيّن “خاطر” أنّ سياسةَ تكميمِ الأفواهِ تخيفُ الجبناءَ, ومَن لدَيهم استعدادٌ ذاتيٌّ للانحناءِ، أو مَن يؤثِرونَ ذُلَّ الراحةِ على عزّةِ المواجَهةِ، وهي بالنسبةِ لمَن يعتمدونَها من أصحابِ السلطةِ؛ تَستبطِنُ رُعبَهم واهتزازِ ثِقتِهم بصلابةِ الأرضِ التي يقِفونَ عليها.
وتشيدُ “خاطر” بالدورِ الجيدِ لمنظماتِ حقوقِ الإنسانِ في فلسطين، كونَها ترصدُ وتتابعُ وتوثّقُ الانتهاكاتِ كافةً، مُعلنةً عدمَ مقدرةِ المنظماتِ الحقوقيةِ بإلزامِ الجهاتِ الأمنيةِ للكفِّ عن سياساتِها، أو حتى تطبيقِ القانونِ، أو محاسبةِ مُرتكبي الانتهاكاتِ, واصفةً دورَ نقابةِ الصحفيينَ في ظِلِّ الظروفِ الراهنةِ بالمتواضعِ والخجولِ لِرفعِ العتَبِ.
ما بينَ الحقِّ والباطلِ
وتلفتُ “خاطر” إلى طبيعةِ الواقعِ الإعلامي الفلسطيني، واصفةً إياهُ بالجيّدِ, نظراً لصمودِه في أوقاتِ الأزماتِ، وخاصةً حربَ غزةَ الأخيرةَ، منوّهةً إلى أنّ المقصودَ هنا ليس الإعلامُ الرسميُّ (أي التابعُ للسلطةِ) فدَورُه كان هزيلاً، رغمَ إمكاناتِه الكبيرةِ، مقارنةً مع بقيةِ المنابرِ الإعلاميةِ.
تَنصُّلٌ حكوميٌّ
من المفترَضِ أنّ الحكومةَ مسئولةٌ عن الوطنِ بشِقَّيهِ في (غزة والضفة) بالإضافةِ إلى تكريسِ وقتِها لخدمةِ المواطنِ الفلسطينيّ، دونَ المفارَقةِ بين أبناءِ الوطنِ وِفقاً لتحزُّبِهم السياسي، سألناها عن رأيِها في حكومةِ الوفاقِ؛ فكانت نظرتُها واقعيةً بعيداً عن الجُملِ الدبلوماسيةِ المنمّقةِ، حيثُ تنظرُ الأديبةُ والكاتبةُ الفلسطينيةُ لحكومةِ الوفاقِ؛ بأنها ليس لها من اسمِها نصيبٌ، لأنها كما تعرِّفُ نفسَها (حكومة محمود عباس) بمَعنى أنها تحتكمُ لسياساتِه، وتنحازُ لمنهجِه، ولا تقفُ على مسافةٍ واحدةٍ من كلِّ الأطرافِ، ولذلك من الطبيعيّ ألاّ تقومَ بواجباتِها تُجاهَ غزة؛ لأنها ترى أنّ أموالَ السلطةِ حِكرٌ على لونٍ واحدٍ فقط في الشارعِ الفلسطينيّ!! رغمَ أنّ جزءاً كبيراً من أموالِ السلطةِ؛ يأتي من الضرائبِ التي يدفعُها جميعُ الفلسطينيينَ، وليس طرَفاً دونَ غيرِه.
همسةٌ :
انتهتْ من حديثِها بكلمةٍ أخيرةٍ؛ تهمِسُها كاتبتُنا في أذُنِ المرأةِ الفلسطينيةِ؛ التي تعافُ الظلامَ، وتبحثُ عن مكانٍ أو مكانةٍ لها تحتَ الشمسِ:”لا تعيشي دونَ حُلمٍ! ودونَ هدفٍ! ودونَ اختراعِ مكانٍ لنفسكِ في قلبِ الأحداثِ! مكانٌ تكتشفينَه في ذاتِكِ بقراءةٍ مُتأنّيةٍ لها، ثُم تفرضينَه بجدارتِكِ وأهليََّتِكِ على أرضِ الواقعِ”.