ثقافة وفن

صناعةُ التُمورِ مَنجمٌ غذائيٌّ، وقِيمةٌ اقتصاديةٌ

تحقيق: ميادة حبوب
تلكَ الفاكهةُ الصغيرةُ السوداءُ، وتلك التجاعيدُ التي تحكي مسيرةَ النضوجِ الطويلةِ، من بدايةِ غرْسِ الفسيلةِ، إلى نموِّها وشموخِها، واشتدادِ عودِها؛ لتحملَ حِملاً ينمو، ويكبَرُ، ويحلو، وينضجُ، ويجِفَّ ليحلوَ أكثرَ وأكثر، تلك الفاكهةُ البيضاويةُ الشكل، التي تحملُ في أنسجتِها قِيمةً غذائيةً واقتصاديةً كبيرةً، و تاريخيةً عريقةً و دينيةً، حيثُ ذُكرتْ في القرآنِ، وارتبطَت بسيدتِنا “مريم بنت عمران”، وهي أولُ ما يتذوقُ حلاوتَه الرضيعُ بعدَ خروجِه من أحشاءِ أمِّه، تأسِّياً بسُنةِ نبيِّنا الكريمِ – صلى الله عليه وسلّم – وفيها دواءٌ للسقمِ.. وغذاءٌ للجسدِ، وزينةٌ لموائدِ الإفطارِ الرمضانيةِ .. عن التمرِ أتحدَّثُ، وبه أتغنَّى، وله أخصِّصُ زاويةً في “السعادة” على أملِ أنْ أعطِيَه حقَّه في الوصفِ.

اشتهرتْ فلسطينُ بزراعةِ النخيلِ، وإنتاجِ التُمورِ منذُ آلافِ السنينَ، وحظيتْ باهتمامِ المُزارعِ الفلسطينيّ؛ لِما لها من قيمةٍ اقتصاديةٍ كبيرةٍ، ولقدرتِها على تحمُّلِ العديدِ من الظروفِ المُناخيةِ، وإمكانيةِ نموِّ أشجارِ النخيلِ في التربةِ المالحةِ ..، ويشيرُ مركزُ المعلوماتِ الوطنيّ الفلسطينيّ “وفا” -في دراسةٍ حولَ زراعةِ النخيلِ، وإنتاجِ التُمورِ في فلسطين- بأنّ أكثرَ المناطقِ التي تُنتِجُ التُمورَ في فلسطينَ؛ هي منطقةُ أريحا والأغوار، حيثُ أطلِقَ عليها قديماً “مدينةُ النخيلِ”، ومنطقةُ قطاعِ غزةَ، وبالأخصِّ دير البلح، وخان يونس، وتوضّحُ الدراسةُ بأنّ نسبةَ صادراتِ التُمورِ في فلسطينَ تمثّلُ” 50%” من إجمالي الصادراتِ الزراعيةِ، خلالَ الفترةِ ما بين” 2011 إلى 2014 ” ،حيثُ تطابقُ هذه السلعةُ مواصفاتِ الجودةِ العالميةِ؛ لتنافسَ تُمور المستوطناتِ الإسرائيليةِ بجدارةٍ في الأسواقِ العالميةِ.

مواصفاتُ الجودةِ العالميةِ

يعدُّ مَطلع شهرِ أكتوبر؛ هو موسمُ جَني التُمورِ في قطاعِ غزةَ، ويوضّحُ الأستاذُ “زاهر سعيد زاهر” مهندسٌ زراعيّ في وزارةِ الزراعةِ قائلاً: “شهرُ أكتوبر هو شهرُ قطْفِ التُمورِ، ومن أهمِّ أصنافِ النخيلِ المزروعةِ في فلسطينَ؛ هي تمرُ “المجهولِ”؛ والذي يعدُّ من أجودِ أنواعِ التُمورِ إقليمياً وعالمياً، وتشتهرُ به منطقةُ أريحا والأغوار، ومن ضِمنِ الأنواعِ المُهمّةِ أيضاً؛ التمرُ الحيّاني، والبرحي، حيثُ يتميزُ الأخيرُ بحلاوةِ الطعمِ، وغزارةِ الإنتاجِ.
وتحدّثَ المهندسُ الزراعيّ عن أهمِّ مراحلِ إنتاجِ التُمورِ، فيمكنُ تقسيمُها إلى أربعِ مراحلَ أساسيةٍ؛ تبدأ بالقطفِ اليدوي، ثم الفرزِ حسبَ الحجمِ، ونسبةِ الاستواءِ، وهذه المرحلةُ يتخلّلُها النشرُ بالشمسِ؛ لمدّةٍ لا تقِلُّ عن “24 “ساعةً، ومن ثَم تعبئتُه وإيصالُه إلى المصانعِ؛ ليتمَّ حِفظُه بطريقةٍ صحيةِ، تدومُ لفترةٍ أطولَ، وتفحصُ التُمورُ من حيثُ نسبةِ الرطوبةِ، والآفاتِ الزراعيةِ، والأمراضِ، ثُم يتِمُ تعقيمُ السليمِ منها؛ لمدّة “72 “ساعةً، بموادٍ طبيعيٍ، ثُم تُغسلَ من الأتربةِ والغبارِ، وتُنشَفُ، ثُم تدخلُ عمليةَ التدريجِ، سواءً “الالكتروني أو اليدوي”، وتُعبأُ حسبَ الوزنِ، وتُغلّفُ لتكونَ جاهزةً للاستهلاكِ. ومن الجديرِ بالذكرِ أنّ أريحا تشتهرُ بمصنعِها الضخمِ، الذي يستقبلُ كمياتٍ كبيرةً من مزارعِ الأغوارِ وأريحا، والذي يخضعُ لمواصفاتِ الجودةِ العالميةِ في إنتاجِ التُمورِ.

مَنجمٌ غذائيٌّ

ومما لا شكَّ فيه، بأنّ هذه الثمرةَ السوداءَ غنيةٌ بالفيتاميناتِ والمعادنِ، حيثُ يشرحُ أخصائيّ التغذيةِ الدكتور “ممدوح الشيخ خليل” بأنّ التمرَ والبلحَ يحتويانِ على معظمِ المُركّباتِ الأساسيةِ اللازمةِ لبناءِ جسمِ الإنسانِ.. ويعدُّ التمرُ منجمًا غذائيًا مليئًا بالفيتاميناتِ؛ لكثرةِ ما يحتويهِ على عناصرَ معدنيةٍ عديدةٍ؛ مِثلَ “الفسفور، والكالسيوم، والحديد، والمغنيسيوم، والصوديوم، والكبريت، والكلور” ، كما ويحتوي التمرُ أيضاً على مجموعةٍ من الفيتاميناتِ، مِثلَ فيتامين” ألف، وباء، ودال”، فضلاً عن وجودِ السكرياتِ البسيطةِ في تركيبها.
أمّا “جُمانة اللدعة” ربّةُ منزلٍ، وأمٌّ لثلاثةِ أطفالِ، تقولُ بأنّ التمورَ من أهمِّ الأطباقِ التي تزيّنُ سفرةَ الإفطارِ والسحورِ في رمضانَ؛ لِما تحتويهِ على قِيمةٍ غذائيةٍ كبيرةٍ، في وجبةٍ صغيرةٍ، إذْ تحرِصُ على تقديمِها لأطفالِها بشكلٍ يوميٍّ؛ لفوائدِها العديدةِ، ولأنّ نبيَّنا محمداً -صلى الله عليه وسلم- أوصَى بتناولِ التمرِ.. وكان إفطارُه في رمضانَ على الماءِ والتمرِ.

وترَى الحاجةُ “أم عماد زين الدين” -سِتّونَ عاماً- بأنّ سفرةَ الإفطارِ لا تكتملُ إلاّ بوجودِ التمرِ ، فهو أساسٌ في موائدِنا، ولا نستطيعُ الاستغناءَ عنه ، فهي اعتادتْ على تناولِ ثلاثِ إلى سبعِ تمراتٍ، مع وجبةِ السحورِ يومياً في رمضانَ؛ لتحميها من نوبةِ نقصِ السكرِ، الناجمةِ عن طولِ فترةِ الصيامِ.
ويوضّح د. “الشيخ خليل” بأنّ تناوُلَ الصائمِ تمرةً أو أكثرَ عندَ فِطرِه؛ فذلك يعطيهِ جرعةً سريعةً من السكرِ والمعادنِ المُهمّةِ، ويعوّضُه ما تمَّ استهلاكُه طوالَ النهارِ، خلالَ فترةِ الصيامِ في دقائقَ قليلةٍ، لذلك وجودُه على سفرةِ الإفطارِ شيءٌ أساسٌ.. بل رُبما أهمُّ من تلكَ الأطباقِ التي تَعمدُ ربّةُ المنزلِ على تحضيرِها طولَ النهارِ، كما أنه يعدُّ وجبةً كاملةً وسريعةً للسحورِ، يتمُ تناولُها قبلَ دقائقَ من أذانِ الفجرِ، مع كوبٍ من الحليبِ أو اللبنِ؛ تكفي جسدَ الصائمِ السليمِ خلالَ نهارِ رمضانَ.

عوائقُ وعقباتٌ

ويشرحُ م.” زاهر” أبرزَ المشاكلِ التي تواجِهُها زراعةُ النخيلِ في كلٍّ من أريحا وقطاعِ غزةَ بقولِه: “إنّ قلّةَ المياهِ هي أهمُّ وأبرزُ المشاكلِ، وعدمَ وجودِ مصادرَ كافيةٍ للمياهِ، خصوصاً في منطقةِ “أريحا والأغوار”؛ بسببِ الإجراءاتِ “الإسرائيلية” التي تمنعُ حفْرَ آبارٍ ارتوازيةٍ، ويعدُّ هذا أكبرَ عائقٍ أمامَ التوسُعِ في زراعةِ النخيلِ، في الوقتِ الذي يستطيعُ المستوطنُ المحتلُّ التوسُعَ في هذا النوعِ من الزراعةِ، كيفما يشاءُ!!، ومن المشاكلِ الأساسيةِ أيضاً؛ الاجتياحاتُ الإسرائيليةُ، والتجريفُ المستمرُّ للأراضي الزراعيةِ، والاعتداءاتُ والحروبُ على قطاعِ غزة، ألحقَ دماراً واضحاً بمزارعِ النخيلِ في محافظاتِ الشمالِ، بين “لاهيا وبيت حانون”، وكذلك الأمرُ في محافظاتِ “دير البلح ورفح” وأيضاً عدمُ توفُرِ حبوبِ اللقاحِ لأشجارِ النخيلِ بشكلٍ دائمٍ، وصعوبةُ الحصولِ على بعضِ الأسمدةِ والمبيداتِ الحشريةِ، لمواجهةِ الأمراضِ والآفاتِ التي تصيبُ أشجارَ النخيلِ؛ لأنّ معظمَها يمرُّ من خلالِ الجانبِ “الإسرائيلي” الذي يتحكّمُ بها كيفما يشاءُ.

كما وتشكّلُ تكاليفُ الشحنِ والنقلِ -بشكلٍ عام- للصادراتِ والوارداتِ السلعيةِ الفلسطينيةِ، أكثرَ من 30% من تكلُفةِ السلعِ المصدَّرةِ والمستورَدةِ، ويعودُ سببُ ذلك إلى القيودِ “الإسرائيلية” على المعابرِ الحدوديةِ، والرسومِ الإضافيةِ على البضائعِ الفلسطينيةِ فقط،  هذا بالإضافةِ إلى ضعفِ الخدماتِ التسويقيةِ التي تعاني منها المنتجاتُ الزراعيةُ بشكلٍ عام، ومنتجاتُ النخيلِ بشكلٍ خاص، هذا عدا غيابِ الدعمِ الرسميّ لهذا القطاعِ، والذي أدّى إلى إضعافِ القدرةِ التنافسيةِ للمنتجاتِ الزراعيةِ الفلسطينيةِ، والتمورُ واحدةٌ من أكثرِ المنتجاتِ؛ إذ إن غيابَ الدعمِ ينعكسُ مباشرةً على كلفةِ الإنتاجِ”.

وبالرغمِ من كلِّ العقباتِ والمعيقاتِ؛ اعتادتْ فلسطينُ أنْ تبقَى شامخةً كشموخِ النخيلِ في السماءِ، أمامَ القراراتِ والإجراءاتِ التعسُفيةِ الصهيونيةِ، حيثُ يشيرُ مركزُ المعلوماتِ الوطنيّ الفلسطينيّ  “وفا” في دراستِه؛ بأنّ مُزارعي النخيلِ في فلسطينَ حقّقوا قفزةً نوعيّةً في زراعةِ أشجارِ النخيلِ من حيثُ: الكَمِّ، والنوعِ، وجودةِ المنتَجِ، خلالَ السنواتِ الستِ الأخيرةِ، ففلسطينُ كالنخلةِ لا تنحني بسهولةٍ، ولا تستكينُ.. وهي باقيةٌ على مرِّ السنينَ، عريقةٌ وتعانقُ السماءِ، يحميها الإلهُ الواحدُ القهارُ، ويرعاها برعايتِه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى