عالمُ الفَلكِ برَكة: يسعى لتأسيسِ حياةٍ فلَكيةٍ في غزة

حوار: صابر محمد أبو الكاس
رجلٌ رفعَ اسمَ فلسطينَ عالياً في المحافلِ الدولية، استطاعَ رغمَ الحصارِ المفروضِ على غزةَ؛ أنْ يكسِرَ حصاراً من نوعٍ آخَرَ، فلا البَرُّ أو البحرُ.. لكنْ هذه المرةِ الفضاءُ، الذي أصبح في متناولِ الكثيرينَ من الغزيّينَ رؤيتُه ومشاهدةُ الكواكبِ والنجومِ فيهِ، وذلك بواسطةِ جهازِ “التلسكوب” الذي قدِمَ به إلى غزةَ، بعدَ محاولاتٍ حثيثةٍ وعديدةٍ، باءت معظمُها بالفشلِ؛ بسببِ الحصارِ ، إلاّ أنّ إرادتَه وإصرارَه وعزيمتَه؛ كانت بالمرصادِ.. حتى نجحَ بجهودٍ دوليةٍ وسياسيةٍ في تحقيقِ ما يصبو إليهِ.
إنه عالمُ الفَلكِ الفلسطيني الدكتور “سليمان بركة”، والذي أكسبَ فلسطينَ مقعداً في اليونسكو؛ لتكونَ الدولةَ العربيةَ الوحيدةَ التي تمتلكُ كُرسياً في “اليونسكو” يرأسُه في غزةَ.
على بساطِ “السعادة” حاورْناهُ، وتَعرَّفنا على رحلتِه العلميةِ والعمليةِ مع وكالةِ “ناسا” بالولايات المتحدة الأمريكية، مروراً بقرارِ عودتِه لغزةَ، انتهاءً بحياتِه الشخصيةِ ومكنوناتِه الأُسرية.
بعد الترحيب بك د. سليمان نودُّ أنْ تعرّف قرّاءَ “السعادة” بدايةً ببطاقتك التعريفية؟
“سليمان محمد بركة” من مواليدِ محافظة خانيونس عام” 1965″، متزوج ولدّي ثلاثة أولادٍ وبنت، إضافة إلى طفلٍ استشهد وهو ابن اثني عشر ربيعاً في قصفٍ صهيوني خلال العدوان على غزة” 2008-2009″ .
أنهيتُ الثانوية العامة في مدرسة “المتنبي” في بلدة عبسان الكبيرة عام” ١٩٨٣”، والبكالوريوس في كليةِ العلوم والتكنولوجيا في جامعة القدسِ “أبو ديس”، ومن ثم أنهيتُ دبلوم الدراساتِ العليا في الإدارةِ العامة في جامعة “بنسلفانيا” في الولايات المتحدةِ الأمريكية، و حصلتُ على الماجستير من الجامعة الإسلامية بغزة، ونلتُ درجة الدكتوراه في الفيزياء الفلَكية عام “٢٠٠٧” من جامعة بيير وماري كوري – معهد الفيزياء الفلكيةِ في باريس فرنسا، عملي الحالي هو محاضرٌ في جامعةِ الأقصى بغزة.
ما سببُ ولَعِك واهتمامك بعلومِ الفَلك؟
الفيزياء هي المدخلُ.. حيث كانت البداية في الصفِ الأول الثانوي.. أحببتها وتفوقتُ فيها، كما أحبُّ الرياضيات، وأرى أنّ كلاٌ مِنا خُلق لما سُخّر له.. فقد سخّرني اللهُ لعلوم الفلكِ والاهتمامِ بها، وربما كوني أهوى التأمُّلَ والتفكرَ؛ فهذا كان مدعاةً لوَلعي بعلوم الفلكِ، وزيادةِ الرغبة للتخصصِ فيها، فعملي وأبحاثي معظمُها تدورُ حول دراسةِ أثرِ تفاعلِ الرياحِ الشمسية مع المجالاتِ الشمسية وغيرِها، الأمرُ الذي أهّلني لعضويةِ اتحاد “الجيوفيزيائيين” في معهدِ فيزياء الفضاءِ الأمريكي!! وأيضاً عضوية اتحادِ الفيزيائيين الفضائيين الأوروبي، الذي يعملُ على حلِّ أبرزِ مشكلاتِ المجتمعِ العلمي في فيزياء الفضاء.
خروجُك من غزة، هل كان هجرةً؟ أَم بحثاً عن علمٍ وعملٍ؟
أرفضُ كلمة هجرة، فأنا لم ولن أهاجرَ؛ لأنّ من يعشْ على أرضِ فلسطين، يعرفْ مكانتها وقدسيتها.. فبالتالي لا يفكرُ في الهجرةِ منها أو تركِها، حتى لو كان عرضةً للقتلِ فيها والشهادة، لكنّ هدفي الأساسَ من السفر؛ يكمنُ في التعلمِ والاستزادةِ من الإفادة، فأردتُ المشاركة في مراكزَ أبحاثٍ عالميةٍ؛ لأطوّرَ من ذاتي في علوم الفلكِ، وأجدَ البيئةَ الخصبة للعملِ في هذا المجالِ الواسع، فعملتُ في وكالة “ناسا” الفضائية في الولاياتِ المتحدة الأمريكية، ضِمنَ طاقمٍ كفيزيائي؛ للمساهمةِ في حلِّ بعض المشكلاتِ المتعلقة بتأمينِ بيئة فضائيةٍ سليمةٍ للمركباتِ الفضائية، من نشاطاتٍ إشعاعيةٍ شمسيةٍ كهربائية مفاجئةٍ، وأيضًا لحمايةِ رجالِ الفضاء من هذه الإشعاعاتِ الشمسية بالكهرباء.
بالتأكيدِ أنّ العيشَ بأمريكا مختلفٌ عن العيش بغزة، حيث هناك الرفاهيةُ والراحة، فلِمَ كان قرارُ العودةِ لغزة؟
أولاً، أصحابُ الرسالاتِ لا يفكرونَ في رفاهيةٍ ولا راحة، وهم ليسوا كذلك إطلاقاً، وأنا أعدُّ نفسي من أصحاب الرسالاتِ في هذه الدنيا، ثانياً، رسالتي هذه تستوجبُ الخروجَ المؤقتَ من غزة؛ لإتمامِ عنصرٍ من عناصرها، فعودتي هي بمثابةِ قرارٍ حتميٍّ منذ البدايةِ، حيث الهوية والانتماءُ والقربُ من الوطنِ والتاريخِ والجغرافيا؛ كلّها عواملُ رئيسةٌ في قراري بالعودةِ، عوضاً عن ذلك.. فهناك ما عجّلَ في قرارِ عودتي، حيث استشهادُ ابني “إبراهيم”، وهدمُ الاحتلالِ لبيتي ومكتبتي، ومع ذلك كله، فإنّ قراري دوماً.. لا خروجَ من فلسطينَ، ولا موتَ إلا فيها بإذن الله.
حاولتَ مراراً وتكراراً إدخالَ جهاز “التليسكوب” لغزة، وقد نجحتَ.. ما سرُّ إصرارِك على إدخاله؟
من واجبي نحو بلدي؛ أنْ أعملَ لها، وأقدّم لها حتى تكونَ أفضلَ البلادِ بإذن الله، وحتى يشاهدَ أطفالُ فلسطين السماءَ هذه المرةَ بشكلٍ مختلفٍ عما كان من قبلُ، فقد تعوّدَ الطفلُ أنْ يرى السماءَ ملبّدةً بالطائراتِ الحربيةِ، التي تلقي بصواريخِها وقذائفِها، فأردتُ أنْ أغيّرَ النظرة؛ ليرى الطفلُ السماءَ من خلال جهازِ “التلسكوب” بمنظورٍ آخَرَ، حيث الفضاءُ والكواكبُ والنجومُ والمَجرّات، وهذا كان هدفاً من أهدافي الذي سعيتُ لتحقيقه، وقد نجحتُ بفضلِ الله ، ومع ذلك فإنني أعدُّ ما قدمتُه حتى اللحظةِ جُهدَ المُقلِّ، بل وأقلَّ من الواجبِ.
وكيف استطعتَ إدخالَه في ظِل الحصار؟
لا شكّ أنّ إدخالَه واجهَ بعضَ الصعوباتِ؛ لكنّ المحاولاتِ والمساعي تكرّرتْ لتحقيقِ الهدفِ والسماحِ بإدخاله، وبالفعلِ نجحنا في إدخالِه بفضلِ اللهِ، ثم بجهودِ بعض الدولِ والأطرافِ السياسية.
حدّثنا عن ردودِ الفعلِ، بعد استخدامِ التليسكوب؟
في الحقيقة تملَّكني شعورٌ كبيرٌ بالسعادةِ والفرحةِ؛ التي أبكتْني عندما شاهدتُ أطفالَ غزة وهم يتدافعونَ نحوَ الجهازِ، في رغبةٍ منهم للتعرفِ أكثرَ على المجموعةِ الشمسيةِ التي درسوها في المدرسةِ، ولم يشاهدوها، فكان “التليسكوب” بمثابةِ مفسِّرٍ للمعلوماتِ التي تعلّموها عن الفضاءِ، وعن المجموعة الشمسيةِ، وأسمائها ومسافاتِها، فكان إحساساً جميلاً آنذاك.
هذا الأمرُ أتبعَه حصولُ فلسطينَ على كرسي في اليونسكو، كيف حدثَ ذلك؟
في الحقيقةِ أننا قمنا بائتلافِ بين جامعة الأزهرِ والأقصى والإسلاميةِ، وقدّمنا طلباً لليونسكو؛ لنأخذَ كرسياً لفلسطين في اليونسكو للفضاءِ، و بفضلِ الله حصلنا عليه بعد عامينِ، وأنا أُمثلُه الآنَ، وبالمناسبةِ أضحتْ فلسطين الدولة الوحيدةَ في الوطنِ العربي، الحاصلةَ على مقعدِ اليونسكو.
بالانتقالِ إلى حياتك الشخصية ما أكثرُ المواقفِ التي أسعدتك؟
خروجي من سجونِ الاحتلال، وهو دليلٌ على غلاءِ الحرية.
ما أكثرُ المواقفِ التي أثّرتْ فيك وجعلتك تبكي؟
من أكثرِ المواقفِ التي أثرت فيّ، الظروفُ التي استشهدَ فيها ابني “إبراهيم” في مستشفى السلام في مصر، حيث تم وضعُه في التابوتِ، وتغليفُه بالشمعِ، ووضعُه في الإسعاف، حينها لم أستطعْ أنْ أعودَ لغزة وأدفنَه، وأتقبّلَ التعازي فيه؛ بسببِ إغلاق معبرِ رفح، وعدمِ السماحِ لأكثرَ من شخصٍ واحدٍ للعودةِ مع الجثة، فكان قراري بالعودةِ إلى الولايات المتحدةِ مرّةً أخرى حاملاً بين جنباتي حزني على فِراق إبراهيم.
أسألُ الله أنْ يكونَ لك شفيعاً يوم القيامة، بالحديث عن الجانب الأسرى، كيف هي علاقتك بأبنائك؟
علاقتي بأبنائي هي علاقة أبوّةٍ في المقامِ الأول، ثم أخوّةٍ وصداقة، فهي غير مقتصرةٍ على العلاقةِ المتعارفِ عليها بين أبٍ وابنٍ فقط، بل تتعدى ذلك نحوَ الأخوّةِ والصداقة.
هل تتمنى لأبنائك أنْ يكونوا نسخةً ثانية من أبيهم، أم لهم الحرية في اختيارِ تخصصهم؟
ليس شرطاً، فأنا أتركُ لهم حرية اختيارِ تخصصاتِهم بأنفسِهم، لكنْ إنْ جاءوني ليستشيروني ويستنصحوني؛ فلا أبخلُ عليهم.. لكنْ إنْ لم يفعلوا.. فلا أفعلُ.
سليمان بركة العالمُ والدكتور، هل يمكنُ مشاهدتُه وهو يطهو أو يساعدُ زوجته بالبيت؟
نعم، أقومُ بذلك أحياناً، لاسيما وأنني عشتُ سنواتٍ طويلةً وحدي في الغربةِ.. الأمرُ الذي أهّلني لأنْ أتقنَ الطهيَ بشكلٍ جيد، بَيدَ أنّ لزوجتي الفضلَ الأكبرَ في إدارةِ شؤونِ البيتِ؛ فهي تقومُ على خدمتِنا جميعاً على أكملِ وجهٍ، جزاها اللهُ خيراً.
أخيراً ماذا يتمنى د.سليمان بركة ؟
ما أتمناهُ أنْ نتمكنَ من إنشاءِ مراكزَ أبحاثٍ؛ تكونُ نواةَ التحريرِ، كما رأينا العدوَّ الصهيوني قد بدأ بالجامعةِ العبريةِ والتخنيون؛ لإقامةِ دولةٍ حرامٍ على أرضٍ مسروقةٍ.
ومن هنا فإنني أسعى لتعزيزِ فَهمِ علمِ الفَلكِ عند الناسِ، والعملِ على أنْ يكونَ مادةً رئيسة تدرّسُ في الجامعاتِ الفلسطينية، وقد تواصلتُ مع الجهاتِ المَعنيةِ بهذا الخصوصِ، كما أخططُ لإقامةِ مرصدٍ فلَكيٍّ لرصدِ الأهِلّةِ؛ لأننا نصومُ تبعاً للهلالِ.
كما أتمنى أنْ يتحرّرَ التعليمُ لدينا من أسلوبِ التلقينِ، وأنْ يُلهمَنا اللهُ بقياداتٍ علميةٍ وسياسيةٍ صاحبةِ قرارٍ مستقِلٍّ عن الأحزابِ السياسيةِ.