الدين والحياةكتاب الثريا

الرسائلُ العشرُ لمِسحاة الحَنفيّ

د.زكريا زين الدين- أستاذ الحديث المساعد بقسم الحديث الشريف بكلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية

 أخرج الإمامُ أحمد في مسنده حديث طَلْق بن عليٍ الحَنفي قَالَ: “جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ وَأَصْحَابُهُ يَبْنُونَ الْمَسْجِدَ”، قَالَ: “فَكَأَنَّهُ لَمْ يُعْجِبْهُ عَمَلُهُمْ” قَالَ: “فَأَخَذْتُ الْمِسْحَاةَ فَخَلَطْتُ بِهَا الطِّينَ فَكَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ أَخْذِي الْمِسْحَاةَ وَعَمَلِي” فَقَالَ: “دَعُوا الْحَنَفِيَّ وَالطِّينَ فَإِنَّهُ أَضْبَطُكُمْ لِلطِّينِ”
نقفُ أمام هذا المشهدِ،هو أحدُ مشاهدِ بناء المسجدِ النبوي، ويتضمنُ عشرَ رسائلَ غايةً في الإفادة:

الرسالةُ الأولى: مشاركةُ المسئول الرعيةَ في أعمالِ الدولةِ؛ ليكونَ لهم قدوةً، فرسولُ اللهِ يبني مع أصحابه.

الرسالةُ الثانية: مسئوليةُ القائدِ في اكتشافِ المميَّزين ومكافئتِهم، فالنبيّ ورغم حَملِه الحجارةَ ونقلِه الترابَ، يرى وينظرُ ويكتشفُ الآخَرين، فهو لم يعجبْهُ أداءُ أصحابهِ في خلطِ الطين، وأعجبه عملُ الصحابيّ في مبادرتهِ بأخذِ المِسحاةِ؛ وهي المجرفةُ “الكريك” وعملِه في خلطِ الطين، ثم هو يمنحُ شهادةَ تقديرٍ لهذا الصحابيّ، بأنه الماهرُ الأولُ في البناءِ بقولِه: “دَعُوا الْحَنَفِيَّ وَالطِّينَ فَإِنَّهُ أَضْبَطُكُمْ لِلطِّينِ” بمعنى اترُكوا خلطَ الطينِ للصحابيّ “طلق الحنفي” فإنه أتقنُكم وأمهرُكم في البناء، تماماً كما لو منحَ رئيسُ الدولةِ لقبَ البنّاءِ الأولِ، أو المهندسِ الأولِ في الدولةِ لتميُّزِه، فبأبي أنتَ وأمي يا رسولَ اللهِ، يا معلِّمَ البشريةِ فنَّ اكتشافِ المميَّزين وإكرامِهم.

الرسالةُ الثالثة: اللمزُ والعيبُ والانتقادُ اللاذعُ ليس خلُقاً نبوياً، ولا يمكنُ أنْ يكونَ، فلمَّا لم يعجبْه؛ لم يشرَعْ بالنقدِ أو الذمِّ، ومع ذلك لم يُهملْ الأمرَ، فبدا على وجهِه عدمُ الرِّضا، واللبيبُ بالإشارةِ يفهمُ، فكان اللبيبُ هذا الصحابيَّ الجليلَ؛ الذي قرأ في قسماتِ النبيِّ عدمَ الإعجابِ والرِّضا، لكنه لمَّا أعجبَه فِعلُ “طلق” أثنَى عليه، وهذا منهجٌ نبويٌّ فريدٌ؛ إذا أعجبَه شيءٌ أثنَى عليه، وإذا لم يعجبْه لم يجرَحْ أو يذُمّ، مع حرصِه على الأفضلِ بلباقةٍ وذوقٍ.

الرسالةُ الرابعة: المبادرةُ الذاتيةُ التي تميَّزَ بها “طلق بن علي” فهو لم يأمرْ بخلطِ الطينِ، بل رأى من يخلطُه، وكان بإمكانِه أنْ يقولَ ككثيرٍ من الناسِ “كُفّوا ووفُّوا” ويريحُ نفسَه من العَناءِ، بل يبادرُ ويشاركُ بتميُّزٍ وإتقانٍ.

الرسالةُ الخامسة: الانتقادُ كيف يكونُ؟ فلقد تعوَّد كثيرٌ من الناسِ إذا رأى خطأً أو شيئًا لا يعجِبُه من وِجهة نظرِه ؛ أطلقَ لسانَه بالنقدِ اللاذعِ، إلاّ أنّ الصحابيَّ الجليلَ حينما لم يعجبْهُ؛ مدَّ يدَه بأخذِ المِسحاةِ وخلطَ الطينَ فكان نِعمَ الناقدِ المُغيِّرِ والقدوة، أمّا من ينتقدُ بالقولِ فحسْب؛و ينسى أنّ ميدانَ القولِ غيرُ ميدانِ العملِ.

الرسالةُ السادسة: الإتقانُ في العملِ وضبطُه والمنافسةُ في ذلك، كشفَ عن ذلك النبيُّ بقولِه”أَضبَطُكم للطينِ” أيْ أتقنُكم، فالصحابةُ متقِنونَ ضابطونَ لعملِهم، لكنّ “طلْقَ” أضبطُهم وأتقنُهم، ولقد قال النبيّ “إنّ اللهَ يحبُّ  إذا عملَ أحدُكم عملاً أنْ يتقِنَه”

الرسالةُ السابعة: لغةُ البدَنِ؛ لغةٌ معاصِرةٌ يتحدّثُ عنها العلماءُ في هذا العصر، لكنّ هذا الحديثَ يكشفُ عن أصولِها في فعلِ النبيّ وهذا الصحابي ، فالحديثُ يكشفُ لنا عن مشهدٍ في لغةِ الوجوهِ، فالصحابيُّ “طلْق” لم يعجِبْهُ، وقرأَ وجهَ النبيِّ؛ فرآهُ مشارِكاً له بعدمِ الإعجابِ التام، ثُم قرأَ مرةً أُخرى _بعدَ مبادرتِه بخلطِ الطينِ بإتقانٍ_ وجهَ النبيِّ فرآهُ معجَبًاً، ثم صدقتْ لغةُ الوجوهِ لسانَ النبيِّ حينَ قال “دَعُوا الْحَنَفِيَّ وَالطِّينَ فَإِنَّهُ أَضْبَطُكُمْ لِلطِّينِ”.

الرسالةُ الثامنة: اللباقةُ والبلاغةُ في القولِ، والدِّقةُ في الوصفِ، “فطلْق” هذا قرأَ وجهَ النبيّ بعدمِ الإعجابِ أولاً، ثُم بالإعجابِ ثانيًا، فحينما وصفَ ذلك لم يقُلْ أعجبَه أو لم يُعجِبْهُ‘ وإنما عبّرَ بقولِه كأنه أَعجبَه، وكأنه لم يعجِبْهُ، وهذا منه لباقةٌ وبلاغةٌ ودِقةٌ في الوصفِ، فهو لم يجزِمْ لأنه قد يكونُ مُخطئًا في قراءتِه لوجهِ النبيّ ، وكأنه اتبعَ قولَ “بلقيس” لسليمانَ عليه السلامُ حينما سُئلتْ عن عرشِها”قالتْ كأنه هو”

الرسالةُ التاسعةُ: الحديثُ عن النفسِ ليس رياءً دائمًا، “فطلْق بن علي” يتحدثُ عن نفسِه، وماذا حصلَ معه، وثناءِ النبيِّ عليه، وقد يبدو أنّ هذا مُخالفٌ لِما ينبغي أنْ يكونَ المؤمنُ عليه؛ بألا يُعجَبَ بعملِه، ولا يتحدّثَ عن نفسِه؛ لِئلا يكونَ رياءً فيَحبطَ عملُه، فحديثُ “طلق” يعلِّمُنا أنه لا بأسَ بنقلِ التجارِبِ، وتسجيلِ التاريخِ، والحديثِ عن النفسِ لتعليمِ الناسِ والأجيالِ، فلو لم يُحدِّثْ “طلق” ذلك _ومِثلُه سائرُ الصحابةِ_ لَما وصلَنا شيءٌ من حياةِ النبيّ وأصحابِه الكرام . أمّا الرياءُ والإعجابُ؛ فهو مذمومٌ ولا يقدِرُ أحدٌ أنْ يعرِفَ ذلك في الآخَرينَ، فهذا متعلِّقٌ بالنيَّةِ، والنيُّةُ في القلبِ لا يعرفُها إلى اللهُ، فإذا أخفَى المؤمنُ عملَه، أو تحدّثَ عنه بنيَّةِ تعليمِ الآخَرينَ، ونقلِ التجرِبةِ وتسجيلِ التاريخِ رِضاً للهِ، وكانت نيَّتُه سليمةً للهٍ؛حينها يؤجَرُ.

الرسالةُ العاشرة: اقرءوا سُنّةَ نبيِّكم، وتأمّلوا كلَّ كلمةٍ، فإذا كان هذا الحديثُ القصيرُ تضمّنَ كلَّ هذه الفوائدِ، فما بالُكم بآلافِ الأحاديثِ، فهَلُمُّوا للقراءةِ والتأمُّل والغوصِ في أعماقِ النصوصِ، واقرءوا كلامَ الشُّرَّاحِ؛ لتستفيدوا وتُفيدوا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى