ثورة الأعصاب .. الحلقة الأولى من سلسلة ( الثورة سؤال الشرارة والصيرورة ) .

بقلم: أ. تركي الشثري مثقف وباحث في الفكر الإسلامي وداعية إسلامي
[الثورات هي الأحداث السياسية الوحيدة التي تواجهنا مباشرة بشكل لا مناص منه بمسألة البداية، ذلك أن الثورات مهما حاولنا تعريفها ليست مجرد تغييرات]. حنة أرندت.
هل الأصل في الأشياء السكون أم الحركة؟
وهل السمت العام للعالم المعاصر رتيب بالدرجة الكافية؟
لقد انطوى العالم الأكبر على الفرد، والفرد اليوم يعاني من حتمية الإنتاج والإبداع والسير الحثيث في سبيل الأمرين؛ إنه يتحرك في كل الاتجاهات، ويبالغ في تقدير العقل لدرجة تفوق قدرة الجسد، ولو نال الجسد ما هجس به العقل لما آمن أحد بما وراء الحس.
لا أظن أن التساؤل عن شرارة البداية أجدى من التساؤل عن استمرار الثورة والتظلل بها حِينًا. بالفعل، لماذا يظل الناس يهتفون في الشوارع؟ ولماذا يمدون وسائل الأنباء بمواد دسمة؟ ولماذا نحن موعودون أبدًا بنشرات أخبار مليئة بالصور والمشاهد والتصريحات؟ هل جُنَّ العالم؟ أم هو الآن يفيق؟ لا أعتقد ذلك؛ فالإفاقة من الفوضى العالمية لا تكون بهذه السهولة، بل ستكون مرعبة جدًّا، مرعبة للجهاز العصبي، والجملة الدماغية تواصل قنوي فوق المحسوس مع الضوء والأصوات والمثيرات، وللتبادل المحموم اليوم عبر “تويتر” و”فيسبوك” ووكالات الأنباء آثاره البيولوجية الفظيعة، وذلك عندما نقف على مدى تلاؤم المادة المطروحة مع المشاعر الدفينة في جدار النفس العربية المنكوسة المنكوبة؛ مما أعطى تبريرًا سريريًّا لحالات الإدمان المتنوعة في أوساط الشباب العربي.
ولا يخفى على مهتم أن موجات “ألفا” تبرز بعد ثلث ساعة من متابعة الشاشة، وتطول الموجات بحسب طول وقت المشاهدة، وهنا تتغير سوية الدماغ، ويصبح ذا قابلية للتشكل من جديد، وذا استعداد لتقبل الرسائل الموجهة؛ مما يدفعه للانقلاب على: المبادئ والقيم والعادات والثوابت، وهدم الولاء والبراء، …إلخ.
نعم، قد يقال: إن هذا من قبيل المبالغة و”الفوبيا” والتهويل، ولكن المنصف المدقق يرى بعين البصيرة: أين كنا؟ وأين نحن الآن؟
إن حلبات “الهِشِّك بِشِّك” و”كليبات اللحم الرخيص” قلبت الشارع العربي رأسًا على عقِب، وكذلك حلقات النقاش والحوار التي طالت كل مقدَّس، ويرى أثر ذلك فيمن تطاول على الذات الإلهية، أو مَن ضاق ذرعًا بتطبيق الشريعة الإسلامية.
مَن الذي يستطيع أن يستلقي ويتأمل لمدة بسيطة؟ من يستطيع أن يقضي يومه بلا أخبار ولا شجار ولا إنتاج ولا إبداع؟ مَن الذي يرضى عن عقله وخبزه وزوجه ورئيس حكومته؟ مَن الذي يزرع قليلاً ويأكل قليلاً ويفكر قليلاً ويعطي الحكمة؟
ومكمن الداء هو استعجال المستقبل والخوف منه في آنٍ واحد، كلنا يريد القفز السريع للغد، وهو غد غير متنبأ به، بل صورته معتمة شديدة العتمة، إنه دخان يتصاعد على رءوس الحضارات؛ ويل للعقل مما بعد العقل!
لا يمكن أن تقف الأسطر أو أن تنتهي الأسئلة عن الثورة وعلم المستقبلات ومصير الإنسان؛ فلندعها لنعود للثائر وثورته، والعلاقة بين الفرد والجماعة في هذا العرس البهيج المختل، فليس بالضرورة أن تنطبق ثورة أوربا على ثورة العرب، فتكلفنا سنواتٍ ودماءً وعقولاً ونفوسًا وغير ذلك، ثم نتفيأ ظلال العدل والحرية والعسل.
هل سننتقل بسهولة من الثورة للدولة، ومن الشعار للمنجز؟
من المثير أن سؤالاً كـ(هل ماتت الدولة وولدت الشركة؟) عبارة عن سؤال محسوم في الغرب مع بعض ملفاته المغلقة، ولكنها أيضًا لم تغلق إلا بعد الاتفاق والمصالحة بين الطرفين الدولة والشركة.
إن سؤالاً كهذا قد يكون مثارًا للسخرية والشفقة فيما بعد ربيع العرب، وقد يكون موضع الاهتمام والرعاية من النظار وساسة المجتمعات، ومع مفصليته إلا أنه متأرجح بين احتمالين إستاتيكيين، وهذا من المؤشرات العالية على عماء مآلات الربيع العربي.
إننا معاشر أهل الكلام مدينون للثورة؛ فهي التي تغذي العقول بالجديد والمختلف، وتنفض الغبار عن المتكلس من الأطروحات، وهكذا، إنه الاستهتار بالفكر، والذي يمارسه كثير من المفكرين، وبعضهم لا يريد أن ينكشف .
وإلى الحلقة القادمة بإذن الله ,,,