أسرى المسلمين… صبرٌ وثباتٌ ويقين.

بقلم: د. خالد الخالدي- أستاذُ التاريخِ في الجامعةِ الإسلاميةِ بغزة – رئيسُ مركزِ التأريخِ والتوثيقِ الفلسطيني.
المتأملُ في تاريخِنا يكتشفُ أنّ أسرى المسلمينَ هم أكثرُ الأسرى صبراً على الأذى، وثباتاً على العقيدةِ، وتمسُّكاً بالمبادئ، ويقيناً بعدالةِ القضيةِ، لأنهم يستمِدّونَ قوّتَهم من مَولاهم، الذي دعاهم إلى الصبرِ على الأذى، ووعدَهم بالثوابِ العظيمِ عليه، وطمأنَ قلوبَهم بِسِيَرِ الأنبياءِ والصالحينَ، الذين صبروا فانتصروا وعزُّوا.
ولأنهم يقتدونَ بالنبيِّ الكريمِ”محمد”_ صلّى اللهُ عليه وسلمَ_ الذي كذّبه قومُه وشتموهُ وآذوهُ وحاصروهُ وطردوهُ… فصبرَ، فنصرَهُ اللهُ وأعزَّ دِينَه، وكان يقولُ لأصحابِه عندما يَنفَدُ صبرُهم:( إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ لِيُسْأَلُ الْكَلِمَةَ فَمَا يُعْطِيهَا، فَيُوضَعُ عَلَيْهِ الْمِنْشَارِ فَيَشُقُّ بِاثْنَيْنِ، مَا يَصْرِفُهُ عَنْ دِينِهِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيُمْشَطُ مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ وَمَا يَصْرِفُهُ ذَاكَ عَنْ دِينِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ، وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ).
والأمثلةُ على صبرِ أسرانا وثباتِهم كثيرةٌ ، نَذكرُ منها قصةَ الصحابيّ الجليلِ”عبد الله بن حذافة”، الذي أسرَهُ رومُ قيسارية سنة (19هـ=640م )، وأخذوه إلى ملكِ الرومِ، فقال له: ” تنصَّرْ أشرِكْكَ في مُلكي، فأبَى، فأمرَ به فصُلِبَ، وأمرَ برميِّه بالسهامِ، فلم يجزعْ، فأُنزلَ، وأمرَ بقِدْر فصُبَّ فيها الماءُ، وأُغلي عليه، وأمر بإلقاءِ أسيرٍ فيها، فإذا عظامُه تَلوحُ، فأُمرَ بإلقائه إنْ لم يتنصّرْ، فلمّا ذهبوا به بكَى، قال: ردُّوه، فقال: لِمَ بكيتَ؟ قال: تمنيتُ أنّ لي مِائةَ نفسٍ تُلقَى هكذا في اللهِ، فعجبَ، فقال: قبِّلْ رأسي، وأنا أُخلي عنك، فقال: وعن جميعِ أسارَى المسلمينَ؟ قال: نَعم، فقبَّلَ رأسَه، فخلَّى بينَهم، فقدِمَ بهم على عمرَ، فقامَ عمرُ فقبَّلَ رأسَه”، وتراوحَ عددُ الأسرى الذين عادَ بهم “عبد الله” بين مِائةٍ إلى ثلاثِمائةِ أسيرٍ.
ويُروَى أنّ”عمرَ بن عبد العزيز”أرسلَإلى صاحبِ الرومِ رسولاً، فمَرَّ بموضعٍ، فسمعَ فيه رجلاً يقرأُ القرآنَ ويطحن، فأتاهُ فسلَّمَ عليه، فلم يَرُدّ عليه السلامَ، مرتين أو ثلاثاً، ثم سلَّم، وتعجّبَ من وجودِ مسلمٍ بهذا البلدِ، فأعلَمه أنه رسولُ”عمر بن عبد العزيز” إلى صاحبِ الرومِ، وقال له: ما شأنُكَ؟ قال: إني أُسِرتُ من موضعِ كذا وكذا، فأُتيَ بي إلى صاحبِ الرومِ، فعَرضَ عليَّ النصرانيةَ فأبيتُ، فقال لي: إنْ لم تفعلْ سمَلتُ عينيكَ، فاخترتُ دِيني على بصري، فسملَ عينيَّ، وصيَّرني إلى هذا الموضعِ، يرسلُ إليَّ في كلِّ يومٍ بحِنطةٍ أطحنُها، وخبزةٍ آكلُها، فلمّا صار الرسولُ إلى “عمر” أخبرَه خبرَ الرجلِ، قال: فما فرغتُ من الخبرِ، حتى رأيتُ دموعَ”عمر بن عبد العزيز” قد مثلتْ بين يديهِ، ثُم أمرَ فكتبَ إلى صاحبِ الرومِ: أمّا بعدُ، فقد بلَغني خبرَ”فلان بن فلان”، فوصفَ صفتَه، وإني أقسمُ باللهِ لئنْ لم ترسلْ إليَّ به؛لأبعثنَّ إليكَ جنوداً يكونُ أولُهم عندَك وآخِرُهم عندي، فلمّا رجعَ إليه الرسولُ قالَ: ما أسرعَ ما رجعتَ، فدفعَ إليهِ كتابَ”عمر بن عبد العزيز”، فلمّا قرأهُ قال: ما كنتُ لأحمِلَ الرجلَ الصالحَ على هذا، بل أبعثُ به إليه، قال: فبعثَ به إليه، فوجدَ”عمر بن عبد العزيز” قد ماتَ”.
وقصصُ الأسرى المسلمينَ، الذين ضحوا بحياتِهم في سبيلِ دِينِهم أكثرُ من أنْ تُحصَى، وتاريخُنا وحاضرُنا مليءٌ بنماذجَ رائعةٍ في هذا المجالِ، فقد أرسلَ”جمال عبد الناصر” رسالةً إلى الشهيدِ”سيد قطب” في سجنِه_ بعدَ أنْ صدرَ عليه حُكمٌ بالإعدامِ_ يطلبُ منه اعتذاراً وشهادةً بعَدلِ حُكمِه، وَيعِدُه إنْ فعلَ ذلك؛ أنْ يعفوَ عنه، ويجعلَه وزيراً للتربيةِ والتعليمِ، فردَّ سيد – رحمَه اللهُ- بالقولِ:” إنّ هذا الأصبعَ الذي يشهدُ للهِ بالوحدانيةِ؛ لَيأبَى أنْ يكتبَ اعتذاراً وشهادةً بعدلِ طاغيةٍ”.
وقد سُجنَ الشيخُ الشهيدُ”أحمد ياسين”، وتعرّضَ لأشدِّ أنواعِ العذابِ في سجونِ الصهاينةِ، وظلَّ صابراً ثابتاً على دِينِه ومبادئهِ، وعندما أُفرجَ عنه مضى في طريقِ الدعوةِ والجهادِ، حتى قضَى شهيداً بصاروخٍ فتّتَ جسدَه الطاهرَ المشلولَ. وعُذِّبَ الدكتور “إبراهيم المقادمة” في سجونِ اليهودِ، ثُم في سجونِ أذنابِهم في غزةَ تعذيباً شديداً؛ حتى نقصَ أكثرُ من نصفِ وزنِه، فما لانتْ له قناةٌ، وظلَّ ثابتاً في طريقِ الدعوةِ والجهادِ؛ حتى لقيَ ربَّه شهيداً.
وقبلَ أيامٍ رأيتُ منظراً هزَّ مشاعري؛ وهو فيلمٌ حقيقٌ مصوَّرٌلأسيرٍسوري، قد أسرَه جنودُ”بشار الأسد”، ووضعوهُ في حفرةٍ، ودفنوا نصفَ جسدِه، ثمطلبوا منه أنْ يقولَ :” لا إله إلاّ بشار”، وإلاّ دفنوهُ بالكامل!!، وهو لا يقولُ إلاّ:” لا إلهَ إلاّ الله”، واستمرّوا يدفنونَ، وهو مُصِرٌّ على ترديدِ كلمةِالتوحيدِ، حتى دفنوهُ بالكاملِ وقتلوهُ!!. وقد سبقَ أنْ رأيتُ جنوداً “للقذافي” يفعلونَ ذلك مع ثائرٍ ليبيّ، يطلبونَ منه أنْيشهدَ للقذافي بالألوهيةِ!، وهو يقولُ:” لا إلهَ إلاّ الله” حتى قتلوهُ. قاتلَهم اللهُ، وأُلحقَ كلُّ الطغاةِ وجنودُهم “بمعمر القذافي” إلى جهنمَ وبئسَ المصيرِ.
وعلى دربِ الأنبياءِ والصالحينَ والمجاهدينَ؛ يسيرُ أسرانا الفلسطينيونَ اليومَ، يصبِرونَ على الأذى والجوعِ، حتى يتحققَ لهم النصرُ على جلاّديهِم، والتحرُّرُ من سجونِهم الظالمةِ.