هنيئا للمظلومين الثابتين على الحق

أ.د. خالد يونس الخالدي- رئيس مركز التأريخ والتوثيق الفلسطيني
مناظر الذبح والدماء، والسلخ والأشلاء، التي نشاهدها على شاشات التلفزة صباح مساء، لشبابٍ وشيوخٍ وأطفالٍ ونساء، قضوا مظلومين شهداء، بأيدي جنود وأزلام الرؤساء، لأنهم صدحوا بكلمة الحق، وخرجوا إلى الشوارع يهتفون للحرية، ويطالبون بالتحرر.
تلك المناظر التي تنفطر لها الأفئدة، وتبكي لها العيون، وتتحرك لها دماء الأحرار، تدفعنا للتساؤل والتأمل، لماذا يتجرأ هؤلاء الحكام على قتل شعوبهم بهذه الوحشية؟! وما مصير كلٍّ من الظالمين والمظلومين في الدنيا والآخرة؟ وهل ما يجري شاذ وغريب ولم يحدث إلا في زماننا المتردي، أم أنه طبيعي وقع في القرون الأولى، كلما وصل إلى الحكم عشاق المناصب، وأصحاب الأهواء؟!
لا تفسير لجرأة هؤلاء الحكام على قتل شعوبهم بهذه الوحشية إلا أنهم قد أُصيبوا بداء العظمة، الذي يجعلهم يشعرون بأن أفراد رعيتهم ليسوا إلا عبيداً لهم ولأبنائهم، أو أقلَّ من ذلك، وليس لهم إلا أن يطأطئوا رءوسهم، ويسكتوا عن الفساد والظلم وأكل حقوقهم بالباطل، وأنّ واجبهم أن يقابلوا الانحراف بالثناء، والفساد بالمديح، والصفع على الخد الأيمن بالابتسام وإدارة الخد الأيسر، ومن أسباب هذا الداء العضال الذي قلما يسلم منه حاكم أو مسئول في زماننا، كثرة المدح والإطراء الذي يتقنه كثير من المثقفين والشعراء، وكثرة التصفيق والهتاف الذي يجيده العوام وأنصاف المتعلمين، ومن أسبابه أيضاً طول مدة جلوس الحكام في كراسيهم، وغياب القوانين التي تحدد مدة حكمهم، وتجعله غير قابل للتجديد مهما كانت الأسباب، إضافة إلى ندرة المستشارين الأمناء الذين يصدقون في نصيحة الحكام، وينقلون لهم الأحوال بدقة وأمانة وموضوعية، ولا ينضمون إلى قافلة المداحين، وكذلك قلة العلماء الأقوياء الذين يصدحون بكلمة الحق، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، دون أن يخشوا في الله لومة لائم.
والمصير المحتوم الذي ينتظر الحاكم أو المسئول الظالم في الدنيا هو الهلاك، فقد قضى الله بهلاكه بمجرد وقوعه في ظلم رعيته، لكن موعد الهلاك لا يعلمه إلا رب العزة سبحانه، الذي جعل موعداً لهلاك كل ظالم، فقال: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا}.
أما ما ينتظر الظالمين في الآخرة، فعذابٌ أليم {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وندمٌ شديد {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ}، وطردٌ من رحمة الله{ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}، وخلودٌ في جهنم {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}، وعذابٌ دائم{ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ}.
وليطمئن المظلومون، فقد وعد الله سبحانه باستجابة دعائهم على من ظلمهم، وبنصرهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:” ثَلاَثَةٌ لاَ تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حتى يُفْطِرَ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ على الْغَمَامِ وَتُفْتَحُ لها أَبْوَابُ السماء، وَيَقُولُ الرَّبُّ عز وجل وعزتي لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ”.
وليفرح الذين ظُلموا أو أوذوا أو قُتلوا بسبب وقوفهم بجرأة في وجه الباطل، لأنهم سيكونون سادة للشهداء في الفردوس الأعلى، إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ” سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله”.
والتاريخ يبين أن ظلم السلاطين والمسئولين يحدث منذ القدم، وأنه لم ينج ظالم من الهلاك الذي توعد الله به الظالمين، فمن أجل أن يحافظ فرعون على حكمه من موسى الذي بلغه أنه سيولد في بني إسرائيل وينازعه عليه، أمر بذبح أولادهم، واغتصاب نسائهم، لكن ذلك البطش والجبروت لم يُنجه من الهلاك هو وجنوده، وقد أصاب هذا الداء بعض خلفاء وأمراء المسلمين في أوقات مختلفة، والأمثلة على ذلك كثيرة نذكر منها، ما فعله عبد الله بن علي والي الشام للخليفة العباسي أبو العباس السفاح، الذي نصره المسلمون ضد الدولة الأموية من أجل أن يخلصهم من الفوضى والظلم، وعندما انتصر مارس الغدر والظلم والبطش على رعيته، فقد أمر بقتل كل أموي يتم العثور عليه، فقتل الكثير منهم، ولم ينج إلا من أحسن الاختباء، ولكي يقضي على المختبئين، ويسلم من احتمال منافستهم له على كرسي الحكم، أعلن الأمان لهم، ودعاهم لمقابلته في وقت معين، ومكان محدد، لإعطائهم العفو والجوائز، وعندما حضروا أمر بقتلهم، ثم أمر بفرش البسط فوق جثثهم، وأن يوضع الطعام على البسط، وتناول هو وجنوده الطعام فوقهم، والجرحى تحتهم يئنون، وافتخر بجريمته، عندما ذكر أنها كانت أشهى وجبة يتناولها في حياته. وسلط الله على الخلفاء العباسيين قادة من العجم تحكموا بهم وأذلوهم، ثم سلط عليهم المغول فدمروهم، وأسقطوا حكمهم، {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
فهنيئاً للمظلومين الصابرين الثابتين على الحق، وويل للظالمين في الدنيا والآخرة.
{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}.