أطفالُ غزة الموتِ يخطفُ براءتَهم ومحاولات لإعادة الحياة

السعادة _آصال أبو طاقية
في كل بقعةٍ من هذا العالمِ الفسيحِ، يعيشُ الأطفالُ في حياةٍ تُعبقها السعادةُ والأمان، لا يشوبُها أصواتُ قصفٍ أو ضياعٌ لطفولةٍ بريئةٍ أراد المحتلُّ أنْ يقتلَها في مهدِها، إلاّ هنا في غزةَ؛ تجدُ ألعابَ الأطفالِ ليست كأشباهِهم من الصغار، فشهيةُ الموتِ تخطفُ طفولتَهم رغماً عنهم، حتى بات التمثيلُ لأركانِ المعركةِ والعدوانِ وتفاصيلِه حديثَ الصغارِ والكبارِ ومُتنفسَهم الوحيدَ لواقعٍ صعبٍ فرضتْهُ قسوةُ الحياةِ وطغيانُ المحتل .
كارثية بامتياز!
وعن ظروفِ الحربِ التي شهِدَها قطاعُ غزة؛ يقولُالأستاذ المشاركُ في الصحةِ النفسية بالجامعةِ الإسلامية د. جميل الطهراوي :” هذه الحربُ كارثيةٌ بكلِّ ما تحَمِلُه الكلمةُ من معنى، مقارنةً مع ما سبقَها من قبلُ؛ لأنّ حجمَ الدمارِ والقصفِ كان كبيراً جداً ،ولم يكنْ هناك مكانٌ آمِنٌ على الإطلاقِ “.
ويبيِّنُ أنّالفئاتِ الأكثرِ تضرُّراً من الحربِ؛ هم ” الأطفال ” والذين يصابونَ عادةً باضطرابٍ ما بعدَ الصدمةِ؛ بسببِ تعرُّضِهم لحدثٍ صدميٍّ؛ كأصواتِ القصفِ ومشاهدِ القتلِ والدمارِ المتكررةِ .
ويتابع :” يجبُ تلاشي الاضطرابِ عند الأطفالِ منذُ بدايةِ الحدثِ، فعندما يحدثُ صوتُ انفجارٍ يَنصحُ الوالدَينِ بعدمِ الخوفِ وتركِ الأطفالِ لوحدِهم ، وأهميةَ أنْيكونَ هناك تفريغُ محتوى لصوتِ الصاروخِ، فعندما يسقطُ؛عليهم الصراخُ بصوتٍ عالٍ، أو قولُ اللهُ أكبرُ حتى إنْ أتى المثيرُ الأصليُّ يصبحُ الشيءُ أمراً عادياً “.
أعراضُ الصدمةِ
وحول تعدُّدِ أعراضِ الصدمةِ على الأطفالِ؛ يقولُ الطبيبُ النفسي مديرُ العيادةِ النفسية في مدينة رفح د. يوسف عوض الله :”إنّ أعراضَها لا تقتصرُ فقط على الاضطراباتِ السلوكيةِ، إلا أنها تُحدثُ تغيُّراتٍ فسيولوجيةً: كـالصداعِ، وآلامٍ في البطنِ، وأحياناً تشنُّجٍ وغيابٍ عن الوعي، خاصةً لدى الأطفالِ الذين فقدوا آباءَهم”.
ويتفقُ كلٌّ من “الطهراوي وعوض الله” أنّمظاهرَ الصدمةِ النفسيةِلدى الأطفالِ؛ تتمثلُ فيتقلُّبِ المزاجِ والخوفِ والرعبِ وعدمِ الاستقرارِ، إضافةً إلى الرغبةِ في البكاء، وإلى وجودِ بعضِالاضطراباتِالسلوكيةِ:كالتبوُّلِ الليلي غيرِ الإرادي، واضطراباتِالنومِ والكوابيسِ، إلى جانبِ حدوثِ خللٍ في التواصلِ،أو ما يُعرف بالتأتأة واللعثمة،كذلك العنفِ ضدّ الجميعِ و سرعةِ الغضبِ .
ويضيفان :” يتعددُ التأثيرُ على الأطفالِ، والذي قد يؤدي في بعض الأحيانِإلىتراجعٍ في التحصيلِ الدراسي، وشرودٍ ذهنيّمتواصلٍ، وعدمِ التركيز؛ ما يُنتجُ عنه شخصيةٌ متغيرةٌ وضعيفةٌ،ويختلفُهذا التأثيرُمن شخصٍ إلى آخَرَ “.
انعكاساتٌ مستقبليةٌ
وعن الانعكاساتِ المستقبليةِ للصدمةِ على الأطفالِ؛يقول د. عوض الله :” قد يصابُ الطفلُبالاكتئابِ النفسي المتواصلِ، وكذلك حالةٍ من العزلةٍ والوحدةِ التي تصلُ في بعض الأحيانِ إلى الرغبةِ في الموت ،لذلك يجبُ الانتباهُ والتدخلُ المبكرُ في علاجِ الاضطرابِ؛ منعاً لتحوُّلِه إلى اضطرابٍ مزمنٍ يحتاجُ علاجُه مدةَسنةٍ أو سنتين، وإنْ تأزّمَ يحتاجُ في بعض الأحيانِ لعقاقيرَ طبيةٍ في حالةِ التكاسلِ وإهمالِ التدخُلِ المبكّرِ “.
ويوضّح أنّ البعضَ يرى أنه لا ضرورةَ للحديثِ مع الأطفالِ عمّا تعرّضوا له من صدمةٍ؛ إلاّ أنّ هذا يُعدُّأسلوباً خاطئاً وغيرَ علميٍّ، و يجبُ أنْ يكونَ هناك تفريغٌلِما في داخلِهم من ضغطٍ نفسيّ .
وينوِّهُ إلى أنّهناك مشاهدَ خزَّنها الطفلُ في العقلِ اللاواعي، وإنْ لم يتِمْ التنفيسُ عنها؛ستبقى في عقلِه الباطني، وستؤثّرُ على سلوكِه ليصبحَ الباعثَ والمحرّكَ له،ومن هنا تأتي نوباتُ الغضبِ والشرودِ الذهني، منوّهاً إلى أنّ هناك أطفالاً لا تريدُ التفاعلَ مع أحدٍ، لكنْ على الطبيبِ أنْ يكسرِ الحاجزَ عن طريقِ الحركاتِ البهلوانيةِ وغيرِها .
الجديرُ بالذّكرِ أنّالعلاجََ بالرسمِ له فائدةٌ علاجيةٌ وأخرى تشخيصية ، فعندما يُنهي الأطفالُ رسوماتِهم؛ يقومُ الطبيبُ النفسي بتحليلِها وإجراءِ حوارٍ معهم حولَ ما حدثَ من خلالِ عدّةِ أسئلةٍ تُسمّى ” الغمر التخيلي ” أحدُ التقنياتِ المستخدَمةِ في العلاجِ السلوكي .
علاجُ الصدمةِ
ويتابع د. عوض الله:” أمّا العلاجُ الآخَرُ يسمّى ” السيكو دراما ” أي التمثيلُ المسرحي،ويَتمُّ فيه إحضارُ مجموعةٍ من الأطفالِالذين يعانون من ذاتِ المشكلةِ، كفقدِ أحدِ الأقاربِ أو أفرادٍمن العائلةِ، وعرضُ تمثيلٍ مسرحيّعليهم، يتيحُلهم من خلالِه التعبيرَ عن الأحداثِوما يصاحبُها من مشاعرَ، فعندما يكونُ الطفلُ في حلقةٍ من الأطفالِ؛ يشعرُ بوجودِ تضامنٍ من غيرِه، ومن ثم يُطلبُ منهم تمثيلُ ما حدثَمعهم، وهذا يُعطي نتائجَ مُذهلةً “.
ويبيّن د. الطهراوي أنّ هناك علاجاً باللعب عبرَ المُكعباتِ والطينةِ والألعابِ على الكمبيوتر، بالإضافةِ إلى سردِ القصصِ من خلال جلوسِ الأمِّ إلى جانبِ طفلِها، واحتضانِها له وإخبارِه بقصةٍ ذاتِ نهايةٍ إيجابيةٍ وسعيدةٍ؛ كي يرتاحَ الطفلُ في نومِه.
ويؤكّدُ”عوض الله”أهميةَ تعليمِ الأمِّ والطفلِ تمارينَ الاسترخاءِ والتنفسِ العميقِ ، أي ما يسمَّى بالإيحاءِ الذاتي، من خلالِ إغلاقِ العينينِ، وتَخيُّلِ أشياءٍ جميلةٍ مع ترديدِ عباراتٍ بصوتٍ منخفضٍ، من أجل إعطائه دعماً نفسياً كــ ” أنا قوي ” ” أنا شجاع ” ” أخي شهيدٌ لكن أبي على قيدِ الحياة ” ” أنا بخير “، عدا عن الدعمِ المجتمعيّ الذاتيّ للضحيةِ من خلالِ التآزُرِ معه .
ضرورةُ الاحتواءِ
ويؤكّد د. “الطهراوي”أنّ للمدرسةِ دوراً لا بدَّ منه من خلالِ التفريغِ النفسي، العلاجِ باللعب، الرسمِ ، تقليلِ ساعاتِ الدوام، مع تَتبُّعِ الأخصائيّ النفسيّ في المدرسةِ للحالاتِ، وعلى المدرّسِ التنبُّه بأنّتغيُّرَ سلوكياتِ الأطفالِ ما هي إلا رسائلُ مبطّنةٌ لأطفالٍ مصدومينَ وغيرِ سويّين ، وعلى الجميعِاحتواؤها، إلى جانبِتخفيفِ المناهجِ، وعقدِ الرحلاتِالدراسيةِ، وتقديمِ الدعمِ للأطفالِ من خلال زيارتِهم في البيتِ، وتنصيبِهم في أماكنَ مرموقةٍ كعريفِ الصفِّ .
يشارُ إلى أنه وِفقاً لتقريرِ الأممِ المتحدةِ؛ فإنّ هناك أكثرَ من (400) ألفِ طفلٍ يعيشونَ الصدمةَ النفسيةَ في درجاتِها الثلاثة(الطفيفةِ والمتوسطةِ والشديدةِ) في قطاعِ غزةَ بسببِ العدوانِ على قطاعِ غزة .