العثماني .. “مطرّزاتُ يدِها” تأريخٌ للأرضِ، وبابُ رزقٍ للعائلاتِ المُحتاجة !

السعادة _ آلاء عاطف النمر
بإقبالك على مشروعٍ ناجحٍ؛ تقودُه امرأةٌ خمسينيةٌ تثِقُ بنفسِها وبمُنتَجِ يدِها، يُخيَّلُ إليكَ ذاك المكتبُ الخشبيّ الرخيمُ، ومن خَلفِه كرسيٌّ إداري دوَّارٌ يخصُّ جلستَها , كما وتشعرُ بأنك ستدخُلُ لمكانٍ يضاهي ذاك المنتَجَ الذي سمعتُ عن تفوِّقِ نجاحِه بينَ الزبائنِ , ما بين تكييفٍ كهربائي و مراوحَ كهربائيةٍ مُلطِّفةٍ للأجواءِ الصيفيةِ الحارّة , ولكنّ المفاجئَ ما وجدَتْه “السعادة” هنا …
خطّتْ “السعادة” أقدامَها بين أزِقّةِ مخيمِ النصيراتِ وسطَ مدينةِ غزةَ؛ باحثةً عن بيتِ الخياطةِ الخمسينيةِ “أم أحمد العثماني”, والتي اعتلتْ سطحَ منزلِها مُعلِنةً بأنه المكانُ الرسميُّ لاستقبالِ زبائنِها، لإنجاحِ مشروعِها الذي لا يجدُ لنفسِه مكاناً سِوى أعلى غُرفِ نومِها وأبنائها , وذلك بعدَ أنْ أصبح زوجُها عاطلاً عن العملِ؛ إثرَ توقُفِ عمّالِ “إسرائيل” عن العملِ داخلَ الأراضي المحتلّة.
هنا وضعتْ “العثماني” ماكنةَ الخياطةِ ذاتَ الملامحِ الأثَريةِ، والتي لم يقضِ على صحتِها عقودٌ كثيرةٌ مرّتْ !!, حيثُ ارتكنَ الزمنُ على إنتاجِها برفقةِ امرأةٍ مُثابِرةٍ , ووضعتْ من حولِها الأقمشةَ التي يغلبُ عليها اللونُ
الأسودُ الداكنُ، مُخصِّصةً لألوانِ خيوطِها الجريئةِ مكاناً صغيراً , وسجّلَ لها نجاحاً مُبهِراً بمشروعِ الخياطةِ وحياكةِ الأقمشةِ والتطريزِ بكافةِ ألوانِه وأشكالِه
عِرقٌ أخضرُ !
وبدأتْ الخيّاطةُ “العثماني” ببَثِ قصةِ بدايتِها مع مشروعِ التطريزِ بقولِها :”منذُ أنْ كنتُ طفلةً صغيرةً؛ كانت أمي تحيكُ لنا ملابسَنا، وكنتُ دائمةَ التأمُلِ بأناملِها، وهي تمزجُ بألوانِ الخيوطِ فوقَ أثوابِنا المختلفةِ؛ حسبَ ألوانِ الأقمشةِ التي تستخدمُها , فأمي كانت تحيكُ الملابسَ، وتطرِّزُ الأثوابَ , حتى تزوّجتُ وأصبحتُ أحيكُ لأطفالي الملابسَ، وأبدِعُ في ابتكارِ (القصّات والموديلات) ليكونَ أبنائي وبناتي متميّزينَ عن أقرانِهم من بينِ أبناءِ المخيم “.
تتابعُ العثماني :”في يومٍ من الأيامِ؛ كنتُ قد بدأتُ بتجديدِ أوجُهِ الوسائدِ في بيتي؛ حتى خطرَ في بالي أنْ أنقلَ ذاك العِرقِ الأخضرِ المختلِطِ ببعضِ ألوانِ الزهورِ، والذي يعتلي الوسادةَ القديمةَ لثَوبي الأسودِ لأَحيكَه معه, فأصبح ثوباً جميلاً؛ يليقُ به الخروجُ من البيتِ لقضاءِ حاجاتي” , “خرجتُ من بيتي لأولِ مرةٍ في هذا الثوبِ البسيطِ؛ حتى رآني أحدُ جيرانِنا المسئولينَ بمنصبِ “وزير” حينها مُلوِّحاً بيدِه لي , بادرَني بسؤالي عن المكان الذي اشتريتُ منه ذاكَ الثوبِ؛ ليجلبَ لزوجتِه مَثيلَه , فأجبتُه بأني صنعتُه بنفسي، وأني قادرةٌ على عملِ نظيرِه لزوجتِه , حتى ذاعَ الخبرُ بعدَ ذلك بين نساءِ المخيمِ؛ بأني أَمتهِنُ الخياطةَ وأبدِعُ فيها , ما جلبَ لي العديدَ من النساءِ , تحفّزتُ بعدَها على إنجاحِ فكرةِ مشروعي؛ بأنْ أمتَهِنُ الخياطةَ والتطريزَ، وأنْ أسوِّقَ لأعمالي لأنجحَ بجدارةٍ !”.
بِدونِ “نت” وكُتب !
وتحيكُ “العثماني” الأثوابَ التراثيةَ بيدِها، بعدَ أنْ تلبسَ نظارتَها؛ لتتمكّنَ من لَضمِ الخيوطِ وإدخالِ الإبرةِ في مكانِها الصحيحِ، لتُنتجَ ما يرضيها ويُرضي زبائنَها , حيثُ تقضي ساعاتِ الليلِ بالنهارِ بتصميمِ أزياءٍ وأثوابٍ مطرَّزةٍ لِعَرضِها على الزبائنِ فيما بعدُ , ولتصبحَ جاهزةً للبيعِ !
ولا يضيرُ “العثماني” طلبُ الزبونةِ بأنْ تعملَ لها تصميماً ولوناً خاصاً بها؛ غيرَ تلكَ الأثوابِ المعروضةِ جانباً , فتتركُ الأذواقَ وحريةَ الاختيارِ والتصميمَ للزبائنِ حسبَ رغباتِهم .
تستعرضُ “العثماني” الأثوابََ الملوَّنةَ بيدِها وتقول :”عادت الأثوابُ التراثيةُ لواقعِ الحداثةِ , حتى أصبحتْ العروسُ المقبِلةُ على الزواجِ بوضعِ قطعةٍ قماشيةٍ مطرَّزةٍ ترتديها عند إقبالِ المُهنئينَ لها بالزواجِ، كما وتليقُ بالموضةِ والموديلاتِ الحديثةِ، بل أجملُ وأكثرُ رُقيّاً”.
وتلجأُ “العثماني” لذَوقِها وصفاءِ ذهنِها في ابتكارِ التصاميمِ الجديدةِ للأثوابِ , حيثُ تقول :”لا أمتلكُ وسائلَ التكنولوجيا الحديثةِ للتفتيشِ عن تصاميمَ, ولا أمتلكُ كُتباً قديمةً تحتوي على معلوماتٍ تراثيةٍ أو ما شابَهَ , ولكني أعتمدُ على مُخيَّلتي التي لا شُغلَ لها سِوى اختراعِ التصاميمِ الجديدةِ بعيداً عن التكرارِ”.
تراثٌ راسخٌ !
تُمسِكُ بقِطعِ القماشِ السوداءِ وتتابع :”أمتلكُ الموهبةَ الكافيةَ لمعرفةِ جميعِ أنواعِ الأثوابِ الفلسطينيةِ، وأصلِ المدينةِ التي ينتمي لها الثوبُ , كما وأعملُ ضِمنَ مشروعي على تجديدِ الأثوابِ التراثيةِ القديمةِ؛ لكي لا تندثِرَ بعدَ اهترائها مع الزمنِ، لتبقَى شاهداً على رسوخِ القضيةِ الفلسطينيةِ في جذورِ أرضِنا المحتلةِ “.
وذكرتْ “العثماني” بعضَ أنواعِ “العبايات” التي تحيكُها :”أحيكُ العباءةَ القطَريةَ والخليجيةَ والهنديةَ والبحرينيةََ والسعوديةَ؛ ممزوجةً بعضُها بلمساتٍ معيّنةٍ من خيوطِ التطريزِ , حيثُ تتميّزُ كلُّ واحدةٍ منهنّ بِسِماتٍ مختلفةٍ عن غيرِها , حيثُ كلُّ عباءةٍ منهنَّ تكونُ رمزَ البلدِ التي تنتمي إليه , كما الأثوابِ التراثيةِ الفلسطينيةِ تماماً”.
ولن تكتفيَ “العثماني” بإقامةِ مشروعِها فوق سطحِ بيتِها، ولكنها تطمحُ بالرُّقيِّ به أكثرَ، وفتحِ مشروعٍ أكبرَ؛ بعدَ أنْ يتوسّعَ حالُها، حيثُ تقولُ :”يلزمُنا الكثيرُ لكي نصعدَ من هذا المكانِ، وأفتحَ وبناتي والعديدَ من الأُسرِ المستورةِ مشروعاً كاملاً؛ يختصُّ بالحياكةِ وتطريزِ الأثوابِ التراثيةِ , فذاك السطحُ البسيطُ الذي يحوي المطرَّزاتِ يعيلُ عشرينَ بيتاً من الأُسرِ الفقيرةِ من قلبِ المخيم”.
رغمَ أنّ “أم أحمد العثماني” امرأةٌ بسيطةٌ تعيشُ بين مخيمٍ أُسَرُه تُعاني من الفقرِ؛ إلا أنها تعيشُ روحَ التحدِّي بإنجاحِ عملِها لإعالةِ أسرتِها والرُّقي بطموحِها بالانتشارِ بكافةِ الأراضي الفلسطينيةِ، وخصوصاً أراضي الضفةِ المحتلةِ وقطاعِ غزة , وتبقََى أحلامُها تراوِدُها بين تحقيقِها ومواجهةِ الصعوباتِ والحصارِ المفروضِ عليها، كما أبناءِ شعبِها في قطاعِ غزةَ .