غير مصنف

الأمُّ العاملةُ غيابُها يُحوِّلُ البيتَ إلى معركةٍ وفوضَى وتتطاير توصياتها في الهواءِ

تحقيق – أمل زياد عيد

(ما تِمسِكْ الغاز، ما تِلعبْ في الكهربا، ما تِرمي ألعابك ،  ما توَسّخ البيت، حافظْ على ترتيب غرفتك ، اكتُب واجبَك) توصياتُ ونصائحُ الأمِّ العاملةِ لأبنائها في ظِل غيابِها عن البيتِ لساعاتٍ؛ لتعودَ وكأنّها لم تَقُلْ شيئاً!! فالبيتُ يتحوّلُ إلى فوضَى خلاّقةٍ، وتبدأ الأُمُّ تهديداتِها بالعقابِ لهم،  فهي تحتاجُ إلى وقتٍ إضافيٍّ للترتيبِ والتنظيفِ ، فكيف تتصرّفُ الأمُّ مع أبنائها ؟ وهل ترْكُهم في البيتِ يشكِّلُ عاملَ خوفٍ ؟ وهل للتربيةِ وتَعَوُّدِ الأطفالِ منذُ الصغرِ؛ تأثيرٌ في المحافظةِ على نظافةِ المكانِ؟

“أُم يحيى” 45 عاماً،  تعملُ محاميةً، تقولُ”: يتطلّبُ عملي الغيابَ لساعاتٍ طويلةٍ، فمُجردُ دخولي البيتَ أجِدُه بحالةٍ غيرِ التي تركتُه عليها!! ملابسُ وأحذيةٌ وألعابٌ وكُتبٌ متناثرةٌ هنا وهناك!! لأُصابَ بحالةٍ من العصبيةِ والصراخِ، فبرُغمِ توصياتي لهم؛ إلاّ أنهم يكرِّرونَ أخطاءَهم “.

وتتابعُ :” قبلِ خروجي من البيتِ؛ أحرصُ على تجهيزِ الطعامِ لهم، وترتيبِه وتنظيفِه؛ ولكنْ برُغمِ ذلك أجِدُهم يدَّعونَ؛ هذا لم يُعجبْهُ الطعامُ! وآخَرُ يدَّعي أنه لم يجِدْ بلوزتَه؛ فاضطَّر إلي البحثِ عن أُخرى… وهكذا معاركُ يوميةٌ، ومُبرِّراتٌ لطفولتِهم”.

فيما فوجِئتْ “مريم” موظَّفةٌ حكومية”30عاماً” بعدَ عودتِها من العملِ؛ بوجودِ أحدِ أبنائها الأربعةِ في المستشفى، بعدَ تعرُّضِه لحرْقٍ في الجسمِ؛ بسببِ سَكْبِه ماءً مَغلِيّاً أثناءَ تحضيرِه كوبَ شايٍّ لنفسِه، حيثُ أنها لم تتوقّعْ حدوثَ مِثلِ هذا الشيءِ أبداً؛ وخاصةً أنها تقومُ بكلِّ الاحتياطاتِ المطلوبةِ في غيابِها؛ لتحافظَ على حياةِ أبنائها… ولكنْ كما تقولُ :” لا شيءَ يسُدُّ مكانَ الأُمِّ مَهما كان” .

وتُعبِّرْ “مريم” عن إحساسِها بالذنبِ تُجاهَ أطفالِها، حيثُ تَعُدُّ نفسَها هي المسئولةُ عن ما حصلَ فتقولُ :” لو كنتُ موجودةً في البيتِ؛ لَحضَّرتُ له ما يريدُ بنفسي بدلاً منه، ولكنّ عملي يُجبِرُني على الخروجِ من المنزلِ ساعاتٍ طويلةً، ولكنني لن أسمحَ لمِثلِ هذا الشيءِ أنْ يتكرّرَ! وسأفعلَ كلَّ الطرُقِ للحفاظِ على حياةِ أبنائي من جهةٍ، وجعلِهم يعتمدونَ على أنفُسِهم أكثرَ من جهةٍ أُخرى”.

لا تَخرجُ منال صالح “38 عاماُ” لديها ثلاثةُ أبناءٍ؛ من المنزلِ قبلَ أنْ تعطيَ توصياتِها لابنتِها الكُبرى، والتي تبلغُ من العمرِ “13 عاماً ” وتقولُ :” أعملُ مُدرِّبةً في أحدِ النوادي الرياضيةِ، وأَخرجُ من المنزلِ في الساعةِ الثامنةِ صباحاً؛ حتى الثالثةَ مساءً ، وأستيقظُ بوقتٍ مبكِّرٍ جدّاً، وأقومُ ببعضِ المَهامِ المنزليةِ، وأُجهِزُ بعضَ “السندوتشات” لأبنائي في المدرسةِ ، وأساعدُهم في تجهيزِ أنفسِهم ، فأنا لا أَخرجُ إلى العملِ إلاّ بعدَ خروجِهم إلى المدرسةِ ، ولكني أعطي كلَّ توصياتي لأُختِهم الكُبرى، حيثُ أوصيها على أشقائها وعلى المنزلِ، وأُعدِّدُ لها بعضَ المَهامِ التي تقومُ بها بعدَ العودةِ، وماذا تفعلُ، وما لا تفعلُ، وأنْ تأخذَ بالَها من أشقائها”.

موقفُ الأبناءِ

الطالبةُ الإعداديةُ “ميسرة” تشتكي من غيابِ والدتِها ساعاتٍ طويلةً في العملِ، فهي كما توضّحُ تحتاجُ لها في كثيرٍ من الأحيانِ، ولا تَجِدُها وتقولُ :”عندما أعودُ من المدرسةِ أحتاجُ لِمن يساعدُني في تحضيرِ شيءٍ آكُلُه، فأنا ليس لدي خبرةٌ في المطبخِ! مما يضطّرُني أنْ أنتظرَ عودةَ أُمي من العملِ ، وأحياناً أخرى أحتاجُها لتساعِدَني في بعضِ المسائلِ الحسابيةِ، ولكنها تعودُ مُتعَبةً، ولا تستطيعُ أنْ تتفرّغَ لي “.

ويختلفُ الحالُ لدَى رأفت “16 عاماً ” حيثُ أنّ عمَلَ والدتِه لا يؤثِّرُ عليه كثيراً، فهو كما يبيّنُ أنه يستطيعُ أنْ يعتمدَ على نفسِه، وأنْ يتعاونَ مع أشقائهِ وشقيقاتِه للقيامِ بكلِّ ما يَلزمُهم من مَهامٍ، فهو يقومُ بتحضيرِ طعامِه بنفسِه ، ويراجعُ دروسَه بنفسِه، وعندما يحتاجُ لشيءٍ بالدراسةِ يلجأُ لوالدِه، وذلك بسببِ تَفرُّغِه أكثرَ من والدتِه، ويقول :” برغمِ أنني أستطيعُ أنْ أعتمدَ على نفسي؛ إلاّ أنّ وجودَ أُمي في المنزلِ يكونُ بالنسبةِ لي أفضلَ بكثيرٍ، فلا شيءَ يأخذُ مكانَ الأُمِّ، فهناك مواقفُ كثيرةٌ لا نستغني فيها عن الأُمِّ “.

ولكنْ كيف يُمكنُ أنْ توَفّقَ المرأةُ بينَ عملِها في المنزلِ ووظيفتِها الخارجيةِ؟ وهل خروجُها إلى العملِ تضحيةٌ في أُسرتِها وأبنائها؟  تتحدّثُ في هذا الشأنِ الأخصائيةُ النفسيةُ “حنان أبو ظاهر” حيثُ تؤكِّدُ أنْ المُهمّةَ الرئيسةَ والدورَ الأساسَ للأُمِّ؛ الذي خُلقتْ له بكيانِها وأنوثتِها وطبيعتِها البيولوجيةِ، حيثُ منَحَها اللهُ طاقةً فطريةً لتربيةِ الأولادِ، والاعتناءِ بالبيتِ، وهذه الطاقةُ لا يَملِكُها الرجلُ، وتقولُ :” إنّ هذا الدَّورَ كان ومازال، وسيبقَى قائماً؛ لأنه لا يوجدُ مَن ينوبُ عنها فيه، فهي الجزءُ المُهِمُّ في الحياةِ، بل هي الجزءُ الأهمُّ لأنها المُنجِبةُ والمُربّيةُ”.

 الاستقرارِ الماديّ

وتوضّح أنّ المرأةَ بِحُكمِ الظروفِ الاقتصاديةِ الصعبةِ، إضافةً إلى ما طَرأَ على متطلباتِ الحياةِ من كفاحٍ عنيدٍ دفعَها للخروجِ إلى العملِ، محاوَلةً منها لإيجادِ حالةٍ من الاستقرارِ الماديّ للأُسرةِ، فالأوضاعُ تلعبُ أحياناً في ظروفٍ مُعيَّنةٍ دوراً حاسماً في توجيهِ سلوكِ المرأةِ.

وتَذكرُ بعضَ الآثارِ الإيجابيةِ للعملِ فتقول: “إنّ مَضمونَ العملِ وماهيَّتَه هما مصدرٌ لِغِناءِ الشخصيةِ وتطوُّرِها، وبالتالي ينعكسُ إيجاباً على عملِها في البيتِ،  ويساعدُ في توفيرِ دخْلٍ ماديٍّ يزيدُ من دخْلِ الأُسرةِ  ، أمّا عن السلبياتِ فتقول :” انشغالُ المرأةِ في العملِ و خصوصاً المتزوجةَ، يعني وقتاً أقلَّ، و إهمالَ المنزلِ، و الاعتمادَ على دُورِ الحضانةِ للاهتمامِ بالأطفالِ الذين يَفقدونَ الكثيرَ من حنانِ الأُمِّ؛ نظراً لانشغالِها في العملِ، على عكسِ المرأةِ التي لا عملَ لها، وتقومُ بدَورِها الطبيعيِّ في منزلِها، و تعطي جُلَّ وقتِها لأفرادِ الأُسرةِ و المنزلِ”.

وازِني بينَ الدَّورَينِ

وحتى تستطيعي أنْ تَكوني على مستوى الوفاءِ بواجباتِك كأُمٍّ لأطفالِك، وتقومي بتربيتِهم والاعتمادِ على أنفُسِهم في غيابِك، وفي الوقتِ نفسِه تُحقِّقي النجاحَ المأمولَ في عملِك؛ لابدّ أنْ تَضعي خُطةً مدروسةً ومُحكَمةً تَتّسِمُ بالمرونةِ والواقعيةِ، بحيثُ لا تختلطُ الواجباتُ، ولا تَطغَى المَهامُ على بعضِها البعضِ ، تُقدِّمُ الأخصائيةُ النفسيةُ بعضَ النصائحِ لرَسمِ خُطةٍ للموازَنةِ بينَ دَورِ الأُمِّ، ودَورِ أحدِ مصادَرِ الدخلِ الماديّ للأُسرة.

وتنصحُ بضرورةِ إدارةِ الوقتِ بالحِكمةِ، بوَضْعِ جَدولٍ بأهمِّ الأَولوياتِ التي لا يمكنُ التفريطُ فيها، أو التنازلُ بشأنِها، سواءٌ فيما يتعلّقُ بدَورِكِ كأُمٍّ مع أطفالِك، أو ما يَخصُّ عملَكِ،  يجبُ أنْ يكونَ لكِ روتينٌ يوميٌّ واضحٌ؛ لأنه سيَجعلُ أطفالَكِ يُدركونَ طبيعةَ ما يُمكِنُهم أنْ يتوقَّعوهُ ويكيِّفوا أنفُسَهم عليه، وكذلك يجعلُكِ تُدرِكينَ بشكلٍ محدَّدٍ ما هي إمكاناتُ أطفالِكِ؟ وما هي الحدودُ التي يمكنُكِ أنْ تتحرّكي داخلَها لمُراعاةِ عملِكِ في الوقتِ نفسِه؟ ، استعدِّي لكلِّ فترةٍ، وبذلكَ ستَضمَنينَ عدمَ وقوعِك تحتَ ضغطِ الوقتِ، فإنَّ واجباتِ الصباحِ تَقومينَ بإعدادِها في مساءِ اليومِ السابقِ، وواجباتِ المساءِ يُمكنُكِ أنْ تُجهِزي لها في الصباحِ السابقِ لهذا المساءِ”.

وتُنوِّهُ إلى ضرورةِ تعويدِ الأُمِّ أبناءَها على تَحمُلِ المسئوليةِ  والترتيبِ والنظامِ والمُساهمةِ في الأعمالِ المنزليةِ منذُ الصغرِ، وتبدأُ بالتدريجِ  فيبدأ بترتيبِ غُرفِهم وألعابِهم ووضعِها في أماكنِها، فهذا يخلقُ فيهم حبَّ المساعدةِ والمحافظةِ على نظافةِ المنزلِ .

مُهمّةٌ مزدوجةٌ

ويتحدّثُ الدكتور “عائد الكحلوت” أستاذُ علمِ الاجتماعِ في جامعةِ الأقصى من الناحيةِ الاجتماعيةِ، حيثُ يقول :” المُهِمةُ المزدوجةُ للمرأةِ في العملِ والمنزلِ؛ تتطلّبُ منها جهوداً مضاعفةً، لأنّ المجتمعَ يطالبُها بالقيامِ بواجباتِها تُجاهَ الأُسرةِ دونَ تقصيرٍ، لكنّ المجتمعَ بشكلٍ عامٍ، ونتيجةً لتطوُرِ الحياةِ وكثرةِ الأعباءِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ؛ أصبح يتفهمُ عملَ المرأةِ خارجَ المنزلِ، ويعتبرُ ذلك أساساً لتكوينِ المجتمعِ الحديثِ، ودُونَه لا يمكنُ أنْ يتمَّ تطويرُ وتحديثُ وبناءُ مجتمعٍ متكاملٍ يسايرُ العصرَ، ويجعلُنا في مصافِّ الدولِ المتقدّمةِ في العالمِ.

ويؤكّدُ على أهميةِ دَورِ الزوجِ فيقول:” عندما تستطيعُ المرأةُ تحقيقَ التوازنِ بينَ عملِها من جهةٍ وواجباتِها من جهةٍ أخرى؛ فلن تكونَ هناك أيُّ مشكلةٍ، وعندما يتفهَمُ الزوجُ أهميةَ عملِها، لها وللمجتمعِ، وقيامِه بمساعدتِها في المنزلِ، سيؤدّي ذلك إلى تخفيفِ الأعباءِ الملقاةِ عليها جسدياً ونفسياً، وهذا بدَورِه سيؤدي إلى تكوينِ أُسرةٍ مستقرَّةٍ مادياً واجتماعياً. ‏

ويوضّح الدكتور “عائد” أنّ أكثرَ ما يهمُّ الأمَّ العاملةَ هو التوفيقُ بين واجباتِها نحوَ أسرتِها وعملِها، وهي مُهمّةٌ ليست سهلةً، وتمثّلُ تحدِّياً لها، ولعلّ المشكلةَ لم تَعدْ في عملِ المرأةِ بقدْرِ ما هي في الساعاتِ الطويلةِ التي تقضيها بعيداً عن أطفالِها، وهذا ما يؤثِّرُ في نموذجِها العاطفيّ المؤثِّر في شخصيةِ أطفالِها، فهي المَثلُ الأعلى للأبناءِ في مراحلِهم المبكرةِ.

ويضيفُ:” إنّ أكثرَ ما يساعدُ الأمَّ العاملةَ؛ هو مشاركةُ الأبناءِ والزوجِ في الخدماتِ المنزليةِ، وهناك بعضُ النصائحِ التي تساعدُ على التخفيفِ من قلَقِها، وتُعزِّزُ طاقتَها، مِثلَ : التمتعُ بالواقعيةِ حولَ المَهامِ التي يمكنُ إنجازُها، إذْ لا يمكنُ لها أنْ تُنجِزَ كلَّ مَهامِّها في يومٍ واحد، وأيضاً طلَبُ المساعدةِ من الزوجِ، والتركيزُ على الأشياءِ التي تُشعِرُها بالرّضا؛ مِثلَ صحةِ الأبناءِ وتحصيلِهم العِلمي، ومن المُهمِّ أيضاً تعليمُ الأطفالِ أداءَ واجباتِهم، وتناوُلَ طعامِهم، والتعاونَ في الأعمالِ المنزليةِ، والاعتمادَ على أنفسِهم في تغييرِ ملابسِهم وترتيبِ غُرفِهم، وأنْ يتولَّى الكبارُ منهم مسؤوليةَ رعايةِ إخوتِهم الأصغرِ سِنّاً، والنصيحةَ الأهمَّ هي عدمُ الضعفِ أمامَ الأبناءِ، ففي كثيرٍ من الأحيانِ يؤدِّي شعورُ الأُمِّ بالتقصيرِ تُجاهَ أبنائها؛ لكونِها تَغيبُ عنهم ساعاتٍ عِدّة؛ إلى تلبيةِ كلِّ طلباتِهم، وهذا من شأنِه أنْ يُفسِدَهم ويجعلَ العلاقةَ بينهم قائمةً على العطاءِ المتواصلِ من طرَفِها، والأخذِ من طرَفِهم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى