السعادة:خاص
كان يعتقد المحتل أنّ إبعادَ الأسرى المحرَّرين إلى غزة؛ سيُفقِدُهم فرحةَ التحرّرِ والتخلص من قيودِ السجان وظُلمِه، ليجدوا وطناً ينتظرُهم، وأهلاً يستقبلونهم في غزةَ هاشم، أرضِ الأحرار والمحرَّرين والمبعَدين ، شقّوا طريقهم، وتجاوزوا الأزماتِ والصعابِ، ورسموا لحياتِهم طريقاً تكلَّلتْ بالنجاح والتألُّقِ وبناءِ المستقبل، فلم يشعروا أنهم غرباءُ في غزةَ، “السعادة” التقتْ بالأسرى المبعدين؛ لتستمعَ لمشوارِ حياتِهم وتجرِبتِهم في الحياة.
كان خبرُ الحرية بالنسبةِ للمحرَّرِ المُبعَدِ “علي عصافرة” 32عاماً، من مدينةِ الخليلِ، بلدةِ “بيت كاحل” والذي قضَّى في السجونِ الإسرائيلية تسعَ سنواتٍ، من أربعةِ مؤبَّداتٍ، وعشرينَ سنةً حُكِمَ بها ، مُفرِحاً لدرجةِ البكاءِ، وكانت إحدى أمنيّاتِه أنْ يُحرَّرَ، ويُبعَدَ إلى غزةَ ، فمن وِجهةِ نظرِه أنَّ غزةَ مدينةُ الأحلامِ؛ لأيِّ مجاهدٍ فلسطينيٍّ يعشقُ الحرية !
واصَلَ “عصافرة” تعليمَه الجامعي؛ تخصُّص إعلام، ويعملُ في مجال الإعلام، وقد تزوَّج، ورُزقَ بطفلينِ؛ مَلآ حياتَه بالفرحِ والسعادة، وعوّضاهُ عن سنين الأَسرِ والاشتياقِ للأهلِ، ويقول: لم يشعُرْ بالقلقِ؛ عندما علِمَ أنه سيُبعَدُ إلى غزة، ويقيم فيها ! فهي أرضُ العزّة والصمودِ والاعتزازِ، وأهلها طيبون، احتضنوني كأهلي، وعوّضوني عن كل سنين الغربةِ، ويقول:” كم تمنيتُ أنْ التقيَ بأهلي! وأعيش بينهم! ولكنّ الاحتلالَ دائماً يتفنّنُ في إنقاصِ الفرحةِ لدى الفلسطينيّين، ولم يَعلمْ أنه قد حقَّق أُمنيّتي بإبعادي إلى غزةَ ! لاستنشقَ الحريةَ بمفهومِها الصحيحِ، فالحريةُ جميلةٌ في كلِّ الأماكنِ، فكيف هي في غزةَ؟ ويؤكّدُ أنّ خبرَ الإبعادِ لم يؤثِّرْ على فرحةِ التحريرِ بتاتاً .
شعورٌ بالاستقرار
ويقولُ عن بعض الصعابِ التي واجهَها في بدايةَ إقامتِه بغزةَ:”نحن الأَسرى بشكلٍ عام واجهْنا مشكلةً في المجتمعِ بعد خروجِنا من السجنِ، فهو عالمٌ مُغلَقٌ بالنسبةِ لنا، ذلكَ لطبيعةِ الحياةِ التي عِشناها (أسْرٍ وتعذيبٍ وعزلٍ) وفُجأة وجدْنا أنفسَنا في مجتمعٍ علينا الاندماجُ فيه، وفي البدايةِ واجهتْنا بعضُ الصعوباتِ، ولكنّ المسألةَ كانت مُجردَ وقتٍ؛ كي نعتادَ على هذه الحياةِ، ونستطيعَ تكوينَ علاقاتٍ اجتماعيةٍ نوعاً ما، فقد كان المجتمعُ مختلفاً عنّا بعاداتِه وتقاليدِه ، فالتعاملُ مع هذه القضايا يسبِّبُ لنا الإرباكَ، ولكنْ كان هذا في السنةِ الأولى من خروجِنا ، فأنا الآنَ أشعرُ بالاستقرارِ والسعادةِ، ومغمورٌ بالنعمةِ، ومتأقلِمٌ جداً مع المجتمعِ، ولي أصدقاء “.
ويتحدّثُ عن نظرتِه السابقةِ لغزة؛ بأنها بُقعةٌ صغيرةٌ ومزدحمةٌ، وأرضُ جهادٍ.. وأنّ سكانَها يتميزون بالخشونةِ في التعامل، ولكنْ بعد حضورِه إليها؛ وجدَها فعلاً بقعةً صغيرةً ومزدحمةً نوعاً ما! ولكنّ شعبَها شعبٌ كريمٌ ولطيفٌ وصامدٌ ومقاوِمٌ ، ولو كان هناك بعضَ الخشونةِ؛ فهي خشونةٌ محمودةٌ، ويشعرُ “عصافرة” بالارتياحِ والاستقرارِ، فرغم البُعدِ عن مسقطِ رأسِه وأهله؛ إلاّ أنه يتمنّى أنْ يبقَى في غزة.
اعتقادٌ خاطئ
وكان “للسعادة” حديثُها مع المحرَّرِ المُبعَدِ “رجائي الكركي” 36 عاماً، من مدينةِ الخليلِ، يدرسُ ويعملُ في الإعلامِ، حيثُ يهتم بقضايا الأسرى، ويتناولُ معاناتَهم وهمومَهم وآلامَهم، يصِفُ “للسعادة” شعورَه الذي انتابَه؛ عندما علِمَ أنه سيُبعَدُ إلى غزةَ! فيقول:” تمَّ إبلاغي بالإبعادِ قبلَ الإفراجِ ب(48) ساعةً، في البدايةِ أصابني بعضُ التوَجُّسِ والخوفِ، وشعورٌ غريبٌ؛ ذلك لأنني لم أكنْ أعرفُ قطاعَ غزة ، ولكنّ هذا الشعورَ لن يطولَ؛ لأنّ الحريةَ جميلةٌ أينما كانت ، حتى لو كان الإبعادُ إلى خارجِ فلسطينَ! سيكونَ أفضلَ من بقائنا في السجون! وغزةُ جزءٌ لا يتجزّأ من فلسطينَ، وهذا الشيء أعطاني نوعاً من الأنسِ والشعورِ بالراحةِ .
ويؤكّد “رجائي” أنه سعيدٌ لوجودِه في غزة، فهو يراها جميلةً، ويصفُ أهلَها بالطيبةِ والبساطةِ، وأنهم يحترمون الضيفَ، فهو فَورَ دخولِه إلى غزةَ؛ شعرَ بأنه في بيتِه ، وينوِّه إلى أنّ هناك بعضُ الاختلافاتِ في الطباعِ، والعاداتِ الاجتماعيةِ والحياتية، ولكنّ هذه الفوارقَ لا تعني له الكثيرَ؛ مقابلَ انسجامِه معهم، وسعادتِه بينهم .
كان “الكركي” يعتقدُ أنّ الحياةَ في غزة شِبهُ مستحيلةٍ! وستكونُ صعبةً للغاية ! وأنّ أهلها شديدون! ويتميّزون بالعصبيةِ الدائمة ، ولكنْ اختلفَ هذا الاعتقادُ؛ بعدَ دخولِه غزةَ، والعيشِ فيها عن قربِ، حيثُ أنه وجدَ الواقعَ مختلفاً تماماً! فهو كما يوضّحُ؛ له أصدقاءٌ ومعارفُ كثُر في غزة .
ويبيّنُ أنّ زواجَه من فتاةٍ غزيّةٍ؛ ساعدَه على كسْرِ الحاجزِ؛ الذي كان يشعرُ به ، وجعلَه ينسجِمُ ويندمجُ معهم، ومع عاداتِهم وتقاليدِهم .
ويؤكّد “الكركي” أنه سيعودُ إلى مدينتِه في أيِّ وقتٍ؛ سُمحَ له بالعودةِ إليها، حيثُ يرى أنّ كلَّ البلادِ عزيزةٌ، ولكنّ هواءَ بلادِه أعزُّ ، فالخليلُ هي مسقطُ رأسِه، وُلدَ وترَعرعَ فيها ، وله فيها ذكرياتُ طفولتِه وشبابِه، فالعودةُ لا مُحالَ منها.
لا بدَّ من العودة
الأَسرُ هو الموتُ البطيءُ، والعذابُ المتجدِّدُ والمؤلِمُ بالنسبةِ للأسيرِ المحرَّر “منصور ريّان” (38) عاماً (من قريةِ قَراوة بَني حسّان، قضاءِ سلفيت، غربَ نابلس) ومكثَ في السجنِ عشرينَ عاماً، حُكمَ مدَى الحياةِ، وتمَّ الإفراجُ عنه في صفقةِ “وفاء الأحرار” ويعملُ حالياً “مُحلِّل للشأنِ الصهيونيّ”.
يقولُ المحرَّرُ منصور :” الحمد لله ربِّ العالمين، تحرّرتُ من قيودِ السجنِ وظُلمِه، فالحريةُ شعورٌ لا يَعرفُه إلاّ الأَسرى المحرَّرين! وإبعادي إلى غزةَ لم يقلِّلْ من فرحتي، بل زادَني فرَحاً، لأعيشَ مع أبطالٍ سطّرَ التاريخُ نضالَهم .
ويؤكّدُ أنّ قرارَ الإبعادِ؛ لم يؤثّر عليه بشيء ! فهو كان يتمنّى أنْ يعودَ إلى بلدتِه، ويشاهدَ أُمَّه وأباه وإخوتَه، والمنزلَ الذي ترَعرعَ فيه! ولكني وجدتُ أهلي وأحبابي الغزّيينَ؛ الذين أنسَوني مرارةَ الفراقِ ، وعوَّضني ذلك بزوجتي؛ التي كانت خيرَ سنَدٍ ومُعينٍ لي في الحياةِ .
ويصِفُ أهلَ غزة؛ بأهلِ النصرِ والتمكينِ والإبداعِ، فهم شعبٌ عانَى ويعاني من الحصارِ والضيقِ والحرمانِ والمؤامراتِ والحروبِ، ولكنهم شعبٌ قويٌّ، ويستطيعُ أنْ يقودَ الأُمةَ العربيةَ إلى النصرِ، والى القدسِ بإذنِ الله ، ويَشعرُ بالاستقرارِ والراحةِ، وأنه بين أهلِه وشعبِه.
ويُنهي “منصور” حديثَه بالشكرِ والثناءِ على غزة :” شُكراً لغزةَ التي أخفَتْ “شاليط” سنواتٍ طويلةً، وصنعتْ المعجزاتِ في صفقةِ “وفاء الأحرار” وكلُّ الرحمةِ للقائدِ” أبو محمد الجعبري” صانعِ الانتصارِ في وفاءِ الأحرار”.
أجملُ الأوطانِ
الإبعادُ إلى غزةَ كان من اختيارِ المحرَّرِ” أيمن الشراونة” 38 عاماً ؛حيثُ تمَّ اعتقالُه بعد تحريرِه في “وفاء الأحرار” وتمّتْ مساومتُه على كلِّ البلادِ؛ إلاّ قطاعَ غزة! ولكنه أبَى الإبعادَ إلى أيِّ مكانٍ غيرها .
ويفتخرُ “الشراونة” بوجودِه في غزةّ، فهي بالنسبةِ له بلادُ الحريةِ والمقاومةِ والجهادِ، ويقول:” برغمِ أنّ غزةَ محاصَرةٌ، ويُشَنَّ عليها الهجومُ من جهاتٍ متعدّدة، إلاّ أنها بالنسبة لكلِّ مَن ذاقَ ألوانَ العذابِ، تحتَ أيدي الاحتلالِ الصهيوني ، سيراها أكبرَ وأجملَ البلادِ والأوطانِ، لا كما يَصِفُها البعضُ بأنها سجنٌ صغيرٌ! فغزةُ بلادُ الجودِ والكرامةِ، وأهلُها أهلُ نخوةٍ وشهامةٍ، ولم ولن أنسَى وقوفَهم معَنا في إضرابِ الكرامةِ، حيثُ كان لهم تأثيرٌ كبيرٌ علينا”.
ويؤكّدُ أنه برغمِ حُبِّه وولائه وانتمائه لغزةَ، وفخرِه بوجودِه فيها، إلاّ أنّ الحنينَ للخليلِ “مسقطِ رأسِه” موجودٌ.. ولهذا سيعودُ إذا تمَّ السماحُ له بالعودةِ .
حديثُ العالم
يختلفُ حالُ المحرَّر “سمير صوابطة”35 عاماً، من شمالِ الضفةِ الغربية، صاحبِ مطاعم “ميستر بيكر” في بدايةِ وصولِه إلى غزةَ؛ حيثُ لم يكنْ يعرفُ أيَّ شيءٍ عن غزةَ؛ سِوى اسمِها! ولكنه الآنَ يشعرُ بأنه ابنُها الذي وُلدَ وترَعرعً فيها، وذلك بسببِ انسجامِه واندماجِه وسعادتِه فيها.
ويصِفُ غزةَ ببلدِ (المجاهدينَ والمرابطينَ الصامدين) فهي حديثُ العالمِ، وضربتْ أمثلةً كثيرةً في النضالِ والمقاومةِ! وأهلُها أهلُ الجودِ والكَرمِ، محافظونَ على دِينهم وعاداتِهم وتقاليدِهم. بدونِ أيِّ مجامَلةٍ فاجأتني غزةُ، وأهلُ غزةَ؛ بكلِّ ما قدَّموه لنا عندَ قدومِنا للقطاعِ ، فهُم احترمونا احتراماً لم يسبِقْ لي أنْ رأيتُهُ من قبلُ ، فهم وقفوا معَنا جنباً إلى جنبٍ؛ لنتجاوزَ الأيامَ الصعبةَ الأولى، ونستطيعَ أنْ نعتمدَ على أنفسِنا ، وقناعتي الآن أنّ في غزةَ أناساً أفاضلَ، وهم بالنسبةِ لي هم أفضلُ من غيرِهم بكثيرٍ “.
ويعترفُ المحرّرُ “سمير” وبدونِ تفكيرٍ؛ بأنه سيعودُ إلى بلدتِه الأصليةِ؛ في أيِّ وقتٍ يَسمَحُ له الاحتلالُ بذلك، ليس تنازلاً عن غزةَ ، ولكنْ حَنيناً لموطنِه ولبيتِه وعائلتِه، ففي داخلِ كلِّ إنسانٍ حنينٌ طبيعيٌّ للمكانِ التي تَربَّى فيه ، ولو خُيِّرَ بينَ أنْ يبقَى في غزةَ؛ أو يعودَ إلى الضفةِ؛ فسيعودُ ولو كان هناك بعضُ المخاطرِ؛ كالاعتقالِ مرّةً أُخرى .