غير مصنف

الآباءُ المُدمِنونَ وصمةُ عارٍ؛ تقضي على مستقبلِ العائلةِ

السعادة _ آلاء عاطف النمر

“أخفي وجهي بين تلك الوجوه المكتظةِ بالنظراتِ المصوَّبة لِعَينايّ , لم يتمكن غطاءُ وجهي من إخفائهما! لكي لا أتعثّر بحجارة طريقِ بيتنا الترابي الوعر , لذلك بتُّ أتعمّد الخروج من بيتنا والناس نيامٌ؛ لتجاوز الأحاديثِ الجانبية في طريقي القصير، حتى أصل الشارعَ العمومي؛ لأرتاد سيارةً توصلني لجامعتي التي بتُّ أكرهُ المداومةَ في أروقتها! رغم أنها الحاضنُ الوحيد لي, سأكمل عامي الأخيرَ في تلك الجامعة؛ لأستعدَّ لإقامةٍ أبديةٍ بين زوايا بيتِنا المُعتِم بعيداً عن ألسِنةِ البشر أجمعين “.

هي كلماتٌ تمتلئ بالوجعِ؛ الذي يشترك فيه القريبُ قبل البعيدِ، فضْفضَتْ بها العشرينية “أحلام” تخصُّص خدمة اجتماعية، وتحصلُ على امتيازٍ كل فصل لـ”السعادة” ,والتي تشتكي تدهوُرَ أوضاعِ بيتِها الداخليةِ، إثرَ غيابِ والدِها منذ ما يزيدُ عن عامينِ، متنقِّلاً بين السجونِ بتُهمةِ تعاطيهِ “للمخدِّرات”وترويجِها.

“السعادة” آثَرتْ أنْ تلقيَ باهتمامها على فئةٍ تسمّيها الجهاتُ المعنيةُ “بالمُهمّشة” وعلماءُ النفس “بضحايا المجتمع”  والذين قُدِّرَ لهم بأنْ يكونوا أبناءً لآباءٍ ضيّعوا سنواتِ عمرِهم في إدمانٍ وشُربٍ وتعاطي ما يحرِّمُه الشرعُ ويجرِّمُه المجتمع, ليدفعوا أخيراً الثمنَ بضياعِ مستقبلهم، وحشرِهم في زاويةِ التهميشِ المجتمعي، والضربِ بعُرضِ الحائضِ، بأنهم مِثلَ آبائهم، ظلماً بأحكامِ الناسِ عليهم .

 

“كلامُ الناس”

“أحلام” التي يبتعد الناس عن دقِّ باب بيتها لخِطبتها، بعدما توزّعت الأخبارُ بين النسوة الخاطباتِ لها، بأنّ والدها صاحبُ أسبقيةٍ تاريخيةٍ غيرُ مَرضِيٍّ عنها مجتمعياً ,فضلاً عن وجودِه في السجنِ؛ جعلها تقول لـ”السعادة” :”أفكّر كثيراً في الخروج من ذاك الحي الذي أسكنُه , أفكّر بالهروبِ وحدي؛ لولا أنّ أمي تعيلُ خمسةً من الأطفال؛ لَما حزنتُ على أحد , فلم أعُدْ أتمنى الإفراجَ عن والدي؛ الذي لم يتوقفْ عن تعاطيهِ للمخدِّراتِ، رغم تكرارِ تعهُدِه بذلك! ولكنْ دونَ جدوى! سِوَى أنه على الدوامِ يَقبعُ في السجونِ , فيصلُح حالُه بداخلِها، ثُم يسوءُ بعدَ الإفراجِ عنه”.

تتأوّهُ “أحلام” وتُلقي بسخطِها على مَن حولَها من الناسِ بقولها :”كلامُ الناسِ لا تحدُّه حدودٌ , فما أضاعَ عمري وأشقائي سِوى أحاديثِهم الواهيةِ، والتي لا تُجدي نفعاً في ابتكارِ القصصِ وتخريبِ البيوتِ المستورةِ برحمةِ الله , فلن أستمعَ ما يقوله الناسُ؛ لأجلِ الانتباهِ لتربيةِ أشقائي الصغارِ، ليكونوا مَثلاً  للأخلاقِ الرفيعةِ، وجعلِهم أفضلَ وأحسنَ الناسِ, إثرَ غيابِ والدي وضعفِ حيلةِ أمي التي أهلكَ جسدَها وعقلَها الزمنُ”.

“أحلام” تلك الفتاةُ التي تشارفُ على انتهاء دراستها الجامعية، بدعمٍ من مؤسسةٍ مجتمعيةٍ، وصندوقِ الطالبِ الداعمِ للطلبةِ المحتاجين داخلَ الجامعةِ الإسلامية , يبدو أنها ستَركَنُ في بيتِها طويلاً بعد ابتعادِ الخاطبين عن طرْقِ باب بيتِها؛ نتيجةً للأحاديث المتزايدةِ حول فسادِ تاريخِ أبيها ؛الذي لم تكنْ “أحلام” سبباً في صناعتِه.

“لم يعفُ عنه البشرُ”

أمّا حكاية الشاب “أمجد” الذي قاربَ على إنهاء عَقدهِ الثالثِ؛ تَحمِلُ في تفاصيلها من المعاناة والألم؛ ما أشرفَ على تدميرِ مستقبلِه،  فهو يبحث عن عروسٍ تناسبُه من خلال والدتِه وشقيقاتِه الثلاثة، ويتمتع بوظيفةٍ، وحُسنِ خلُقٍ، وشكلٍ يرضي أجملَ الفتياتِ, إلاّ أنّ سيئتَه الوحيدةَ، والتي أخّرتْ زواجَه بسببِ الرفضِ المتكرِّرِ؛ الذي يقابلُه من كلِّ فتاةٍ يتقدّمُ لها؛ أنّ والدَه كان مُدمِنا وتُوفِّيَ بسببِ إدمانه الشديدِ، ولم يبقَ أحدٌ إلاَّ عرفَ قصّتَه .

يقول أمجد لـ”السعادة” :”توفي أبي الذي قضى سنواتِ عمرهِ بين السجنِ والملاحقة، وقد عفا عنه الزمنُ إلاّ البشرَ , فما ذنبي أرتبطُ بأبي حتى بعدَ موته؟!”, متابعاً أمجد بقولِه :”في المرّة الأخيرة تقدّمتُ لفتاةٍ ذاتِ حسبٍ ونسبٍ، وقابلتُ والدها ،وكلُّ الأمور سارتْ على ما يُرام , وقد حَدَّدَ موعداً لعقدِ قرانِا في المحكمةِ، صباحَ اليومِ التالي , وما إنْ أشرقَ الصباحُ؛ حتى هممْتُ بالذهابِ إلى المحكمةِ متهلِّلاً؛ لشعوري بأني سأصبحُ عريساً عمّا قريب , إلاّ أنّ اتصالَ والدِ الفتاةِ فاجأني حين أجبتُه عبرَ هاتفي الخليوي؛ ليقولَ لي بأنّ كلَّ شيءٍ قِسمةٌ ونصيبٌ، ثُم تنتهي المكالمة وفي قلبي غصةٌ لم أعدْ أحتمِلُها”

يكملُ “أمجد” قصته التي تكرّرتْ معه عدّةَ مرات :”أفكّر بالخروج للبلاد الغربية , فهناك لا يعرفُني أحدٌ , أصبحتُ أشكُّ بأخلاقي حين أتعاملُ مع أبناء مجتمعي؛ وخاصةً حين أتقدّمُ لإحدى الفتياتِ طالباً الزواج!”

وبحسرةٍ تكاد تعتصِرُه يقول:” لا أحدَ يتقدّم لخِطبةِ أخواتي الثلاثِ؛ برغم أنهنّ جامعياتٌ وجميلاتٌ، وعُرفنَ بأدبهِنَّ وأخلاقهِنَّ، ومن يأتِ ليرتبطَ بواحدةٍ منهنَّ يكنْ غيرَ مناسبٍ، أو صاحبَ سُمعةٍ سيئةٍ، ويتساءلُ ما الذنبُ الذي اقترفتاهُ؛ كي نعامَلَ بهذه الطريقةِ؟! ، ونصبحَ منبوذينَ لذنبٍ لم نرتكبْه !

“غيّرتُ مَسكَني”

تتشابهُ النتائج، وتختلف الشخصيات التي تقعُ فيهم ذاتُ المشكلةِ؛ بإدمانِ الأبِ وغيابه عن أبنائه، ما يؤدّي لضياعِ الأُسرةِ بأكملِها، ووقوعها في شِباكِ الأحاديثِ التي يتبادلها الناسُ دون انتهاء , فهنا تركنُ تلك العائلةُ حديثاً داخلَ إحدى الشققِ السكنيةِ وسطَ غزة، بعد مرورِهم بضائقةٍ لا بأسَ بها.

تتكونُ العائلة من سبعةٍ من الأبناءِ وأمِّهم وأبٍّ غائبٍ عقلاً، حاضرٍ بينهم بجسدِه , ما اضطّرها للانتقالِ من حيِّها السابقِ؛ تبعاً للمَثلِ القائل :”تغييرُ الوجوهِ رحمة” , فتقول الزوجةُ أم عبد الله:”قبلَ أنْ يكبرَ أولادي؛ فضّلتُ أنْ أبيعَ بيتي، وأسكنَ في غيره؛ حتى أقطعَ سماعي لأحاديثِ الناس، الذي جعلَني أخجلُ من نفسي حينَ أمشي في الشارعِ، لسوءِ سُمعةِ زوجي الذي لم توقِفْهُ كلُّ المصائبِ عن إدمانِه لتعاطيهِ المفاسدَ بأنواعِها “.

بِآهاتٍ تمتزجُ بالأسَى؛ تكملُ الزوجة حديثها  :”لم يكنْ بالسهلِ بيعُ البيتِ، والانتقالُ منه كما كنتُ أتوقّع , فإنّ الجهاتِ الأمنيةَ كانت حريصةً أنْ تضعَ زوجي تحت مراقبتِها الدائمة؛ ما أعاقَ خروجِنا من البيت لعدّة أعوام، إلاّ أنني نجحتُ بالخروجِ حين أصررْتُ على أمري , فأنا عندي ثلاثٌ من البنات، ولن أوجِّه مستقبلَهم نحو المجهولِ ببقائنا في حيٍّ عرفَ عن زوجي كلَّ أفعالِه “.

وتصِرُّ تلك الزوجة على تربية أبنائها التربيةَ الصالحة؛ لتُخرجَهم من دائرة الاتهامِ مبكراً، وألا يتّخِذوا من والدِهم قدوةً؛ لكي لا يَلقَوا حتفَ دمارِهم , قائلةً :”بعد أنْ طلّقني زوجي؛ بِتُّ أحتضنُ أبنائي بقوةٍ غيرِ مسبوقةٍ؛ لأحافظَ عليهم وهم في سنِّ الوردِ , ولن أخُرِجَهم إلاّ متعلّمينَ؛ لأفتخرَ بهم بعيداً عن أبيهم “.

“تَحملُ وِزرَ نفسِها”

تحدّثَ رئيس دار الإفتاء بالجامعة الإسلامية “ماهر السوسي” للسعادة  قائلاً :”ينظرُ الناس من منظورِهم الخاص، لا من منظورِ الدِّينِ الإسلامي و الذي يتناقض وأحكام الشرعِ، من مُنطلَقِ ما جاء في كتابِ الله تعالى “لا تزِرُ وازرةٌ وِزرَ أُخرى” , و “كلُّ نفسٍ بما كسبتْ رهينة” فلا يؤخذُ الإنسان بجريرة غيرِه , والأصلُ أنْ يؤاخَذَ بما كسبتْ يداهُ وحدَه، لا بما كسبتْ أمُّه أو كسبَ أبوه أو أخوه ! وهذا هو العدلُ بعينِه, فنظرةُ المجتمع للفردِ السوِيِّ؛ بأنّ أباه صاحبُ تاريخِ فاسدٍ ؛هو غايةٌ في الظلمِ، وهذا لا يعني أنه ارتكبَ جُرماً، أو أذنبَ بحقِّ الآخَرينَ، بسببِ سُمعةِ أبيه!

ويضرب “السوسي” مثلاً بقوله “أنّ الصحابي أبا ذر الغفاري، قال لابن مسعود: يا ابن السوداء! فردَّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم أتعيِّرُه بأمِّه ؟ , فإنك امرؤٌ فيه جاهلية” , ما يوضّح أنّ الإسلام عدَّ هذه الأمور هي من الجهلِ، ومن تخلُّفِ المجتمعاتِ عن دينها الذي شُرعتْ فيه الأحكامُ الجليِّة.

ويتابعُ السوسي بقوله :” كانت والدة الصحابي سعد ابن أبي وقاص كافرةً  , ولكنه فرض علوَّ أخلاقِه على كل من سمعَ اسمَه حتى يومِنا هذا، وهو أكبرُ من أنْ نتكلّمَ أو ندافعَ عن هذا الصحابي الجليل، لما فرضَه علينا من تاريخٍ لشخصِه مُشرِّفٍ، ويمثّلُ القدوة الحسنةَ الرفيعة, فالإسلامُ لا يحكمُ على الإنسان من تصرُّفاتِ الآخَرين , فكلُّ نفسٍ تَحملُ وزرَ نفسِها “.

“تغييرٌ جذري”

فيما تحدّثَ المحاضر، بقسمِ علم النفسِ، بالجامعة الإسلاميةِ” نبيل دخان” عن ثقافةِ تحديد “السلوك السوِيِّ من غير السوي” بأنها قضيةُ مزمِنةٌ وشائكةٌ، كما لا يمكن الحُكمُ على أخلاقِ إنسان من خلال غيرِه، ولو كانوا من بَني بيئتِه .

يقول دخان :”أنا كأبٍ أجِدُ غضاضةً بأنْ أزوّجَ ابني من فتاةٍ كان أبوها صاحبَ تاريخٍ غيرِ مُرْضٍ مجتمعياً , وصاحبَ إرثٍ تاريخي لا يتّفِقُ مع العاداتِ والتقاليدِ المجتمعيةِ، وسطَ شعبٍ محافظٍ , فأحياناً يتفِقُ الدِّينُ مع التقاليدِ؛ بوجوبِ تكافؤِ النَّسَبِ بين أطرافِ الزوجين”.

ويُلزم “دخان” المجتمع بإحداثِ التغييرِ والحراكِ المطلوب؛ لتحريكِ السكون الراكدِ داخلَ المجتمع، ببقاءِ الأفكارِ السوداوية، تراودُ الناس أجمعين، والذي يحتاج لجهودٍ عدّة ؛سواءٌ كان من خلال الإعلام، أو من خلال المحاضراتِ داخل الجامعات، أو من خلال خُطَبِ المساجدِ ومواقعِ التواصلِ الاجتماعي .

ويمثّل “دخان” بقوله :”كأنْ يغيِّرَ الناسُ مواقيتَ إقامةِ بيتِ العزاءِ؛ لعدم الإضرارِ بذوي الميتِ، وتكليفِهم فوق ما يطيقون “موت وخربان ديار” , فقد بدأ المجتمعُ بالسيرِ في نظامٍ توعَويٍّ جديدٍ وواضحٍ، بعد تصحيح بعض المعاييرِ عبرَ خطباءِ المساجدِ، أو وسائل الإعلام , فعندما نريد للمجتمع أنْ يترفّعَ عن الثقافاتِ الجاهلية، نبدأ التغييرَ ضمنَ منظومةٍ متكاملةٍ؛ تسري في آنٍ واحدٍ، وهو نوع من أنواع التخطيط”.

ويوضّح :”لا بد أنْ يكونَ هناك مؤسساتٍ مجتمعيةٍ تُعنى بالفئة “المهمّشة” من الأبناء لإنقاذِهم من براثينِ الانحلالِ، قبل وقوعِهم فيها , وهذا يحتاجُ لبرامج مُخطَّط لها؛ كي تُسيِّرَ الأمورَ بأكملِها على جذورِ المجتمعِ،ليتمَّ علاجُ المشكلة، وتوفيرُ الحمايةِ الكريمة لتلك الفئة” .

يتابع دخان :”علينا أنْ نتعاملَ معهم على أنهم ضحايا، وليسوا مجرمين أو مدمنين، فلا ذنبَ لهم سِوى أنهم مظلومون , وعلى كلِّ الأُسرةِ حمْلَ المسؤوليةِ، وأنْ ترفعَ من سموِّ أخلاقِ أبنائها وبناتِها، في حالِ كانت المشكلةُ في الأبِ، لتغييرِ السُّمعةِ العامةِ التي تشوبُ عائلتَهم أو أبيهم على وجهِ التحديد”.

شجرةُ وردٍ

وشاركَ المحاضرُ بقِسم علم الاجتماع، بالجامعة الإسلامية، وليد شبير “السعادة” حديثَها حيثُ يقولُ :”الآباءُ المنحرفون سببٌ في هلاكِ الكثير من الأبناءِ الأسوياءِ في المجتمع؛ سواءٌ كان هلاكُهم أخلاقياً، أو يهلِكُهم المجتمع بكثرةِ أحاديثِه وأقاويلِه التي لا عدَّ لها ولا انتهاءً , فشجرةُ الوردِ يمكنُ أنْ يَخرُجَ منها الشوكُ , لذلك انحرافُ الأبِ لا يعني وقوعَ كافةِ أفرادِ أُسرته في قفصِ الاتهام , لذلك على المجتمع انتشالهم بعيداً عن كسرِ عمودِهم الفِقري بزيادةِ تهميشهم”.

ويوضّح شبير :”في حال انحرافِ الأبِ ؛على الأمِّ أو على وَلي الأمر أنْ يولّي القدوةَ البديلةَ؛ ليقتدي بها الأولادُ، قبل أنْ يصِلوا سنَّ البلوغ , ليفرضوا على مجتمعِهم الصمتَ، وقصّ الطريقِ عليهم بوضعِهم ضحيةً لأبيهِم المُدمن”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى