
ولدتُ في بلدة “الشيوخ” إلى الشرقِ من مدينةِ “الخليل” وتقعُ على أعلَى قِممِ جبالِ الخليلِ، وأنتمي إلى عائلةِ “الحلايقة” التي يعودُ نَسبُها إلى بلدةِ “الجورة” في فلسطينَ المحتلةِ عامَ( 1948) نشأتُ في عائلةٍ بسيطةٍ متديِّنةٍ وممتدّةٍ ، لي سبعةُ أشقاء، وستُّ أخواتٍ؛ أنا أصغرُهم جميعاً ، كبِرنا في أجواءٍ ريفيةٍ ضِمنَ عائلةٍ مُنتَمِيةٍ انتماءً حقيقياً للأرضِ، حيثُ كانت هي مصدرُ الرزقِ الوحيدُ للعائلةِ.
تزوّجتُ من “محمد حلايقة” الذي يعملُ إماماً ومفتِّشاً في مساجدِ مدينةِ الخليلِ، التابعِ لمديريةِ أوقافِ الخليلِ في عامِ( 1985) ورُزقتُ منه بسبعةِ أولادٍ؛ خمسُ بناتٍ ووَلدَينِ، وهم (أنس واعتصام وإيثار وأسامة وأبرار وأصيلة وابتهال) منذُ نعومةِ أظفاري، وأنا كَغَيري أُعاني قسوةَ المحتلِّ، فطفولتي قاسيةٌ، لم تغادِرْني ملامحُها، ولا تزالُ صُوَرُ الذاكرةِ وشريطُها أمامي؛حيثُ دورياتُ الاحتلالِ تَجوبُ شوارعَ بلدتِنا مِراراً وتَكراراً ، مَنعُ التجوّلِ ، الإضرابُ المستمرِّ ،تفتيشُ المنازلِ، والمداهماتُ الليليةُ، ورغمَ بُعدِ السنواتِ؛ إلاّ أنّ دموعَ أُمي لم تغادِرْني؛ وهى تبكي خوفاً وقلقاً على احتجازِ أشقائي، كغيرِهم من أبناءِ القريةِ، بعدَ كلِّ مواجهاتٍ بينَ فدائيِّي المقاومةِ، وجيشِ الاحتلالِ .
و أكثرُ ما يُطبَعُ في الذاكرةِ صُوَرُ أهالي القريةِ؛ وهم يهربونَ إلى الجبالِ تماماً كما حدثَ عامَ (1970 ) في معركةِ (أُم قرمول) حيثُ حاصَرَنا الاحتلالُ بحثاً عن الفدائيينَ، وقَصفتْ الطائراتُ الحيَّ بالصواريخِ، حيثُ يتَحصَّنُ الفدائيونَ، واستُشهِدَ في حينِها اثنانِ من أبناءِ البلدةِ .
تلقيتُ تعليمي الأساسي في بلدةِ “الشيوخ” حيثُ لم تكنْ المدارسُ مطوَّرةً، وتلقيتُ تعليمي الإعدادي في مدرسةِ “سعير” وهي قريةٌ مجاوِرةٌ لبلدتِنا، ثُم انتقلْنا إلى المرحلةِ الثانويةِ إلى مدينةِ “حلحول” كان التعليمُ محدوداً ومقتَصَراً، عِلاوةً على الشُّحِّ في المُدرّسينَ والمؤسساتِ التعليميةِ، مع ارتفاعٍ طفيفٍ في نِسبةِ الأُميَّةِ، وأتذكّرُ في عامِ (1982) لم يتقدَّمْ لامتحانِ الثانويةِ العامةِ من قريتِنا سِوى طالبتَينِ، كنتُ واحدةً منهما.
في عامِ (2005 )فازتْ حركةُ “حماس” بالمجلسِ البلَدي بقريةِ “الشيوخ” حيثُ حصلتْ على عشرةِ مقاعدَ، من أصلِ( 11 )مقعدً، وبعدَها تعرّضتْ قريتي وعائلةُ “الحلايقة” إلى استهدافٍ مُمنهَجٍ من سلطاتِ الاحتلالِ، واعتَقلَ الاحتلالُ حينَها (83) مواطناً ممّن ساهموا في هذا النصرِ، وكان غالبيتُهم من عائلتي، و كان من بينِ المعتقَلينَ زوجي وابني؛ حيثُ غُيِّبوا في سجونِ الاحتلالِ حتى شهر ديسمبر من عامِ( 2006)
في( 25/1/2006 )دخلتُ في انتخاباتِ المجلسِ التشريعيّ؛ عبرَ نظامِ “الكوتة” عن حركةِ الإصلاحِ والتغيّيرِ، وفُزتُ في الانتخاباتِ ضِمنَ قائمةٍ حصلتْ على (76) مقعداً في المجلسِ التشريعيّ ، وهذه أسوأُ مرحلةٍ مرّتْ بحياةِ القضيةِ الفلسطينيةِ ، حيثُ تغوّلتْ جهاتٌ عديدةٌ؛ التي لم تقتنعْ بهذا الفوزِ، بل لم تتقبّلْهُ، ورفضتْ التعاملَ معه! ما نتجَ عنه حالةٌ من عدمِ قَبولِ الآخَرِ، وترتّبَ عليه الكثيرُ من أعمالِ الفوضَى والفلَتانِ.
وانعكسَ هذا الواقعُ بصورةٍ سلبيةٍ جداً على حياتِنا_ نحنُ النوّاب في الضفةِ_ الغربيةِ، حيثُ أُحرقتْ مكاتبُنا، واعتُقلَ نوّابُنا لدَى الاحتلالِ، فيما مارستْ عصاباتُ الفلَتانِ الكثيرَ من أنواعِ الاضطهادِ ضدَّ أبناءِ “حماس” في الضفةِ، وانعكسَ هذا الواقعُ على حياتِنا، فاعتقلَ الاحتلالُ أبناءَنا، ومارستْ السلطةُ نفسَ العملِ ضدَّنا، وفي ثنايا المأساةِ تتجلّى مآسٍ أُخرى، فقد اعتقلتْ أجهزةُ السلطةِ زوجي “محمد الحلايقة” _الذي يعملُ في مديريةِ الأوقافِ في الخليلِ_ أربعَ مرّاتٍ، فيما اعتقلتْ ابني “أنَس” 27عاماً مرّتينِ، وابني “أُسامة” 24عاماً مرةَ واحدةً، ثُم عادَ الاحتلالُ واعتقلَ ابني “أنَس” ثلاثَ مراتٍ، حيثُ أمضى ثلاثَ سنواتٍ ونصفَ في سجونِ الاحتلالِ، بهدفِ الضغطِ علينا لعدمِ تَعرِيةِ الواقعِ السياسي الظالمِ في الضفةِ المحتلةِ، والحقيقةُ أنه منذُ منتصفِ عامِ( 2007 )وحتى الآن؛ سجَّلنا (16) اعتداءً موَثّقاً؛ مارستْهُ الأجهزةُ الأمنيةُ ضدَّ مكتبِنا والعاملينَ معَنا من موظَّفينَ، والاعتداءِ على أبنائي وزوجي وعائلتي.
وكأيِّ امرأةٍ فلسطينيةٍ قابلتُ ما يحدُثُ بالمزيدِ من الصبرِ والثباتِ والعملِ من أجلِ الخروجِ من حالةِ الاحتقانِ الموجودةِ أمامَ إصرارِ البعضِ على تخلِّينا عن أهدافِنا التي انتُخِبنا لأجلِها، ومساواتِنا بالعاجزينَ والمتآمِرينَ والصامتينَ والمتخاذلينَ.
ومنذُ عشرِ سنواتٍ؛ وهي الفترةُ التي رأيتُ أبنائي يكبَرونَ، كانت اللحظاتُ التي نجتمعُ فيها في البيتِ قليلةً؛ بسببِ الانشغالِ بالعملِ، وبسببِ سنواتِ الاعتقالِ، وعندما كبِرتْ بناتي تزوَّجنَ، وكنتُ أتمنّى أنْ تعودَ تلكَ اللحظات؛ حتى أُراقبَ مراحلَ حياتِهنَّ من جديدٍ.
النائب / سميرة الحلايقة