كتاب الثريا

أينما كنتَ .. كُنْ رجلاً

خلَقَنا اللهُ _سبحانَه وتعالى_ بقدْراتٍ متفاوتةٍ، ومواهبَ مختلفةٍ، وذكاءٍ ووَعيٍّ ورؤيةٍ ليست واحدةً، كان الهدفُ منها إثراءَ الحياةِ، وإذكاءً لروحِ التدافعِ الذي لا يَتِمُّ صلاحُ الأرضِ إلاّ به، وصار هناك تكاملٌ بينَ شركاءِ الأرضِ، وصار كلٌّ منهم يضطَّلعُ بعملٍ لا يستغني عنه الآخَرُ..

أصحابُ القضايا العظيمةِ النبيلةِ؛ يحتاجونَ إلى وعيٍّ بدَورِهم المحدّدِ في خدمةِ القضيةِ، ولا يتجاوزونَه إلى غيرِه، فإذا ما كان دورُكَ في القيادةِ؛ وجبَ عليكَ ألاّ تتأخّرَ عن القيامِ بمُهِمَّتِكَ دونَ أيِّ تردُّدٍ أو تهاوُنٍ، بل سيصبحُ إحجامُكَ عن ارتداءِ لباسِ القيادةِ تهاوُناً وتخاذُلاً منكَ تُجاهَ قضيتِك، وإذا ما كان دورُكَ ومُهمّتُك في أنْ تحرسَ، أو تسقيَ، أو تراقبَ… فعليكَ أنْ تكونَ جندياً يقِظاً هُماماً، دونَما تَملمُلٍ، ولا استهتارٍ، ولا استقلالٍ بالدورِ الذي قد حُدّدَ لك.

إنّ المؤمنَ بقضيتِه ودعوتِه؛ يستوي عندَه موقعُ القيادةِ مع موقعِ الجنديّةِ، ما دام وجودُه في أيِّ مكانٍ يصُبُّ في صالحِ دعوتِه وفكرتِه، يتجرّدُ تماماً من حُبِّ الظهورِ، والشغفِ بالرياسةِ، أو التطلّعِ لأنْ يكونَ على رأسِ الهرمِ؛ بِغَضِّ النظرِ عن قدراتِه ومقوِّماتِه.
ولقد أثنَى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على الشخصِ المُنضبِط، الراضي بدَورِه في خدمة قضيتِه؛ دونَما تذمُّرٍ قائلاً: “طوبَى لعبدٍ آخِذٍ بعِنانِ فرسِه في سبيلِ اللهِ، أشعثٌ رأسُه، مغبرّةٌ قدماهُ، إنْ في الساقةِ؛ كان في الساقةِ، وإنْ كان في الحراسةِ؛ كان في الحراسةِ”.

إنّ المرءَ مِنا يا أصدقائي؛ قد يُتقِنُ شيئاً، ويُخفِقُ في أشياء، فيصبحُ من تمامِ الفِطنةِ والذكاءِ؛ أنْ ينتبِهَ للشيءِ الذي يُتقنُه، ويهتمَّ به، ويتركَ ما لا يجيدُه لغيرِه، ولقد ردَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الصحابي الجليلَ “أبا ذر الغفاري” حينما طالبَه بأنْ يولِّيَه على إمارةٍ من إماراتِ المسلمينَ؛ وذلك لأنه رجلٌ رقيقُ القلبِ، ذو نزعةٍ للتقشُفِ؛ رُبما تُريحُه على المستوى الشخصيّ، لكنها قد تُرهقُ الجماعةَ؛ إذا ما طبَّقَ ما يتلاءمُ مع وضعِه الفرديّ على الوضعِ العام، ففي الحديثِ الذي رواه مسلم “عن أبي ذرٍ قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ ألا تستعملني؟ قال: فضربَ بيدِه على منكبي، ثم قال: يا أبا ذر إنك ضعيفٌ، وإنها أمانةٌ، وإنها يوم القيامةِ خِزيٌ وندامةٌ؛ إلاّ من أخذَها بحقِّها، وأدَّى الذي عليه فيها”.

هذا بالرغمِ من ثناءِ النبيِّ عليه سابقاً، والتأكيدِ على فضلِه في خدمةِ الدعوةِ؛ ففي الحديثِ الذي رواه الإمام أحمدُ، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “ما أقلّتْ الغبراءُ، ولا أظلّتْ الخضراءُ من رجلٍ أصدقَ من أبي ذر”.

ولذا لم يغضبْ أبو ذر، بل أدركَ أنّ دورَه في خدمةِ القضيةِ؛ ليس مكانُه كرسيَّ الإمارةِ، فيَمَّم وجهَه شطْرَ غايةٍ أخرى، وأفنَى حياتَه في العبادةِ والزهدِ والتقشُفِ، ودعوةِ الناسِ إلى التجرُّدِ للهِ ولدِينِه، وللهِ درُ الإمامِ الفقيهِ “سفيان بن عيينة” وهو يُثني على أحدِ زُهادِ الإسلامِ، ويخالفُه في الوقتِ ذاتِه في بعضُ الأمورِ الفقهيةِ بقولِه: “رحِمَ اللهُ إبراهيم بن أدهم، قد يكونُ الرجلُ عالماً باللهِ، ليس يفقَهُ أمرَ اللهِ”، وما العيبُ أنْ تكونَ عابداً، زاهداً؛ دونَ أنْ تكونَ فقيهاً عالماً؟ فلا أحدَ يملكُ زمامَ المواهبِ جلِّها إلاّ ما ندَرَ.

مِثالٌ آخَرُ مُهمٌّ جداً، ويدلُّ على أنّ العظماءَ لا يتأفَّفونَ من أنْ ينزِلوا في أيِّ مكانٍ تضعُهم فيه دعوتُهم العظيمةُ، وقضاياهم النبيلةُ؛ فهذا “خالد بن الوليد” الذي عُزلَ عن إمارةِ الجيشِ، وهو القائدُ المظفّرُ، عمِلَ تحتَ قيادةِ “أبى عبيدة” دونَ تمَلمُلٍ ولا تذمُّرٍ، وكان نِعمَ المشيرُ والمُعينُ.

ولقد أعطانا “عمرُ بنُ الخطابِ” لمحةً رائعةً؛ حينما جاءَه رسولُ معركةِ “نهاوَند” يقولُ له: يا أميرَ المؤمنين، ماتْ خَلقٌ كثيرٌ أنتَ لا تَعرِفُهم، فبكى بنُ الخطابِ وقالَ: وما ضرَّهم أنِّي لا أعرِفُهم؛ إذا كان اللهُ يعرِفُهم!

بما يعني أنّ الجنودَ الذين تغفُلُ كتبُ التاريخِ عن ذِكرِ أسمائهم، وينساهم الناسُ، اللهُ يحفظُ لهم جميلَ صُنعِهم، ويَعرِفهم بأسمائهم، ويحفظُ لهم تضحياتِهم، وما قدَّموهُ لدعوتِهم.

لذا وجبَ التنويهُ -صاحبي العظيم- إلى أنّ دورَكَ في خدمةِ الصفِّ؛ قد يكونُ على ظهرِ الفَرَسِ فارساً، وقد يكونُ على الأرضِ مُترجِّلاً، قد يكونُ على المنبرِ، أو أمامَ شاشاتِ التلفازِ، وقد يكونُ في الخَفاءِ ؛عندما يغفُلُ الناسُ.

فاعرِفْ لنفسِكَ مكانَها، وحيثما كنتَ؛ فكُنْ رجلاً، واحذَرْ أنْ تؤتَى دعوتُكَ من قِبَلِكَ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى