“يازور”… جذورٌ ممتدّةٌ وأغصانٌ شامخةٌ في الأرضِ المقدَّسةِ

تحقيق: مصطفى أحمد
“يازور” حكايةُ عددٍ من العربِ الفلسطينيين؛ الذين تمسّكوا وتشبّثوا بأرضِهم، وكانوا عنواناً للحفاظِ عليها، رافضين التفريطَ بحقوقِهم، فقد اشتهرتْ “يازور” كبلدةٍ عامرة، وكانت عتبةَ الزائرِ لمدينةِ يافا، وفيها يلتقي التاريخُ مع الجغرافيا؛ لتتَّضِحَ أهميتُها في زمنِ دولٍ وممالكَ عديدةٍ، وهي كثيرًا ما تقاومُهم وتعاندُهم؛ سواءً كانوا آشوريِّينَ ورومانَ وفراعنةً ويونان، ولكنّ “يازور” فشِلتْ في صدِّ المنظّماتِ الصهيونيةِ؛ التي راحت تقذِفُها بالقنابلِ في محاولةٍ لبثِّ الذعرِ بينهم، واستسلمتْ هذه المرّةَ للقوةِ العسكريةِ والإعلاميةِ الطاغية .
وعُرفتْ “يازور” بانفتاحِها منذُ العهدِ الفاطميّ، ومكانةِ وزيرِها “حسن اليازوري” كما اشتهرتْ كقريةٍ منفتحةٍ عظيمةٍ؛ تأخذُ عظمتَها من عظمةِ فلسطينَ، وتتشبّعُ بالإنسانيةِ، ولم تعرفْ عائلاتُ القريةِ الخلافاتِ العشائريةَ والطائفيةَ والمذهبيةَ والعنصريةَ، وظلّتْ بعيدةً عن الفِتنِ وحالاتِ الانفلاتِ التي شهِدتْها البلادُ في عصرِ بَني عُثمان.
تقعُ قريةُ “يازور” التي ترتفعُ حوالي (25) متراً عن سطحِ البحر، على بُعدِ ( 5كلم) من مدينةِ يافا شرقاً، وذلك على الطريقِ الممتدّةِ من يافا إلى القدسِ، مروراً بمدينةِ الرملة، وإلى شِمالِ “يازور” يمرُّ خطُ سكةِ الحديدِ الرئيسِ؛ الذي يربطُ “يافا” بمدينتَي “الُّلد والقدس” وبلغَ عددُ سكانِ “يازور” في عام( 1945 )حوالي(4030 شخصاً، أمّا مساحتُها فتقاربُ( 12 )ألفَ دونمٍ، أي حوالي( 12) كلم مربّع.
حكايةُ “يازور” :
“االسعادة” التقتْ عدداً من كبارِ السنِّ؛ الذين يقطنونَ اليومَ مخيّماتٍ فلسطينيةً، وطابَ لها سماعُ حكاياتِهم ورواياتِهم حول مدينتِهم الأصليةِ “يازور” كما تحدّثتْ مع أشخاصٍ في منطقةِ المثلّثِ والنقبِ ممن صمَدوا في أراضيهِم، وحافَظوا على هُويتِهم، وهم كُثُر، فيما زارتْ أماكنَ عِدّة في “يازور” وشاهدتْ بقايا صبَّارٍ وجدرانِ وآبارٍ فيها.
“محمد الشنير” 86 عاماً، أحدُ الذين التقتْ بهم “السعادة”، وهو من سكانِ مخيمِ “الفوّار” في مدينةِ الخليل، حيثُ يقول:” كان حالُ “يافا” زمنَ الانتدابِ البريطاني كحالِ القاهرةِ؛ تنعَمُ بالأسواقِ والمتاجرِ ومقراتِ الأحزابِ والصحفِ والنوادي، ومنها تنطلقُ الثورات”.
ويضيف:” اجتمعَ الشبابُ اليازوري للدفاعِ عن قريتِهم؛ بما توَفَّرَ لهم من باروداتٍ كندياتٍ وانجليزياتٍ، واستِنّاتٍ وبرناتٍ، لكنها عجزتْ عن الصمودِ في وجهِ المنظماتِ الصهيونيةِ؛ الأكثرِ عدداً وعُدةً ودعماً وتنظيماً، وهي تزيدُ خمسةَ أضعافٍ عنها.
ويتابعُ قولَه بحرقةٍ، وقد ذرفتْ عيونُه دمعاً:” سقطتْ “يافا” وقُراها، وراحَ الفلسطينيونَ يَهيمونَ على وجوهِهم؛ باستثناءِ “يازوري” من أصولٍ مصريةٍ؛ تزوّجَ طِيراويةً كانت له عَوناً على صمودِه وثباتِه بين براثنِ المغتصِبين، فقد فضّلَ الموتَ في بلدِه على أنْ يترُكَها”.
واشتهرتْ “يازور” بحسبِ “الشنير” ببساتينِها المزروعةِ أساساً بالبرتقالِ، إضافةً إلى عدّةِ أنواعٍ من الحمضياتِ والفواكهِ والخضراواتِ والحبوب، حيثُ كانت زراعةُ البرتقالِ وقَطفُه وتصديرُه أهمَّ مصادرِ الدخلِ بالنسبةِ للسكانِ بوجهٍ عام، فمن برتقالِ “يازور” والقُرى المجاورةِ؛ عَرفَ العالمُ برتقالَ “يافا” الذي اشتهر في “أوروبا” بشكلٍ خاص.
وأوضحَ أنّ المارّةَ أينما ذهبوا؛ كانوا يتمتعونَ برائحةِ الزهرِ في مواسمِ إزهارِ الأشجارِ، حيثُ كان جميعُ أهالي “يازور” من المالكينَ للأرضي الزراعيةِ والبساتينِ، وكانوا من المَيسورينَ، ولم يعرِفوا _خلالَ تاريخِهم الطويلِ_ الفقرَ أو الحاجةَ.
ويشيرُ إلى السنواتِ الأخيرةِ التي سبقتْ قيامَ إسرائيلَ بإرهابِ السكانِ، وتشريدِهم، والاستيلاءِ على ممتلكاتِهم وقريتِهم، شهِدتْ انتشارَ تربيةِ الأبقارِ الهولنديةِ في القريةِ، ما أدّى إلى زيادةِ الدخلِ وتنويعِ مصادرِه بالنسبةِ للكثيرِ من العائلات، وزيادةِ استهلاكِ السكانِ من الحليبِ والجبنِ والزُّبد.
صمودٌ أسطوريّ :
أمّا الحاج “مفلح زعرور” 80 عاماً؛ الذي مازال يسكنُ بالقربِ من قريةِ “يازور” حتى يومِنا هذا، فقد ظلَّ يستأنسُ بالتاريخِ والذكرياتِ، ويتشبّثُ بالأرضِ التي ورِثَها عن أجدادِه، ومع أنّ المياهَ قُطعتْ من قِبلِ شركةِ “مكَروت” وجُفّفتْ البيّارة، لكنه اختارَ مهنةَ الرَّعيِ، و حافظَ على صمودِه، فعلى الرغمِ من شَيخوختِه وتعرُّضِه لضغوطٍ وإغراءاتٍ؛ ليتخلّى عن أرضِه، ولكنْ دونَ جدَوى.
ومازالت زياراتُه للأرضِ مستمرةً يومياً، حتى أنّ حِصانَه حفظَ الطريقَ عن ظَهرِ قلْب، ورغمَ العجزِ والكِبرِ لم ينقطعْ عنها! بل يرافقُ أبناءَه مُستطيباً التجوالَ فيها، واستنشاقَ عَبقِ زهورِها.
ويقولُ “زعرور” مُستذكِراً ماضياً عتيداً قد وَلَّى، ووحيداً دونَ أنيسٍ يخفِّفُ من جرحِه النازفِ:” كانت “يازور” مَحطَّ أنظارِ وأطماعِ الأعداءِ؛ لموقعِها المُهمِّ على مدخلِ “يافا” كُبرى المدُنِ الفلسطينيةِ، لقد صنَّفَ الصهاينةُ بلدةَ “يازور” من القرى الخطِرةِ على أمنِهم واستقرارِهم؛ بسببِ الهجماتِ التي كان يشنُّها أبطالُ وفدائيو القريةِ، واستهدافِهم لدورياتِ العدوِّ، فشَكلّتْ مُثلثَ الرعبِ – ويُطلقُ على ثلاثِ قرى وهي (يازور وسلَمة وبيت دجن) – الذي أرّقَ الصهاينةَ، وقضَّ مضاجعَهم، وخلقَ قلقاً وتوتُراً دائماً للصهاينةِ، منذُ انطلاقِ ثورةِ( 1936)
ويضيفُ:” لذا كانت “يازور” وأخواتُها من مدُنِ وقُرى وبلداتِ فلسطينَ؛ عُرضةً لشَنِّ الهجماتِ عليها؛ لإخضاعِها وتهجيرِ أهلِها والاستيلاءِ عليها بشتّى السبُلِ، دونَ أدنَى رادِع، ولقد لعبَ الزعماءُ الصهاينةُ _الذين خطّطوا لإقامةِ وطنٍ قوميٍّ في فلسطينَ_ دوراً مُهِماً في التحريضِ والدعوةِ إلى الإرهابِ بمُختلفِ أشكالِه( من تقتيلٍ وترويعٍ وذبحٍ) لتحقيقِ أهدافِ الصهيونية”.
ويتابعُ زعرور قولَه:” يتضحُ ذلك من مقولاتِ زعماءِ عصاباتِهم الإرهابيةِ المسلّحةِ؛ كعصابةِ (شتيرن والأرغون والهاجاناه) تلك العصاباتُ التي شكّلتْ لاحقاً ما يسمَّى بجيشِ الدفاعِ الإسرائيلي، فلم يتورَّعْ هؤلاءِ القتلةُ عن استخدامِ أيِّ وسيلةٍ لتحقيقِ مآربِهم”.
دمارٌ وتشتُّت :
بعد احتلالِ قريةِ “يازور” دمّرَ الاحتلالُ منازلَها ومساجدَها، وحرقَ مزارعَها، وقطعَ معظمَ أشجارِ البرتقالِ، وأهلُها اليوم يقبعونَ في مخيماتِ (عمان والوحدات والزرقاء) وفي مخيماتِ الضفةِ الغربية، خاصةً “عقبة جبر” ومخيماتِ (نابلس وغزة وسوريا) وبعدَ توقيعِ اتفاقياتِ الهُدنةِ مع الدولِ العربيةِ المجاورةِ، واستِتبابِ الأمورِ؛ قسّموا “يازور” وضُمّتْ إلى مستعمرةِ “حولون” التي أصبحتْ لاحقاً أكبرَ مدينةٍ صناعيةٍ في الكيان.
أمّا البلدةُ القديمةُ فقد تركوها على حالِها تقريباً حتى التسعينياتِ من القرنِ الماضي، وفي أعقابِ توقيعِ اتفاقيةِ “أوسلو” بين منظمةِ التحريرِ والكيانِ الصهيوني عام (1993) اطمأنتْ إسرائيلُ إلى أنّ “يازور” وغيرَها من أراضي عام (48 )لم تعُدْ خاضعةً للمفاوضاتِ، فقامت بهدمِ معظمِ معالمِ القريةِ وبيوتِها ،وإقامةِ بيوتٍ ومحالٍ تجاريةٍ مكانها، وتطويرِ القريةِ إلى بلدةٍ صغيرةٍ جميلةٍ أطلقوا عليها اسمَ “آزور”
وكان يوجدُ في القريةِ مقامان؛ أحدُهما للشيخِ “حَيدر” والآخَرُ لا نعلمُ اسمَه! ورُبما واحدٌ منهما لا يزالُ قائماً، وما زالت تحتوي “يازور” الأماكنَ الأثريةَ على أنقاضِ قلعةٍ من العصورِ الوسطَى (البوبرية)، وبقايا كنيسةٍ دُمجت مع جامعٍ ومدافنَ، وفيها كهفانِ لقبورٍ تعودُ للعصرِ النحاسيّ الأول(5000ق.م) وقد عُثرَ عليهِما في “يازور”
ثوبُ عروسِ “يازور” :
اشتهر تطريزُ قضاءِ “يافا” بدِقّتِه وأناقتِه، فالغُرَزُ مُنمّقةٌ جميلةٌ، والرسوماتُ أنيقةٌ مُعبرّةٌ، والثوبُ آيةٌ في الإتقانِ، ما يُبرِّرُ شِدَّةَ اعتزازِ نساءِ المنطقةِ بأثوابهِنَّ، وعند دراسةِ رسوماتِ التطريزِ على ثوبِ هذه المنطقةِ؛ نلاحظُ أنّ وحداتِها الزخرفيةَ كانت محاطةً في معظمِ الحالاتِ برسوماتٍ لشجرةِ السُّرو، تماماً كما كانت أشجارُ السروِّ تحيطُ ببيّاراتِ البرتقالِ.
وللحديثِ بالتفصيلِ عن ثوبِ يازور، التقتْ “السعادة” فاطمةَ عطا الله،التي تسكنُ في مخيمِ عسكَر بنابلس، وهي أحدُ المهجَّرينَ من بلدتِها الأصليةِ يازور، حيثُ تقول:” إنّ ثوبَ عروسِ “يازور” هو ثوبٌ مصنوعٌ من القماشِ الأبيضِ المُطرَّزِ بالحريرِ الغالبِ عليه اللونَ الأحمرَ مع الأصفرِ والأخضرِ والأزرقِ والأسودِ، برسوماتٍ وعروقِ وردٍ جميلةٍ على القبَّةِ والجوانبِ وأسفلِ خلفِ الثوبِ، حيثُ يحتلُّ التطريزُ الفلاحيّ في فلسطينَ جزءاً مُهِماً من تراثِنا الفلسطينيّ العريقِ؛ الذي نعتزُّ به، والذي يُجَذِّرُ هُوِيَّتَنا الوطنيةً، ويُعزِّزُ ملامحَها وتَميُّزَها”.
وتضيفُ:” امتازتْ المرأةُ الفلسطينيةُ وخصوصاً الريفيةً؛ بإتقانِها للتطريزِ، واستعمالِه في الكثيرِ من مجالاتِ حياتِها، فقد زيّنتْ به بيتَها وثوبَها وأدواتِها الخاصةَ، مستوحِيةً رسوماتِها وزخرفتَها وألوانَها من طبيعةِ بلادِها وبيئتِها المحليةِ، لهذا فنحن نرَى التطريزَ الفلسطينيَّ يختلفُ من منطقةٍ إلى أخرى في تنسيقِ الألوانِ والرسوماتِ، فلِكُلِّ منطقةٍ جغرافيةٍ عناصرُها ومكوّناتُها وتشكيلاتُها الزخرفيةُ المستمدّةُ منها، والمناسِبةُ لها”.
وأشارت إلى أنّ موقعَ فلسطين؛ المتميّزَ في وقوعِها على تقاطُعِ طرُقٍ مؤدِّيةٍ إلى (أوروبا وآسيا وأفريقيا) أكسبَها دوراً مُهِماً في إثراءِ هذا التراثِ الغنيّ، بالإضافةِ إلى الحضاراتِ المتعاقبةِ على المنطقةِ؛ من الحضارةِ (الكنعانية واليابوسية والعمورية) إلى جانبِ الغزواتِ الكثيرةِ التي مرّت على هذه الأرضِ.
أمّا بخصوصِ ترتيبِ التطريزِ على الثوبِ؛ فلم يكنْ عشوائياً؛ بل مدروساً ويغطّي أربعةَ أجزاءٍ رئيسةٍ من الثوبِ، حيثُ تسردُها عطا الله قائلةً:” إنّ أجزاءَ الثوبِ المطرّزةَ تضمُّ “القبّة”، وهي أقربُ قطعةٍ إلى الوجهِ، والجزءُ الخلفيّ للثوبِ هو “الذيل”، أي هو ما جُرَّ من الثوبِ إذا أُسبِلَ، أمّا “البنيقة”، فهي رقعةٌ في نَحرِ القميصِ لتوسيعِه، فيما يطلَقُ على مدخلِ اليدِ ومَخرجِها من الثوبِ “الكُم”.
هكذا ينتهي السردُ السريعُ لفصولٍ قليلةٍ من حكايةٍ لقريةٍ سطّرَها التاريخُ على صفحاتِ الزمنِ، “يازور” ستبقَى خالدةً في عقولِ وقلوبِ سكانِها، لن تموتَ… وستبقَى حيّةً على مرِّ الأجيالِ المتلاحقةِ، فالأبُ يورّثِها للأبناءِ والأحفادِ، الذين سيَقِفونَ يوماً ما على أنقاضِ منازلِ الأجدادِ مُسترجِعينَ شريطَ الذكرياتِ الذي لطالَما سمِعوهُ على مدارِ سنواتِ عمُرِهم.