حوارات

“الصادق” مرَضُ أبي دفعَني للتخصُّصِ في جراحةِ القلب

حوار: صابر محمد أبو الكاس

أمجنونٌ أنا أَم فدائي؟؟!! تساؤلٌ اتخذه صُحفي ألمانيّ عنواناً لتقريرِه الصحفي؛ الذي نُشر في إحدى الصحفِ الألمانية، بعد قرارٍ صدر من ضيفِ حوارِنا في هذا العددِ من مجلة “السعادة” هو طبيبٌ فلسطينيّ درسَ وتعلّم و تفوّقَ وتقلّد المناصبَ العليا في ألمانيا، ويمكثُ فيها قرابةَ ثمانيةٍ وعشرينَ عاماً، ليتركَ حياةَ الرغدِ والرخاءِ والاستقرارِ، مُضحيّاً بكل ذلك خدمةً لأبناءِ شعبِه في غزةَ، الذين يئِنُّونَ من الحصارِ والأمراض والحروبِ والمعاناة، لذلك عزمَ على إكمال حياتِه في وطنه الحبيبِ؛ خادماً أبناءَها ومَرضاها المحاصَرين، حيثُ كان القرارُ المصيريُّ له ولأُسرته، بالعودةِ لغزةَ تاركاً ألمانيا، هذا القرارُ الذي دفع ذاك الصحفي لعنوَنةِ تقريرِه بهذا الاسمِ؛ متعجباً من خطوتِه وفَعلتِه في ترْكِ حياةِ الرخاءِ والاستقرارِ، واستبدالِها بحياةِ المعاناةِ والحصارِ.

إنه البروفيسور الفلسطيني الكبيرُ “مروان الصادق” استشاريُّ جراحةِ القلبِ المفتوحِ، هذا الطبيبُ الذي عالجَ الناسَ بلسانِه قبل أنْ يعالجَهم بمشرطِ الجراحةِ الخاصِّ به، فقد تخطّى البلادَ والقارّاتِ ليصلَ إلى “أوسلو” يتعلمُ فيها فنونَ ومهاراتِ التعاملِ مع النفسِ البشريةِ؛ لأنه يعي جيداً أنّ الإنسانَ كتلةٌ من المشاعرِ والأحاسيسِ، يحتاجُ المريضُ لكلمةِ طيبةٍ؛ تشقُّ قلبَه قبلَ أنْ يشُقَّها مشرطُ العملية.

نرحّب بك د.مروان، بماذا تحبُّ أن تعرّفَ نفسك لقرّاء السعادة؟

“مروان عبد الفتاح الصادق” من مواليدِ مدينة غزة في (15-11-1965) لكني أنحدرُ في الأصل من مدينة “يافا” المحتلة، متزوجٌ ولديَّ أربعُ بناتٍ وولد، أحملُ الجنسيةَ الألمانيةَ بعد (27) عاماً قضَّيتُها هناك من أجلِ الدراسةِ والعمل، أحملُ شهادةَ “الدكتوراه” في جراحةِ القلبِ من ألمانيا، وأعملُ حالياً استشاريَّاً لجراحةِ القلبِ المفتوحِ، ورئيساً لقسمٍ، ومشرِفاً على أقسامِ جراحةِ القلبِ في مجمَّعِ الشفاءِ الطبي، وأستاذاً مساعداً في كليةِ الطبِّ؛ بجامعتَي الأزهرِ والإسلاميةِ بغزة.

حدِّثنا عن تنشئتك الأُسريةِ، وكيف أثّرتْ في شخصيتِك؟

نشأتُ وترعرعتُ في أحضانِ أسرةٍ فلسطينيةٍ؛ كافحتْ من أجلِ الوصولِ بأبنائها لمراكزَ متقدّمةٍ في المجتمعِ، ولخدمةِ شعبِها، فهي مكوّنةٌ من أربعةِ أفرادِ؛ أنا أكبرُهم سِناً، وكان والدي ووالدتي يعملان مدرِّسَينِ في مدارسِ وكالةِ الغوث للاجئين” الأنروا”  حرِصا على تربيتِنا تربيةً صالحةً على الدِّينِ والأخلاقِ والعلمِ، فلَهما الفضلُ الكبيرُ فيما أنا فيه الآن، فوالدي ضحّى من أجْلي الكثيرَ؛ كي يرى ابنَه في أعلى المراتبِ .

دكتور “صادق” هل لك أنْ تحدِّثَنا عن تضحياتِ والدك ؟

بعدما اخترتُ ألمانيا وِجهةً لي للتعلُّمِ والدراسة، كلّف ذلك أسرتي الكثيرَ من الأموالِ؛ نظراً لغلاءِ المعيشة هناك، ومصاريفِ الدراسةِ الباهظةِ، هذا الأمرُ اضطّرَ والدي ليعملَ في مهنةٍ إضافيةٍ إلى جانبِ مهنةِ التدريس، فعملَ كاتباً في إحدى الشركاتِ؛ بعد انتهائه من الدوامِ المدرسي( وهذه المهنةُ تعدُّ أقلَّ من مستواهُ الاجتماعيّ كمُدرِّسٍ في وكالةِ الغوثِ آنذاكَ، والتي لها قيمتُها الاجتماعيةُ الكبيرةُ في المجتمع) ليقتاتَ منه، ويصرفَ على الأُسرة، بينما كان راتبُ وكالةِ الغوثِ يذهبُ لي مباشرةً من “فيِّنا” في أوروبا إلى “فرانكفورك” دونَ أنْ يمُرَّ أو يصلَ إلى غزةَ، هذا الأمرُ حمّلني المسؤوليةَ الكبيرةَ تُجاهَ دراستي ونجاحي وتقدُّمي العلمي هناك، وبالتالي لولا تلك التضحياتُ الجِسامُ التي عبَّدتْ لي طريقَ النجاحِ، ولولا قطراتُ العرَقِ التي سالت من جبينِ والدي في سبيلِ دراستي؛ لَما استطعتُ أنْ أصِلَ لهذا المركزِ المتقدّمَ في المجتمعِ.

دراستُك اتّجهتْ نحوَ جراحةِ القلب، فلماذا هذا التخصُّصَ بالتحديد؟

في الحقيقةِ اختياري لهذا التخصصِ؛ لم يكنْ محضَ صدفةٍ، أو اختيارٍ عشوائي، بل كان عن قصدٍ ونيّةٍ سببُها والدي.

تقصدُ أنّ والدَك من أجبركَ عليه؟

لا ليس ذلك ما قصدتُ، ما أقصِدُه أنّ والدي كان كثيراً ما تأتيهِ حالاتِ ضيقِ نفسٍ شديدٍ، وكثيراً ما ذهب للأطباءِ؛ سواءٌ في الداخلِ أو الخارجِ،  إلاّ أنّ أحداً لم يستطعْ علاجَه، هذا الأمرُ دفعني للاهتمامِ بالقلبِ كعضوٍ؛ لمساعدةٍ والدي في التخلُّصِ ممّا يعانيه، حيث كان زملائي في الدراسةِ يركِّزونَ على الجراحةِ، وجراحةِ الأعضاءِ المختلفةِ، بَيدَ أنني الطالبُ الوحيدُ الذي كان يركِّزُ على القلبِ، خاصةً وأنَّ غزةَ _في تلك الآونةِ_ لم يكنْ فيها تخصُّصٌ لجراحةِ القلبِ.

كفلسطيني يدرسُ ويعيشُ في بلدٍ أوروبي ، ماذا يعني ذلك؟ هل هو أمرٌ اعتيادي؟

أنْ تكونَ عربياً، ومن ثَم فلسطينياً؛ فهذا يعني الكثيرَ، فهو يعني أنك ستتكبَّدُ الكثيرَ من الصعوباتِ والمعاناةِ؛ لأنَّ الأولويةَ بالاهتمامِ في هذه الدولِ عادةً ما تكونُ لابنِ البلدِ، وليس للأجنبيِّ  الغريبِ من خارجِها، إلا أنني بفضلِ اللهِ؛ استطعتُ أنْ أتخطَّى هذه الصعوباتِ، وتركتُ بصمةً في مجالِ تخصُّصي؛ أهّلتْني لتقلُّدِ منصبٍ رفيعٍ في إحدى مستشفياتِ ألمانيا.

معيشتكُ في ألمانيا كانت بمفردِكِ أم برفقةِ زوجتك وأولادك؟

في أوقاتِ الدراسةِ كانت بمفردي، ثم ما لبثتُ أنْ عدتُ لغزةَ؛ حتى تزوّجتُ وأنجبتُ طفلتينِ توأم، وتوجَّهنا لألمانيا لإكمالِ الدراسةِ، والعملِ معاً، وهذا يلقي علينا المسؤوليةَ الأكبرَ تُجاهَ الأسرةِ، كونكَ تعيشُ في الغربةِ، فهذا يحتّمُ عليك أنْ تكونَ أباً وأُمّاً وأخاً وأختاً لزوجتِك، وقد استطعتُ بفضلِ اللهِ تحمُّلَ هذه المسؤولية.

ما الدافعُ وراء تركِ “ألمانيا” والتخلّي عن المناصبِ والراحةِ المعيشيةِ والوظيفيةِ، والعودةِ إلى غزةَ، والاستقرارِ فيها؟

في الحقيقةِ للحربِ الصهيونيةِ على قطاع غزة(حرب الفرقان) عامي( 2008-2009 )الأثرُ الكبيرُ في اتخاذِ هذا القرارِ، فكنتُ أتابعُ ما يجري لأبناءِ شعبي من مجازرَ وتقتيلٍ ودمارٍ، ويدفعُني شعورٌ بقرارِ العودة، فقرّرتُ ألاَّ أتضامنَ بالدعاءِ والرجاءِ فقط؛ بل أنْ يكونَ تضامُني عملياً؛ بترْكِ ألمانيا والتوجُّهِ نحوَ غزة.

بعد قضائكَ لهذه السنوات في حقلِ الصحةِ وجراحةِ القلب.. ما الذي عاد على المواطنِ الفلسطيني؟

أقولُها بكلِّ ثقةٍ؛ إنّ المواطنَ الفلسطيني استفادَ وبشكلٍ كبير، فقد تغيّرتْ نظرتُه السلبيةُ نحوَ المستشفياتِ؛ وتحديداً أقسامَ جراحةِ القلبِ، وبات يدفعُ بنفسِه وبذَويهِ بكلِّ ثقةٍ وقوةٍ نحوَ هذه الأقسامِ، بعدما كانوا لا يثِقونَ قيدَ أُنملةٍ في نجاحِ العملياتِ المحليةِ، وقد استطعنا بفضلِ اللهِ تعالى إجراءَ أكثرَ من( 1350 )عمليةَ جراحةِ قلبٍ ، لاسيّما بعد افتتاحِ عدّةِ أقسامٍ متخصِّصةٍ في جراحةِ القلبِ، وفّرتْ على الحكومةِ أموالاً طائلةً، كانت تُصرفُ على التحويلاتِ الخارجيةِ لإجراءِ تلك العملياتِ.

المريضُ الغزيُّ عادةً ما يطالبُ بالتحويلةِ الخارجيةِ؛ نظراً للشكاوَى المتعلقةِ بسوءِ التعاملِ من قبلِ المستشفياتِ وبعضِ الأطباءِ، كما يقولُ بعضُهم، فهل الأمرُ كذلك بالفعل، أمِ المشكلةُ مرتبطةٌ بالمواطنِ ؟

أنتِ أثرتِ نقطةً غايةً في الأهميةِ، وحساسةً جداً، ونظراً لهذا الموضوعِ؛ فقد أقدمتُ على خطوةٍ بالكادِ لا تجدُ أحداً يُقدِمُ عليها، وهي توَجُّهي نحوَ “أوسلو” قبل مجيئي لغزة، لمقابلةِ بروفيسور خبيرٍ في العلومِ الإنسانيةِ والتعاملِ مع الناسِ؛ لأستفيدَ منه في كيفيةِ التعاملِ مع هذه العقليةِ؛ التي يغلبُ عليها الطابَعُ الجدّي والعصبيةُ، لفَهمِ نفسياتِ الناسِ الذين عادةً ما يأتونَ إلى المشفَى وهم على أعصابِهم قلَقاً على المريض، لذلك أرى أنه من الضرورةِ على الطبيبِ أو الممرّضِ، أو من يحتكُّونَ بالمريضِ ومرافقيهِ، فَهمُ نفسياتِ المرضى وذويهِم؛ للحيلولةِ دونَ وقوعِ أيِّ مشكلاتٍ أو مشاحناتٍ؛ رُبما تتسبّبُ في تأزُّمِ حالةِ المريضِ أكثرَ من ذي قبل.

فيما يخُصُّ حياتَك الأسريةَ، وقد عاش أبناؤك سنواتِهم الاولى في ألمانيا، كيف تأقلَموا مع عاداتِ وتقاليدِ المجتمع الفلسطيني ؟

عندما عُدنا إلى غزةَ؛ عملنا على دمجِهم في المجتمعِ؛ من خلالِ تخصيصِ معلِّمين لهم في اللغةِ العربيةِ، وقد احتضنتْهم مدارسُ “دارِ الأرقم” مشكورةً، وزرعتْ فيهم القيمَ والتعاليمَ والعاداتِ والتقاليدَ الإسلاميةَ باللغةِ العربية، وهذا ساهمَ في انتقالِهم من الحسنِ إلى الأحسنِ، فهم أساساً ملتزِمون دينياً وأخلاقياً بفضلِ اللهِ منذُ الصغرِ، وقد استطاعوا الحصولَ على الامتيازِ في مدارسِهم، رغمَ صعوبةِ اللغةِ العربيةِ عليهم.

عادةً خلالَ الأحاديثِ الأُسرية، هل تتحدثون بالعربيةِ أم الألمانية؟

نتحدثُ بالاثنتينِ معاً، ففي الأحاديثِ المتعلقةِ بالطعامِ والشرابِ والأمورِ الاعتياديةِ؛ نتحدثُ العربية، بينما المسائلُ العلميةُ والتعليميةُ نستخدمُ الألمانيةَ لتوصيلِ المعلومةِ بشكلٍ أفضلَ وأسهلَ وأوضحَ، خاصةً تلك التي تتعلقُ بالنظرياتِ، ومع ذلك فإنني أعتزُّ وأفتخرُ بأني مكّنتُ لأسرتي معرفةَ تعاليمِ الإسلامِ كاملةً، حتى أنّ بعضَهم حفظَ أجزاءً عديدةً من القرآنِ الكريم.

ألا يميلُ قلبُك لأحدٍ منهم أكثرَ من الآخَر؟

صراحةً حبي لهم جميعا في نفسِ المستوى، لكنّ لكلِّ واحدةٍ من بناتي خصالٌ تختلفُ عن غيرِها، فابنتي الصغرى مثلاً؛ أجدُ فيها الإرادةَ القويةَ والإصرارَ العجيبَ؛ لاسيما عندما تلجأُ وتتضرّعُ إلى اللهِ بالدعاء، بينما منهنَّ مَن أجدُ قربَها الأحاسيسَ والمشاعرَ تُجاهي أكثرَ من غيرِها، وهكذا…

حدثنا عن هواياتك؟

هواياتي متعددّة؛ حيثُ أهتمُّ بالرياضةِ، وكنتُ مسجّلاً في أحدِ النوادي الرياضية بألمانيا، كما أنني أحبُّ السفرَ والتعرّفَ على الثقافاتِ الأخرى للمجتمعاتِ، فمَن لا يسافرُ يرى العالمَ بعينٍ واحدةٍ فقط، بينما المسافرُ يرى العالم بكِلتَي عينيهِ، إلا أنني في الحقيقةِ انقطعتُ عن ممارسةِ هواياتي؛ بسببِ كثرةِ المسؤولياتِ أولاً، وثانياً بسببِ الحصارِ المفروضِ على غزةَ، وإغلاقِ المعابر.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى