عدمُ العدل بين الأبناء .. خطيئةٌ يمارسُها الآباءُ بحقِّ الأبناء

تحقيق :ديانا المغربي
العدلُ بين الأبناء مشكلةٌ يقع فيها الكثيرُ من الآباء والأمهات والمربِّين، سواءٌ بشكل متعمّد، أو غيرِ متعمد، و يسبّب هذا التصرف الكثيرَ من الآثار السلبيةِ على الصغارِ؛ تمتدُّ معهم حتى يكبروا، والغريبُ أنّ عدم العدل بين الأبناء؛ يؤثِّرُ لصالح الطرَفين، إذ يجني كلاهُما حقداً وكراهيةً تُجاهَ الآخر! كفيلةً بتشويهِ معالمِ الحياة المستقبليةِ لهما .
والغريبُ أيضاً أنّ الحبَّ هو وراء هذا السلوكِ غيرِ المتعمّد من قِبل الآباء ! في حين أنهم يعترفون، ويجزِمون أنّ محبّتَهم متساويةٌ، و معاملتَهم عادلةٌ لفِلذاتِ أكبادهم ! فكيف يقع الآباءُ في هذه الإشكاليةِ التربوية ؟! وما هو مدى تأثيرها على الأبناءِ ونفسيتهم المستقبليةِ، ومشاعرِهم الداخلية ؟
سعيد “41 عاماً ” واحدٌ من ضحايا عدمِ العدل بين الأبناء، يعودُ بذاكرته إلى قرابةِ( 25 )عاماً من الذكرياتِ، ويقولُ لـ”السعادة ” : كنتُ حينها طالباً في المرحلة الثانويةِ، بمعدّل “جيد” بينما كان شقيقي _الذي يكبرني_ في نهايةِ المرحلةِ الثانوية، وقد كان من الطلبةِ المتميّزين ، وقد احتاج والدي إلي شخصٍ يساعدُه في العمل؛ فأخبرني أنْ أترُكَ المدرسة، وأساعده بالعمل، وأخبرني حينها أنّ شقيقي أفضلُ مني بالدارسةِ، لذا اختارني.
ويضيفُ: ” تركتُ مقاعدَ الدارسة، واتّجهتُ إلى العملِ، بينما بقي أشقائي جميعُهم على مقاعدِ الدارسة، اليومَ هم أطباءٌ ومهندسون وموظّفون ، بينما أنا عاطلٌ عن العملِ؛ بسبب الحصارِ الذي أغلق كلَّ منافسِ الحياةِ ، ولا أحدَ من أشقائي يذكُرُ أنني كنتُ جزءاً من العمل الذي دعَمه وربَّاهُ، و أخرجَه إلى الحياة!
و يتابع: كنتُ أتمنّى أنْ أبقى على مقاعدِ الدارسة! و أنْ أصنع مستقبلي، كما صنعه أخوتي، وتقلّدوا اليومَ مناصبَ ومقاعدَ مُهمّةً، بينما أنا لم أجنِ في حياتي إلاّ بعضَ التشويهِ؛ الذي يشوبُ علاقاتي مع أشقائي! خاصةً لعدمِ اعترافِهم بالتضحيةِ التي أُجبِرتُ عليها من أجلِهم!
مساحةٌ كبيرةٌ
بينما يقولُ أحمد “30 عاما ” لـ”السعادة ” :” كبرتُ أنا و أشقائي في كنفِ رجلٍ صالح؛ يتّخذُ من العدل مساراً لكلِّ حياته ، ويردِّدُ ذلك على مسامعنا مراراً و تَكراراً، وعلى مدارِ الساعة واليومِ ، فلا فرقَ بين ابنٍ و ابنةٍ، ولا فرقَ بين متعلِّمٍ وغيرِ متعلّم، لا فرقَ بين صغيرٍ وكبير، جميعُنا في العدلِ متساوون.
ويتابع: كنا مقسَّمين على المراحل الدراسيةِ المختلفة، ورغم ذلك كان لنا جدولٌ بالعملِ في منجرةِ والدي، بحيثُ يَطلبُ منّا العملَ يومياً؛ ما مقدارُه ثلاثُ ساعاتٍ، حتى شقيقي الكبيرِ الذي يعملُ طبيباً في أحدِ المستشفيات؛ كان يجب عليه أنْ يعودَ من عملِه إلى المنجرةِ لمدة ثلاثِ ساعاتٍ يومياً!
ويتابعُ: كنا في بدايةِ الأمرِ نشعرُ بأنّ في الأمر ظلماً كبيراً يُلقى علينا؛ خاصةً و أننا نعملُ، ونتعلّمُ ، لكنْ مع الوقتِ أدركْنا أنّ والدَنا يريدُ أنْ نكونَ متساوِينَ في الحقوقِ والواجباتِ، وفي الحبِّ والعنايةِ، وحتى بما يترُكه لنا من ميراثٍ بعدَ وفاتِه .
مِحورُ التعاملِ الأُسري
أمّا محمد فيقول :” وُلدنا في بيتٍ كبيرٍ جدًا، حيث كان والدي _رحِمه الله_ متزوجاً بأكثرَ من امرأةٍ، ولدَيه العديدُ من الأبناء ، لقد كُنا قرابةَ (20) طفلاً داخلَ منزلٍ كبيرٍ جداً ، و أذكُر أنّ والدي كان ينادينا في صباحِ كلِّ يومٍ؛ لنُلقيَ عليه تحيةَ الصباح ، فيُقبّلُ كلَّ واحدٍ مِنّا على حِدة، ثُم يعطينا مصروفَنا بشكلٍ متساوٍ .
ويضيفُ: على الرغمِ من عدالة والدنا في الهِبات والمشاعرِ والكلماتِ ؛ إلاّ أننا كُنا نعاني من بعضِ الظلمِ؛ فيما يتعلّق بأمهاتِنا، حيث لم يستطعْ أبي العدلَ بين الزوجاتِ! وبالتالي انعكستْ علاقتُه بزوجاتِه علينا ، فكان يَصيُبُنا من ظلمِهنّ بعضُ الشيءِ ، وكنا نشعرُ بعدمِ العدلِ في مراحلَ كثيرةٍ من الحياة.
من جانبِها تقولُ الأخصائيةُ الاجتماعية والأُسرية عروب جملة :” إنَّ العدلَ هو محورُ التعامل الأُسري، و ضرورةٌ لتوافرِ مشاعرِ المحبة بين الأبناء، و سببٌ مُهم لتعزيزِ مكانة الآباءِ لدى الأبناء ، و من المُهم جداً أنْ يعيَ الوالدانِ بطرُقِ و شكلِ العدلِ بين الأبناء ، لِخلْقِ جوٍّ من السعادةِ والألفةِ؛ يصُبُّ في مصلحةِ الُّلحمةِ الأُسرية، والترابطِ المنشودِ، والتعاونِ الخلّاق ، فعدمُ العدلِ يؤدي إلى إحداثِ خلَلٍ عميقٍ في جميع الاتجاهاتِ، وينعكسُ بالتالي على كافةِ أفرادِ العائلة ، لأنّ العلاقاتِ الأسريةَ علاقاتٌ متشابكةٌ؛ تسمحُ لكلِّ فردٍ بأنْ يقومَ بدَورٍ مُعيّنٍ داخلَ الأسرة، وبالتالي تعطيهِ المساحةَ الكافيةَ لهذا العمل .
و ترى “الجملة” أنّ التفرقةَ بين الأبناء؛ تضُرُّ بالابنِ الذي يُهتَمُّ ، مِثلَ ما تضرُّ الذي يُهمِلُ , فالأولُ يبدأ الشعورَ بالغرورِ، ويمتدُّ ذلك معه طيلةَ عمُرِه ، ثم يكونُ هذا الغرورُ وبالاً على أبيهِ أو أمِّه، الذي ميّزَه عن أخوتِه ، أمّا الابنُ الذي يتعرّضُ للإهمال؛ فإنه يُصابُ بعدّدٍ من الأمراضِ النفسيةِ، وتستمرُّ معه أيضاً لفتراتٍ طويلة، ويبدأ في كراهيةِ أُمِّه أو أبيه، والذي ميَّزَ إخوتَه عنه.
الحقدُ والحسدُ
وتتابعُ: هذه الأخطاءُ قد تؤدِّي إلى الانكماشِ والعزلةِ والانطواءِ كنتيجةٍ سلبيّةٍ، إذا لم تكنْ تؤدِّي إلى النزاعِ والاصطدامِ والشِّجارِ ، كما يؤدّي التمييزُ إلى علاقةٍ سلبيةٍ بين الأبناء؛ إذْ يميلُ الطفلُ المميَّزُ ضدُّه إلى كُرهِ أخيه الآخَرِ! وغَيرتِه منه! كونَه مقرَّباً من والدَيه، وحسْدِه على الحنانِ والرعايةِ التي يحظى بها، والتي جاءت على حسابه، وقد يصلُ الأمر إلى تمنِّي أنْ يُصابَ أخوه بأيِّ مكروهٍ؛ حتى يحتلَّ مكانَه، ويحظى باهتمام والديه!
وعلى النقيضِ من ذلك؛ ينشأ الولدُ الذي يشعرُ بالمساواةِ مع إخوتِه، نشأةً صحيّةً نقيةً، بعيدةً عن الحقدِ والحسدِ والغيرةِ ، وقد يؤدّي الإحساسُ بالتمييزِ إلى الإصابةِ بأمراضٍ نفسيةٍ عديدةٍ، ويكونُ من نتيجةِ ذلك إخفاقُ الطفلِ في تحقيقِ أهدافِه المستقبلية وإشباعِ حاجاتِه الجسميةِ والنفسيةِ والاجتماعيةِ بشكلٍ سَوِيّ، وضعفُ معنوياتِه، وشعورُه بالإخفاقِ والإحباط، ووقوعُه تحتَ وطأةِ التوتُرِ والصراعِ النفسيَّينِ، وفي كثيرٍ من الحالاتِ عند الأطفالِ الذين تمَّ التمييزُ ضدَّهم منذُ الصغرِ، تَبيَّنَ بأنّ مشاعرِ الضيقِ والحقدِ؛ قد تُرافقُهم عندَ بلوغِهم، وقد تنعكسُ على معاملتِهم مع أطفالِهم في المستقبلِ.
قراءةُ نفسيةِ الأبناءِ
و ترى الأخصائيةُ الاجتماعيةُ والأُسرية أنه لا بدّ للوالدينِ من قراءةِ نفسيةِ الأبناءِ، كمحاولةٍ لفَهمِ دواخلِهم، ومعرفةِ احتياجاتِهم وردودِ أفعالهم، وهو ما يتطلّبُ جهداً ودرايةً خاصةً لترجمةِ المحبّةِ والشعورِ الداخلي إلى سلوكياتٍ وتصرُّفاتٍ، وفي حالةِ عدمِ القدرةِ على ذلك؛ فلا بأسَ من التصنّعِ لإبداءِ المحبةِ لجميعِ الأبناءِ، ومن المؤكَّدِ أنْ يرتاحَ الأبناءُ لهذه البادرةِ؛ لتطفوَ إلى السطحِ إيجابيّاتُها، ولو كانت بسيطةً.
في حين يقولُ الدكتور “محمد شريدة” من قِسمِ الشريعةِ الإسلاميةِ بجامعةِ النجاحِ الوطنيةِ : إنّ أمرَ اللهِ “عزَّ وجلَّ” بالعدلِ واضحٌ في قولِه تباركَ وتعالى: “إِن اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ، وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” .
شيءٌ ثمينٌ
و يضيفُ: العدلُ هو المحورُ الأولُ في أيِّ علاقةٍ؛ سواءٌ على مستوى الأُسرةِ، أو على مستوى العلاقةِ بين الأفرادِ والمجتمعِ ، و من الأهميةِ أنْ يفهمَ كلُّ والدٍ معنَى العدلِ، ومن ثَم يقومُ بتطبيقِه على أرضِ الواقعِ مع أبنائه ، مُبيِّناً أنّ ضوابطَ منْعِ الظلمِ، وتحقيقِ العدلِ بينَ الأبناءِ؛ تتمثّلُ في عِدّةِ أمورٍ؛ أهمُّها ثلاثةٌ أوَّلُها: تقوَى الله، وذلك لأنَّ التقوَى هي الحارسُ الأمينُ على تصرّفاتِ الإنسانِ، وثانيها: الحِرصُ على المساواةِ في المعاملةِ، وعدمِ التفريقِ، لأنّ ذلك يَمنعُ وجودَ العداوةِ والبغضاءِ بين الأبناءِ ، كما يؤدّي إلى احترامِ الوالدَينِ، ويحافظُ على الُّلحمةِ الأُسريةِ، ويحفظُ كيانَ الأسرةِ من الخلَلِ والتفكُّك.
وأشار إلى أنّ الضابطَ الثالثَ يتمثَّلُ في المعاملةِ الحكيمةِ، مُشدِّداً على أنّ الحِكمةَ شيءٌ ثمينٌ؛ قالَ اللهُ عنها في كتابِه: “ومن يؤتَ الحِكمةَ، فقد أوتيَ خيرًا كثيرًا”، مُشيراً إلى أنّ تكريمَ الابنِ المجتهدِ ضروريٌ؛ لِدَفْعِه إلى الأمامِ، في حين أنّ تكريمَ غيرِ المجتهدِ في ذاتِ اللحظةِ؛ يحفّزُه لأنْ يكونَ في مقامِ المجتهدِ ، حتى يمضيَ في مسيرتِه دونَ حقدٍ على أخيهِ.