أسرانافلسطينيات

“غرفُ العصافيرِ” مصائدُ العملاءِ داخلَ سجونِ الاحتلالِ.

إعداد- إسراء أبو زايدة

عمدتْ المخابراتُ الإسرائيليةُ منذُ بدايةِ الاحتلالِ إلى استخدامِ العملاءِ داخلَ الزنازينِ؛ للتجسُّسِ على المعتقلينِ أثناءَ فترةِ التحقيقِ؛ سعياً منها لتثبيطِ معنوياتِهم ودفعِهم إلى الإدلاءِ باعترافاتٍ أمامَ المخابراتِ، منتزِعةً اعترافاتِ المعتقَلينَ عبرَ ما يتمُ تسميتُهم “بالعصافير” وهو لقبٌ أطلقَه المعتقَلونَ الفلسطينيونَ على العملاءِ في سجونِ الاحتلالِ.
وتستغلُ المخابراتُ “الإسرائيلية” العصافيرَ في تقديمِ معلوماتٍ؛ وذلك من خلالِ زجِّهم في زنازينِ وأقسامِ المعتقلينَ؛ ليقومَ هؤلاءِ العملاءُ بانتزاعِ الاعترافِ من المعتقلِ بطرُقٍ عديدةٍ، منها على سبيلِ المثالِ لا الحصرِ: (الاستفزازُ، الاستدراجُ، الضغطُ، التهديدُ، الحِيَلُ والخداعُ).

ولا شكَّ أنَّ العملَ بهذا الأسلوبِ؛ قدّمَ معلوماتٍ لمخابراتِ الاحتلالِ ، لاسيّما وأنها تعملُ جاهدةً على الإبداعِ في تطويرِ العملِ بهذا الأسلوبِ، وإيجادِ الجديدِ من الخِدعِ والوسائلِ لتنفيذِه.

يقولُ أحدُ الأسرى الذي قضى ما يقرُب الـ(90)  يوماً في أقبيةِ التحقيقِ :”العديدُ من الأسرى الذين حقَّقوا معهم في مراكزِ التحقيقِ الإسرائيليةِ؛ صمدوا وقدّموا صورةً مشرِقةً، وصموداً رائعاً؛ ولم يُدلوا بأيِّ اعترافٍ داخلَ أقبيةِ التحقيقِ”، مضيفاً:” ولكنْ عندَ نقلِهم إلى غرفِ العملاءِ؛ أدلوا باعترافاتِهم دونَ علمِهم بتخابُرِهم مع الاحتلالِ!، وقدّموا إفاداتٍ خطيةً بهذه الاعترافاتِ!، وعند خروجِهم من غرفِ العملاءِ، ورجوعِهم إلى مراكزِ التحقيقِ؛ كانت الصدمةُ بأنّ الإفاداتِ الخطيّةِ التي قدَّموها في غرفِ العملاءِ؛ موجودةٌ بينَ يديِ رجالِ المخابراتِ، لتسرقَ منهم ساعاتٌ وأيامٌ معدودةٌ في غُرفِ العارِ، أزهَى سنواتِ أعمارِهم”.

إنّ انتزاعَ الاعترافاتِ بالخداعِ عن طريقِ غرفِ العملاءِ؛ هو جزءٌ من تعذيبِ المعتقلِ نفسياً، وتدميرِه معنوياً ووطنياً، وهو عملٌ غيرَ مشروعٍ وغيرُ قانونيّ، ولا تُعَدُّ الاعترافاتُ في غرفِ العملاءِ اعترافاتٍ قانونيةً، ودلائلَ ثابتةً تُقدَّمُ للمحكمةِ، ولكنها تُستغلُّ لزيادةِ الضغطِ على المعتقَلِ؛ بعدَ أنْ يَتِمَ سحبُه من غرفِ العملاءِ؛ وإدخالُه غرفَ التحقيقِ مرةً أخرى.

عدمُ وعيٍّ

“في كثيرٍ من الحالاتِ؛ أنكرَ الأسرى اعترافاتِهم في غرفِ العملاءِ، وواجهوا المخابراتِ الإسرائيليةَ بكلِّ قوةٍ، ولم تؤخَذْ اعترافاتُهم سنداً قانونياً ضدَّهم؛ إلا أنها كشفتْ أسماءً ومعلوماتٍ؛ كان من الصعبِ أنْ تنالَها المخابراتُ الإسرائيليةُ بسهولةٍ؛ لولا استخدامُ غرفِ العملاءِ، وعدمُ وعيِ الأسيرِ بأساليبِ المواجهةِ”، هذا ما تحدَّثَ به أحدُ الأسرى المُحرَّرينَ من أقبيةِ التحقيقِ الإسرائيليةِ؛ بعدَ أنْ خاضَ تجربتَه في التحقيقِ؛ والتي استمرّتْ نحوَ(180) يوماً؛ منها (26) يوماً في غرفِ العملاءِ.

تمثيلُ أدوارٍ

يقولُ أحدُ الأسرى الذين خاضوا التجربةَ: “قد يكونُ معظمُ الموجودينَ في هذا القِسمِ، مُلتَحين!، يقرؤونَ القرآنَ بشكلٍ جيدٍ! ويمثّلونَ دورَ العابدينَ! يصومونَ النهارَ، ويقومونَ الليلَ! ويتَّسِمونَ بأسماءٍ إسلاميةٍ لها تاريخٌ!، مِثلَ: أبو صهيب، وأبو حمزة ، أبو جهاد، وأبو نضال، وما شابَه، أو يتصنّعونَ الانتماءَ لفصيلِ المعتقلِ! ويتّخِذونَ أسماءً لرفاقٍ أو شهداءٍ من جميعِ الفصائلِ! ويقومُ أحدُهم بتمثيلِ دورِ المسئولِ الأعلى للتنظيمِ!، وآخَرُ دورِ الموَجِّهِ الأمني!، وثالثٌ مسئولُ مؤتمرِ النقاشِ الديمقراطي…الخ.”
ويضيفُ:” يقومُ الموَجّهُ الأمنيُ بالطلبِ من المعتقلِ الجديدِ أنْ يكتبَ تقريراً أمنياً حولَ ما جرى معه في التحقيقِ؛ وما قامَ به من نشاطاتٍ خارجَ المعتقلِ؛ حيثُ يكتبونَ له أسئلةً تكونُ معظمُها عن معلوماتٍ لم يعترفْ عليها، وأسرارٍ تنظيميةٍ، وعن (كميةِ الخسارةِ داخلَ التحقيقِ)، أي كم أخذَ  المُحقِّقونَ منه  في التحقيقِ، وعلى كم اعترفَ (5% أو 10%)، وما إذا كانت هناك أشياءٌ أُخرى”.

ويتابعُ:” وإذا لم يتعاطَ المعتقلُ معهم؛ يقومونَ بتهديدِه، أو معاقبتِه بالمقاطعةِ وعدمِ الكلامِ معه مثلاً، وعزلِه عن باقي السجناءِ، وتهديدِه بالتحقيقِ معه لأنه عميلٌ، والتهديدِ بالتشفيرِ، (أي ضربِه بالشفرةِ في وجهِه)، أو حتى التهديدِ بإعدامِه، ويمارسونَ عليه دورَ الإرهابِ والتهديدِ والوعيدِ، وأنه مَدسوسٌ عليهم، وهذا مجردُ تهديدٍ فحسبْ، ولا ينفِّذونَ أيَّ شيءٍ من ذلك”.

شراكٌ محبوكةٌ

كما ويتحدّثُ أسيرٌ آخَرُ حولَ تجربتِه في غرفِ “العصافيرِ” فيقولُ: “العديدُ من المصائدِ والشراكِ تنصبُها المخابراتُ للمعتقلِ؛ تكونُ متتاليةً ومتتابعةً، مثلاً شرَكان أو ثلاثةُ شراكٍ، وتتعمّدُ المخابراتُ كشفَ هذه الشراكِ للمعتقلِ؛ حتى يعتقدَ أنه قد مرَّ بالمصائدِ، واجتازَ أسلوبَ “العصافيرِ”، ثم يُنصبُ له شرَكٌ رابعٌ محبوكٌ بإتقانٍ؛ يقعُ فيه المعتقلُ بعدَ أنْ ظنَّ أنه قد تجاوزَ مرحلةَ شراكِ “العصافير” في المراتِ الثلاثِ الأولى”، مضيفاً:” فالمخابراتُ لا تكتفي بشرَكٍ أو اثنينِ فقط ..، وهذه الأساليبُ متطورةٌ، تتبدّلُ وتتغيرُ وتتجدّدُ باستمرارٍ؛ بحيثُ لا تبقَى المخابراتُ على أسلوبٍ واحدٍ، ولذلك يجبُ افتراضُ وتوَقُعُ كلِّ شيءٍ، وليس هناك أفضلَ من الصمتِ.. الصمتِ .. الصمتِ”.

تضليلُ العملاءِ

فيما يُدلي بتجربتِه أحدُ الأسرى المحرَّرينَ؛ الذي رفضَ الإفصاحَ عن هُويتِه،  وعملَ موَجِّهاً أمنياً في معتقلِ “مجِدّو”: “يجبُ  على الأسيرِ التنَبُهُ إلى ملاحظةٍ مهمةٍ جداً؛ وهي أنه إذا اكتشفَ المعتقلُ العملاءَ “العصافيرَ”؛ فالأصلُ ألَّا يُشعِرَهم بأنه عرفَهم وكشفَهم؛ بل عليه أنْ يوهِمَهم بأنه قد انخدعَ بهم، ويمكنُ أنْ يعطيهم معلوماتٍ مُضلِّلةً، بحيثُ تَصِلُ – عن طريقِهم- للمُخابراتِ معلوماتٌ تخدمُه وتُبرِّؤه”.

ويضيفُ:”  أمّا إذا شعروا بأنه قد اكتشفَهم؛ فسيقومونَ بعملِ شرَكٍ آخَرَ له، متابعاً: “هناك شرَكٌ آخَرُ قد يواجِهُه المعتقلُ؛ فقد يدخلُ إلى الزنزانةِ، ويجدُ بها شخصاً عميلاً يمثّلُ دورَ معتقلٍ مِثلِه، وأنه قد أنهَى كلَّ جولاتِ التحقيقِ؛ الأمرُ الذي يوحي للمعتقلِ بأنه صادقٌ ومسكينٌ، فيبادرُ بالسؤالِ عن التحقيقِ ومراحلِه، وهنا يتثاقلُ العميلُ في الإجابةِ؛ ويُخبِرُه بأنه  لم يتبقَ له سِوى جولةٍ واحدةٍ، وهي جولةُ “العصافير”” .

ويستمرُ العميلُ بتجديدِ تحذيرِه للمعتقلِ من ” العصافيرِ” ، حتى يوقِعَه بمصيدتِهم، وهذا هو الشرَكُ الحقيقُ والأصلي، وتكونُ المرحلةُ التي سبقتْها توطئةً للشرَكِ الأخيرِ”.

رحلةُ مصيدةٍ

يروي أحدُ المعتقلينَ ، (أبو حسين) ‏الذي سجّلَ أروعَ مراحلِ التحدي والصمودِ في التحقيقِ، فيقولُ عن هذا الأسلوبِ: ” لقد ‏هدَّدوني‏ بالإبعادِ إلى لبنانَ، وفعلاً‏ سلّموني‏ أماناتي،‏ وملابسي‏،‏ وأخذتْنا سيارةٌ‏ عسكريةٌ‏ من سجنِ المجدلِ‏،‏ إلى ميليشياتٍ جنوبَ لبنان العميلِ، وهناك‏ في‏ مناطقَ‏ جبليةٍ‏،‏ سُلِّمتُ‏ إلى وفدٍ‏ من‏ الصليبِ‏ الأحمرِ؛ الذي‏ أخذني إلى مناطقَ‏ “سعد‏ حداد”، وعندَ‏ آخرِ نقطةٍ‏‏، قالوا‏ لي‏ من‏ هنا‏ بإمكانِك أنْ تسيرَ‏ وحدَك؛‏ فأنت الآنَ في‏ منطقة‏ِِِِ جماعتِك‏، سِرتُ‏ ما‏ يقرُبُ‏ من(‏ ‏2) كيلومتر‏؛ فإذا بمقاتلينَ‏ يخرجونَ‏ من‏ الكمائنِ،‏ ويتكلمونَ‏ بلهجة‏ٍ فلسطينيةٍ‏ لبنانيةٍ؛‏ قلتُ‏ لهم‏ أني فدائيٌّ‏ مُرحَلٌ‏، أخذوني إلى موقعٍ‏ عسكري‏،‏ وشاهدتُ‏ صورَ‏ (أبو عمار‏ وأبو جهاد)‏،‏ وشعارات‏ (ثورة‏ حتى‏ النصر‏،‏ فتح‏ ديمومة‏ الثورة)‏‏ وتجمّعَ حولي‏ المقاتلونَ‏،‏ وتسامرْنا‏ طويلاً‏، حتى شعرت‏ُ أنني حرٌّ‏”.

ويضيفُ:”  قال‏ لي‏ قائد‏ُُُُ المعسكرِ‏: “القيادةُ في‏ بيروتَ‏ تنتظرُكَ،  وبسببِ‏ اشتباكاتٍ‏ في‏ الطريقِ‏ سيتأخّرُ‏ وصولُك‏، فاكتبْ‏ تقرير‏اً عاجلاً لإطلاع‏ِ القيادةِ عليه‏؛ فكتبتُ‏ تقريراً‏ مفصّلاً‏؛ وأخذه قائدُ‏ المعسكرِ‏، وفي‏ الليلِ‏ تحركتْ‏ بنا‏ السياراتُ‏ تُجاهَ‏ بيروت‏؛ ‏حيثُ‏ في‏ الطريقِ‏ وقعْنا‏ في‏ كمينٍ‏ إسرائيليِّ؛ وبعد‏ََ ساعة‏ٍٍ وجدتُ‏ نفسي‏ أمامَ المُحقِّقينَ‏،‏ ومعهم‏ التقريرُ‏، قال‏ لي‏ المُحقّقُ:‏ ‏ (وقعتَ‏ يا بطل.. فخطفتُ‏ منه‏ التقريرَ‏ ومزّقتُه‏ بهيستريا‏.. هجموا‏ عليِّ‏ جميعاً‏ .. وجمعوا‏ التقريرَ‏ المُمزّقَ‏،‏ وأعادوا تركيبَه،‏ ووضعوه‏ تحتَ‏ لوحٍ‏ زجاجي، واجتمعَ‏ جميع‏ُُ ضباط‏ِ المخابراتِ‏ حولي،‏ وبعد‏َ انتهاءِ‏ كلِّ‏ِِّّ شيءٍ‏ تذكّرتُ‏ شريطَ‏ الرحلة‏ِِِ الطويلةِ‏،‏ وتيقّنتُ‏ بأن‏ّّ الرحلةَ كانت‏ رحلة‏َ مصيدة‏.. فاحذَروا‏ المصائدَ‏ من كلِّ نوعٍ”.

ويشيرُ “أبو حسن” إلى أنّ غرفَ العملاءِ  لم تَعدْ غرفاً صغيرةً؛ بل أصبحتْ أقساماً واسعةً؛ يتواجدُ فيها عددٌ كبيرٌ من الأسرى الذين يعتقدونَ أنهم في السجنِ؛ حيثُ تُمارسُ في هذه الأقسامِ عاداتُ السجنِ ونظامُه، وتوَزّعُ الأدوارُ والمسؤولياتُ على الأسرى: كالمسئولِ الثقافي والإداري، والمسئولِ الأمني وغيرِه، منوِّهاً إلى استقبالِ الأسيرِ الجديدِ على أنه مناضلٌ وبطلٌ، وتوَفّرُ له الاحتياجاتُ كافةً،  ثُم يتِمُ تعزيزُ ثقتِه بهم، حتى يتِمَ إيقاعُه بشراكِهم.

ويشارُ إلى أنّ المخابراتِ الصهيونيةِ والشاباكَ ؛ اعتمدتْ خلالَ انتفاضةِ الأقصى _وبشكلٍ مركزيِّ_ على غرفِ العملاءِ؛ كوسيلةٍ لانتزاعِ اعترافاتٍ من المعتقلينَ، وتَبيَّنَ من خلالِ زياراتِ الأسرى في السجونِ؛ أنّ ما يزيدُ عن (80% ) من المعتقلينَ الذين تعرّضوا للتحقيقِ؛ قد أدلوا باعترافاتِهم في غرفِ العملاءِ، غيرَ مُدرِكينَ أنّ المعلوماتِ التي تقدَّموا بها، هي لعملاءٍ يعملونَ لصالحِ الشاباكِ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى