فى ذكرَى النكبةِ فنّانو الشتاتِ …الفنُّ يجعلُنا نتربّعُ على خارطةِ الوطنِ فلا يغادِرُنا

تقرير : منى عبد الهادي
وحدَهم يخلطونَ الألوانَ منذُ ستةٍ وستينَ عاماً، مرّةً على الورقِ، وأخرى على القماشِ ، يخُطُّونَ غُربتَهم على جدرانِ الغربةِ في مايو من كلِّ عامٍ، حيثُ تأخذُهم التواريخُ والذكرياتُ الفلسطينيةُ إلى أحضانِ الوطنِ البعيدِ؛ الذي رُبما لم يشاهِدوهُ؛ فقط سمِعوا عنه في حكاياتِ ليالي الستةِ وسِتينَ عاماً من أفواهِ الأجدادِ والآباءِ ، مُستذكِرينَ أنه في كلِّ قصةٍ سمِعوها؛ أختُتِمتْ بأنه لا تنازُلَ عن حقِّ العودةِ إلى فلسطينَ؛ من البحرِ إلى النهرِ .
فنّانو المَهجرِ وحدَهم يتجرّعونَ مرارةَ الغربةِ ومُطالَبونَ بإفراغِ مشاعرِهم على لوحاتٍ و جدارياتٍ؛ تُعزّزُ من صمودِ أقرانِهم من الجالياتِ الفلسطينيةِ في دولِ الشتاتِ ، وتؤكّد أنه رغمَ البُعدِ الجغرافي إلى مدُنٍ وبلادٍ يحفُّها الجمالُ والتطورُ والحضارةُ؛ إلاّ أنهم مازالوا يحلمونَ بالعودةِ إلى الوطنِ الأُم ، وغيرَ مستعدِّينَ لمُبادلةِ هذا الحلمِ بحقوقِ المواطنةِ في أيِّ بلدٍ آخَرَ .
“السعادة” وفى الذكرى السادسةِ والستينَ للنكبةِ الفلسطينيةِ؛ حاورتْ عدداً من فنّاني الوطنِ المُغترِبينَ؛ في محاولةٍ لإيصالِ الكلماتِ ورسوماتِ اللوحاتِ ، و تغاريدِ التعابيرِ لوطنٍ صامدٍ ومُرابطٍ، رغمَ كلِّ مخطّطاتِ التهويدِ، وطمْسِ القضيةِ الفلسطينيةِ من ذاكرةٍ الشعوبِ .
حَنينٌ لا يتوقّفُ
الفنانُ “محمد جحا” ابنُ مدينةِ غزة، المقيمُ منذ قرابةِ العشرِ سنواتٍ في مدينةِ “بيلونو” في إيطاليا، يقولُ لـ” السعادة ” :” ذاكرةُ الفنانِ الفلسطيني في المَهجرِ؛ هي في العادةِ ذاكرةٌ متعبَةٌ ومرهَقةٌ بذكرياتِ الوطنِ القاسيةِ، وبالتالي لا يمكنُ لِفَنِّهِ أنْ ينفصلَ عن هذه الذاكرةِ ، أبرزُ هذه الذكرياتِ التي تكادُ لا تغادرُ عقلي؛ هو حقُّ العودةِ المرتبطُ بسنواتِ النكبةِ الفلسطينيةِ الطويلةِ .
ويضيفُ: خَلطُ الألوانِ، وصناعةُ اللوحاتِ تعبيرٌ عن مكنوناتِ الفنانِ، التي لا يستطيعُ البَوحَ بها ، لكنْ ما يميِّزُها أنها رسالةٌ تصلُ إلى كلِّ مَن يشاهدُها ، مؤكِّداً أنه كفنانٍ فلسطينيٍّ مُغترِبٍ؛ يحرِصُ في الذكرياتِ الفلسطينيةِ المختلفةِ على المُشارَكةِ في معارِضَ وفعالياتٍ للجالياتِ العربيةِ والإسلاميةِ في “إيطاليا” من أجلِ تعزيزِ الصمودِ الفلسطيني، والتأكيدِ على حقِّ العودةِ، وإيصالِ رسالةٍ لكلِّ المنظّماتِ الدوليةِ، ولهيئةِ الأُممِ؛ أنّ فلسطينيِّي فلسطين؛ لن ينسوا أرضَها أو سماءَها مَهما امتدتْ السنواتُ، ومَهما ابتعدتْ المسافاتُ .
ويرى “جحا” أنّ الحنينَ إلى الوطنِ؛ لا يتوقّفُ بالمُطلقِ لدى أهالي الشتاتِ، فهم لا يحمِلونَ للوطنِ إلاّ صوراً جميلةً؛ تزيدُ شوقَهم وصمودَهم واعتزازَهم بفلسطينَ… كلّ فلسطين ، أملاً أنْ يتحقّقَ حلمُ العودةِ في القريبِ العاجلِ .
أمّا الفنان “شادي الزقزوق” المُهجّرُ من مدينةِ “يافا” الجميلةِ؛ مُقيمٌ حالياً في باريس ، يقولُ: منذُ نعومةِ أظفاري أدركتُ أني بلا وطنٍ ، وأنّ المدينةَ التي كان لابدَّ أنْ أترعرعَ فيها؛ قد أُجبِرَ أجدادي على الرحيلِ منها تحتَ تهديدِ السلاحِ والمليشياتِ اليهوديةِ ، لذا يمكنُ القولُ أنّ مَن تجرّعَ مرارةَ غربةِ الوطنِ صغيراً؛ لا يمكنُ أنْ ينسَى الوجعَ الفلسطيني .
حكاياتٌ لا تنتهي
ويضيفُ: التواريخُ الفلسطينيةُ بما فيها النكبةُ في حياةِ المغترِبينَ؛ حكاياتٌ لا تنتهي ، اليومَ وسائلُ التواصلِ الاجتماعيّ أتاحتْ لنا أنْ نكونَ على تواصُلٍ مع الأهلِ والأحِبَّةِ، وجعلتْنا في حضورٍ دائمٍ مع كلّ الأيامِ والأحداثِ التي يعيشُها الوطنُ ، لذا في ذِكرى النكبةِ عادةً ما تكونُ لديَّ لوحةٌ جديدةٌ؛ لا أُخطِّطُ لرَسمِها أو ألوانِها،، تخرُجُ من عُمقِ القلبِ؛ لتصلَ عُمقَ القلبِ .
ويتابعُ: الفنُّ رسالةٌ وسلاحٌ، وهذا ما نَحمِلُه في قلوبِنا تُجاهَ القضيةِ الفلسطينيةِ؛ التي نحاولُ تفعيلَها بينَ الفَينةِ والأُخرى؛ من خلالِ المشارَكةِ فى كلِّ الفعالياتِ العربيةِ والفلسطينيةِ، التي تقامُ خارجَ حدودِ الوطنِ ، وعادةً لدَينا الوقتُ والجهدُ لقَطعِ مسافاتٍ شاسعةٍ من أجلِ وقفةٍ تضامنيةٍ أو المشارَكةِ بمَعرِضٍ أو كرنفالٍ؛ يزيدُ من صمودِنا ووَحدتِنا، ويقولُ للمحتلِّ ارحلْ… إننا عائدونَ .
في حينٍ يقولُ الفنانُ “حازم حرب” المقيمُ في لندن :” إنه بِغَضِّ النظرِ عن قضيةِ فلسطين؛ فإنّ الفنانَ إنسانٌ مُبدِعٌ، يسكنُ الوطنُ أوصالَه، أياً كانت جنسيتُه، فما بالُكم إذا كان فلسطينيَّ الهوَى والانتماءِ ، ويضيفُ كواحدٍ من الفنانينَ التشكيليِّينَ أشعرُ أنّ كلَّ لوحةٍ؛ إنْ لم تكنْ تُعبِّرُ عن حياتي وانتمائي للوطنِ؛ هي لوحةٌ فارغةُ المُحتوَى ، بِغَضِّ النظرِ عن الرسالةِ التي تَحمِلُها .
الوطنُ لا يُختزلُ
ويتابعُ: من الصعبِ جداً اختزالُ الوطنِ، والعودةُ من تعابيرِ وألوانِ ورؤيةِ الفنانِ ، هو مُجبَرٌ غيرُ مُخيَّر فيها، فالريشةُ تحمِلُه من عالمِ الوعيِ إلى عالمٍ يتمنَّى العيشَ فيه، وعادةً معَ كلِّ لوحةٍ أَجِدُ نفسي أتربّعُ في خارطةِ فلسطينَ حالِماً بالعودةِ ، منوِّهاً بأنه على الرغمِ من المسافاتِ الجغرافيةِ؛ إلاّ أنه يشعرُ أنه هنا في غزةَ بين حاراتِها وفى أزِقَّتِها؛ يتذوقُ مرارةَ المحتلِّ والحصارِ والنكبةِ بشكلٍ يوميّ .
أمّا الرسامُ “محمود عباس” المقيمُ بمدينةِ ترولهاتان، بالسويدِ، يقولُ لـ”السعادة ” الفعالياتُ الوطنيةُ للجالياتِ العربيةِ والفلسطينيةِ؛ لا تتوقفُ بالمُطلَقِ على مدارِ العامِ، فالوطنُ هنا حاضرٌ بلا مُنازعٍ ، وبالعادةِ أُشاركُ كرسّامٍ فلسطينيّ بكلِّ الفعالياتِ؛ من خلالِ اللوحاتِ و الجدارياتِ التي تقولُ لِمن يشاهدُها؛ إننا عائدونَ إلى الوطنِ .
ويرى “عباس” أنّ الجالياتِ الفلسطينيةَ في الشتاتِ؛ أكثرُ تَشبُثاً من أهلِ الوطنِ المُقيمينَ داخلَه بحضورِ الفعالياتِ، فهُم لا يتغيّبونَ عن أيِّ لقاءٍ أو وقفةٍ تربطُهم بالوطنِ ، رُبما أنّ الغربةَ تدفعُهم إلى ذلك، لكن على الأرجحِ أنّ حُبَّ الوطنِ يزدادُ؛ إذا عشتَ خارجَ حدودِه، وتذوّقتَ مرارةَ أنْ تعيشَ فِعلاً بلا وطنٍ .