أحلامُ المستقبلِ … بعضُها يمضي في الدربِ وآخَرُ يُوأدُ في المَهد

آصال أبو طاقية
كثيرةٌ هي الأحلامُ التي تعجُّ في عقولِ الجالسينَ على مقاعدِ الدراسةِ، وقليلون هم مَن يشُدُّوا مآزِرَهم منذُ البدايةِ؛ ليُعلنوا عن بدايةِ الطريقِ دونَ انتظارٍ، وحينها ستجدُ من يردِّدُ” تأتي الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ ” ويرضَونَ بواقعٍ فرضَ عليهم تفاصيلَه التي لم يرغبوا بها، وآخَرينَ يردِّدونَ “تجري الرياح كما تجري سفينتُنا، نحنُ الرياحُ، ونحن البحرُ والسفنُ، إنّ الذي يرتجي شيئاً بهِمّتهِ، يلقاهُ لو حاربَتْهُ الإنسُ والجنُّ” ليسقوا أنفسَهم جرعاتٍ من الأملِ والإصرارِ على تحقيقِ أحلامِهم مَهما بلغتْ التحدّيات؛ ليُشكَّلوا فارقةً يُستدلُ بها بينَ راغبينَ في الحلمِ وبين العاملينَ لأجلِ حلمٍ .
الشابةُ مريم أبوناموس “21 عاماً ” لم تكنْ لتهدرَ سنينَ عمرِها من غيرِ أهدافٍ أو تخطيطٍ، سعتْ وثابرتْ من أجلِ أنْ تُحقِّقَ ما تصبو إليه منذُ الصغرِ، لم تكتفِ أنْ تقرّرَ ماذا تريدُ في نفسِها؛ بل كانت دائماً تُردّدُ أحلامَها أمامَ الجميعِ، وتَدعمُ نفسَها بأنّ ما تبقَّى لها هي بِضعُ خطواتٍ قليلةٍ، وستصلُ إلى ما تريدُ .
وتقول :” لقد حلمتُ منذُ الصغرِ أنْ أصبحَ إعلاميةً متميزةً، وأنْ أجلسَ بجانبِ مذيعةِ الجزيرةِ “خديجة بن قنة” لأقدّمَ الأخبارَ،فلم أضيّعْ لحظةً واحدةً، وسعيتُ إلى تلَقي الدوراتِ والمهاراتِ الإعلاميةِ المختلفةِ؛ التي تُفيدُني في تحقيقِ حلمي، وكنتُ دائماً أصغرَ الموجودينَ، بالإضافةِ إلى خَوضي للعديدِ من التجاربِ بدونِ عائدٍ مادّي؛ كي أطوّرَ نفسي”.
ولم تعشْ “أبو ناموس” في مجتمعٍ مُخملِيّ يسهلُ فيه تحقيقُ الأمنيّاتِ؛ بالعكس فهي شقّتْ طريقَها برغمِ الصعوباتِ التي واجهتْها، وطرقتْ كلَّ الأبوابِ من أجلِ تحقيقِ ما تريدُ، فتقولُ :” منذُ البدايةِ واجهتُ ثقافةَ المجتمعِ التي تستهجنُ فكرةَ أنْ تكونَ الفتاةُ إعلاميةً؛ واضطرارُ الفتاةِ في كثيرٍ من الأحيانِ للتأخُرِ بسببِ مواعيدِ برامجِها ليلاً؛ عدا عن عزوفِ بعضِ الفتياتِ عن مجالِ الإعلامِ؛ بسببِ مستقبلهنّ اللواتي يعتقدْنَ فيه أنّ الشبابَ يبتعدونَ عن الارتباطِ بالإعلامياتِ لانشغالهِنّ الشديدِ.
وتضيف:” بعدَ عناءٍ طويلٍ، استطعتُ أنْ أعملَ في بعضِ الإذاعاتِ المختلفةِ، وكنتُ أداومُ على كتابةِ الأشعارِ، وقراءةِ الرواياتِ والكتبِ المختلفةِ؛ من أجلِ أنْ أرتقيَ بلُغتي الإعلاميةِ، ثُم تَحفّزتُ أكثرَ، وأحببتُ أنْ أنتقلَ لمرحلةٍ جديدةٍ، وهي تقديمُ بعضِ البرامجِ التلفزيونيةِ المَرئيةِ على قناةِ “هنا القدس”، وما زلتُ أطوِّرُ من ذاتي؛ حتى أصلَ إلى ما أريدُ، وأحقّقَ حُلمي الذي طالما سعيتُ من أجلِه، غاضةً الطرْفَ عن أيِّ معيقاتٍ من المُمكنِ أنْ تواجِهَني، فالحلمُ يحتاجُ إلى نفسٍ وإرادةٍ طويلة”.
لم يُحالفْنِ القدَرُ
ولكنّ الشابّ خليل خالد ( 27 عاماً) تَوقفَ عن تحقيقِ حُلمِه في أنْ يصبحَ مهندساً؛ بعدَ أنْ أصيبَ والدُه بالمرضِ،ليضطّرَ إلى الخروجِ من المدرسةِ بطلبٍ من والدتِه، والانتقالِ للعملِ في “سمكرة السيارات” التابعةِ لأبيهِ؛ كونَه أكبرَ إخوتِه؛ وحتى يستطيعَ أنْ يصرفَ على عائلتِه، ويحافظَ على بقاءِ إخوتِه في المدرسة؛ لكي لا يتجرّعوا نفسَ مستقبلِه .
ويقول :” لستُ نادماً على ما ضحيتُ به، لكني الآنَ أشعرُ بحسرةٍ كبيرةٍ؛ حين أرى إخوتي قد تعلّموا جميعُهم، وأنا الوحيدُ الذي لم يحالفني القدرُ، فقرّرتُ أنْ أكملَ دراستي بعد أنْ أتزوجَ؛ إلاّ أنّ ذلك زادَني عبئاً على عبءٍ، وأثقلَ كاهلي، وأصبحتْ لي عائلةٌ؛ الأمرُ الذي جعلني أستسلمُ للواقعِ، وأقرُّ على ما أنا عليه “.
ويتمتمُ وكأنه يواسي نفسَه:”في غزة، الوضعُ صعبٌ للغاية، وبالكادِ يكونُ هناك عملاً، ولا يوجدُ استقرارٌ، وهذا كلُّه يؤثّرُ على أحلامِ الشبابِ؛ التي تتحطّمُ منذ تخرُّجِهم من الجامعاتِ؛ فنجدُهم يصطفُّون في طوابيرِ البطالةِ، وأنا اختصرتُ على نفسي الطريقَ، ودفنتُ حُلمي في الواقعِ الصعبِ الذي نعيشُه؛ كي لا أصبحَ مِثلَهم “.
سأكونُ ما أريدُ !
وعلي النقيضِ تجدُ “محمود قاسم”، الذي عاشَ منذُ صِغرِه في بيتٍ مُهترئٍ، وأبٍٍ قد فارقَ الحياةَ، إلاّ أنه كان يلاحظُ دائماً استهتارً جارتِه بأمِّه وبهِ، ونعتَها لهم بالفقراءِ، وأنّ “محمود” لن يكونَ شيئاً في المستقبلِ؛ سِوى بائعِ خضراواتٍ؛ لأنه يبيعُ الموزَ والترمسَ، بَيدَ أنّ ابنَها سيكونُ طبيباً يَشهدُ لمكانتِه كلُّ الناسِ .
“محمود” الصغيرُ لم يرُقْ له ذلك البتّةَ! وأقسمَ على أمِّه منذُ صِغرِه أنه سيرُدُّ كلامَ الجارةِ عليها، وسيكونَ طبيباً مرموقاً عندما يكبَرُ، وبعدَ أنْ انتهى من دراسةِ الثانويةِ العامةِ؛ لم يكنْ معه سِوى قليلٍ من المالِ يكفيهِ أُجرةً للطريقِ فقط ، فانتقلَ بها إلى “ألمانيا” من أجلِ إكمالِ دراستِه، وهو يملُك العدَمَ .
ويقول :” لم يثنيني عن حُلمي أيُّ شيء، بل زادني ذلك إصراراً على تَحمُلِ كلِّ المصاعبِ؛ من أجلِ تحقيقِ حُلمي، فعملتُ في أحدِ المطاعمِ مُنظِّفاً للصحون، وتعلّمتُ خلالَها اللغةَ، ومن ثَم امتحنتُ بها وحصلتُ على المرتبةِ الأولى، على إثرِها مُنِحتُ دراسةً مجانيةً في الجامعةِ، وأنهيتُ دراستي بسنواتٍ قليلةٍ جداً؛ لأعودَ لأُمي حاملاً شهادةَ الدكتوراه “.
مؤثراتٌ عديدةٌ
وللتعرفِ على كيفيةِ صياغةِ وتحقيقِ أحلامِنا وأهدافِنا بشكلٍ سليمٍ؛ يبيّنُ الدكتورُ النفسيّ والاجتماعيّ د.” درداح الشاعر” أنّ الأصلَ هو أنْ يكونُ الحُلمُ في حدودِ قدراتِ الإنسانِ، فهو أحياناً يضعُ أهدافاً بعيدةَ المنالِ، ويعجزُ عن تحقيقِها، وتكمُنُ المشكلةُ في أنها ليستْ في مستوى قدراتِه ولا طاقتِه .
ويوضّحُ أنّ الحلَّ يكمُنُ في وضْعِ أهدافٍ محدّدةٍ، وفي فترةٍ زمنيةٍ مُعينةٍ تكونُ ضِمنَ نطاقِ قدرةِ الإنسانِ، وإنْ لم يستطعْ؛ فعليهِ أنْ يسعَى لوضعِ أهدافٍ جزئيةٍ؛ كي يحقِّقَها ومن ثَم يستطيعُ الوصولُ لتحقيقِ أهدافٍ كبيرةٍ.
ويقولُ د. الشاعر :” هناك بعضُ المؤثراتِ الخارجيةِ المتمثلةِ في الظروفِ الاجتماعيةِ، والثقافيةِ، والاقتصادية، والسياسيةِ؛ كإغلاقِ المعابرِ، وقِلّةِ المادةِ، وتقلُّبِ الأوضاعِ، وكلُّها تُشكّلُ عائقاً وحجرَ عثرةٍ لتقدُمِ الفردِ من أجلِ تحقيقِ أحلامِه، وليس بمَقدورِه أنْ يمنعَ تأثيرَها، أو أنْ يغيِّرَها بأيِّ طريقةٍ كانت “.
أمّا عن المؤثّراتِ الداخليةِ المتعلقةِ بشخصيةِ الفردِ؛ فتتضمّنُ عدمَ صياغةِ الأهدافِ بطريقةٍ سليمةٍ، أو أنه لم يتدرّبْ على وضعِها، وكذلك ضعفُ الهِمةِ لتحقيقِ الهدفِ (أي يضعُ الهدفَ دونَ أنْ يعلمَ بأنّ ذلك يتعلّقُ بالجهدِ والقدرةِ والمثابَرةِ للفردِ)، وأيضاً وضْعُ الهدفِ بعيداً عن البيئةِ الاجتماعيةِ، وعدمُ مناسبتِه للواقعِ، وبذلك فإنه يكونُ قد خدعَ نفسَه، ولم يقدِّرْها حقَّ تقديرِها .
أنا قادرٌ!
وحولَ كيفيةِ التغلبِ عليها؛ يتابعُ د. الشاعر :”على الشخصِ أنْ يُقدِّرَ نفسَه جيداً، وأنْ لا يُبالغَ أو يقلِّلَ من شأنِ ذاتِه، وأنْ يُشَكِّلَ لديهِ مفهوماً إيجابياً عن نفسِه، أي يقولُ (أنا قادرٌ) (أنا أستطيعُ) (أنا ناجحٌ)،وأنْ يبتعدَ عن المفاهيمِ السلبيةِ التي من شأنِها أنْ تُحبطَه، وكذلك يضعُ أهدافاً موضوعيةً حسبَ إمكاناتِه، وكُلُّ ذلك مُرتبِطٌ بمدَى الوعيِ والإدراكِ والفهمِ للشخصِ، وبذلك سيشعرُ بالرضا إنْ حقّقََ ذلك “.
” على الشخصِ أنْ يتصِفَ ببعضِ الصفاتِ؛ من أجلِ أنْ تؤَهِلَه لتحقيقِ حلُمِه، وتبدأُ من خلالِ وضعِ هدفٍ له في الحياةِ (فإنْ لم يكنْ له هدفٌ؛ فإنه سيُخطِّط للفشلِ، وأنه أمامَ كلِّ إنسانٍ ناجحٍ هدفٌ واقِعي) ، لذلك عليه أنْ يكونَ إنساناً إيجابياً؛ يعملُ على الموجةِ الإيجابيةِ الطموحةِ غيرِ المُحبطةِ والتطويريةِ، ويتمتعُ في ترْكِ بصمةٍ واضحةٍ لدَى الآخَرينَ، بالإضافةِ إلى احترامِ الوقتِ، لأنه أكبرُ عاملٍ مُساعدٍ على تحقيقِ النجاحِ؛ إضافةً إلى أهميةِ التواصلِ الحَسنِ مع المجتمعِ من حولِك، ويمتلكُ الصحةَ النفسيةَ والثقةَ في ذاتِه وقدراتِه، عَدا عن المسؤوليةِ والتضحيةِ والصبرِ والطموحِ وعدمِ الاستسلامِ ، وغيرِها من الصفاتِ الكثيرةِ” بحسبِ د. الشاعر” .
ويؤكدُ على أهميةِ دَورِ الأهلِ في الدعمِ والمراقبةِ؛ باعتبارِهم صمامَ الأمانِ، ومُوجِّهَ القدراتِ للإنسانِ، فهُم الذين يمتلكونَ القدرةَ الأكبرَ على توفيرِ السعادةِ والرضا، والدعمِ النفسيّ والاجتماعيّ اللازمِ؛ ما يساهمُ بشكلٍ فعّالٍ في تحقيقِ أهدافِ الأبناءِ؛ خاصةً في فترةِ الشبابِ التي تتَسِمُ بالحيويةِ والنشاطِ والاستمراريةِ وحبِّ العملِ والنجاحِ .