مرآتي..يحكى أنَّ

بقلم: تسنيم محمد
يُقالُ إنَ المَرَايا صادقة، لكن قدْ تكذِبُ المرايا، إن كانَ ما يُفترَضُ أن تعكِسَهُ ليس جُرْماً مُشَاهَداً..تَصْدُقُ المرَايا في إظهارِ الحجمِ واللونِ والتّفاصيلِ الحسيةِ، لكنّها في الأعماقِ التي تختبئُ تحتَ سطحِ المظاهرِ..قطعاً كاذبة!!
المرايَا ضحلةُ الرُؤية، تخافُ الغوصَ في المكنونات، لذا استبدَلتُها بمرآةٍ من نوعٍ خاص، ثاقبةِ النظر، عميقةِ الفهم..
وهنا..لن تكذبَ المرايا!
يُحكَى أَنَّ..
يُحكَى أنّهُ كانَ في إحدى القرى اثنانِ من الإخوةِ اختَلفا، فاختارَ كلٌ منهُما طريقاً، لكنّ الأخَ الأكبرَ لم يقبلْ لأخيهِ الطريقَ الذّي اختار، فعاداهُ واضطهدَهُ وأبعده، فظلَّ الضّعيفُ في منفاهُ ثابتاً على اختيارِه، مضَمّداً جراحَه، ومُلَمْلِماً شتاتَه، حتّى اشتدَّ ساعدُهُ، وقَوِيَ عودُه، وصارت قِصّتُهُ تُروَى وسمِعَ بهَا النّاس، فعادَ إلى وطنِه على كُرهٍ من أخيه، لكنَّهُ لم يَكُن يستطيعُ فِعل شيءٍ تجاهَه لأنّه حمَى الأهالِي ووقفَ معهُم واكتسبَ ثقتَهم..
دارتِ الأيام وبدأَ الإخوانِ يقتربان قليلاً من بعضِهِما، واقترحَ بعضُ الخواصِّ على الأخ القويِ الحاكمِ أن يُشرِكَ أخاهُ معهُ في الحُكمِ ويقطِعَهُ شَيئاً يَسِيرَاً يتلَهّى بهِ عن معاداتِه، ويأخذُ بهِ عليهِ منّةً وفضْلاً، فوافَقَ الأخوان، لكنَّ أهلَ القريةِ اختارُوا الأخَ الأصغرَ حاكماً لهم، فتأجّجَتِ العداوةُ من جديد، وعادَتِ الخلافات، وشَنَّ الأخُ الأكبرُ حرْباً على أخيه، لكنّه لم يتمَكّن منه، فهُزِمَ وتقهقَر إلى المنفَى، وخَلُصَ الحُكْمُ للأخِ الأصغَر، واستَمَرَّ الحالُ على ما صارَ إليهِ رَدْحَاً منَ الزّمن، رَغمَ مُحاولاتِ الأخِ الأكبرِ تأليبَ الناسِ على أخيهِ، وإغراءَ القُرى المُجاوَرةِ والأعداءِ به، وظلّ الأخُ الأصغرُ يكتسِبُ قوةً أكبر، ويثبِّتُ نفسَه أكثر.
قبلَ أيّامٍ قليلةٍ عادَ الأخُ الأكبرُ معترِفاً لأخيهِ بقوَّتِهِ وفضلِه، طالباً منهُ أن يتصالَحَا ولا ينسَيا رابطَةَ الدَّمِ التّي تجمعُهُما علَى اختلافِ التوجُّه، وافَقَ الأخُ الأصغَرَ، وأعلَنَ للنَّاسِ أنّهُ أخيرَاً سيجتَمِعُ الفُرَقاءُ، ويلتَمُّ الشَّملُ، ويعُمُ الرَّخاء..
ولازَالَ أهلُ القريةِ ينتظِرُون، وهم يعلَمُونَ أنّهُ قيلَ قديماً:
تأبَى الرِّماحُ إذا اجتمَعنَ تكسُّراً *** وإذا افترَقْنَ تكسَّرَتْ آحادَا
ويعلَمُونَ أنهُ قيلَ قديماً أيضَاً:
يـا رُبَّ يـومٍ أتَتْ بُشْرَاهُ مُقبِلةً *** ثُـمَّ اسْتَحَالَتْ بصَوتِ النَّعيِ بُشرَاهُ