ثقافة وفن

مُسلسَلُ ” الروح” فلسطينيٌّ حتى النخاعِ

تحقيق : ميادة حبوب

روحٌ واحدةٌ في جسدَي الضفةِ الغربيةِ وقطاعِ غزة اللذَين فرّقهما الاحتلالُ، روحُ تعشقُ الحياةَ، وتتوقُ للسلامِ، تَكرهُ الحربَ ولكنها تبغضُ الظلم، فتسلكُ لذلك طريقَ المقاومةِ التي تحملُ روحَها على كفِّ،ها فتقدّمُ أرواحَ الشهداءِ الطاهرةَ؛ روحاً تِلوَ أخرى، وتقدّمُ أروعَ قصصِ البطولةِ، وتأسرُ جنودَ الصهاينةِ، لأجلِ أرواحِ الأسرى التي تُرفرفُ خارجَ الأسوارِ العاليةِ، رغمَ وجودِ أجسادِهم قابعةً خلفَ القضبانِ…كلُّ هذه المعاني وأكثرُ؛ يسطّرُها عملٌ واحدٌ صِيغتْ تفاصيلُه من وَحي حياةِ الشعبِ الفلسطيني، وما مرَّ به من أحداثٍ وتضحياتٍ خلال السنواتِ الأخيرةِ، هذه المعاني العميقةُ يقدّمُها مسلسلُ ” الروح ” الفلسطيني، ويروي بعضَ أفرادِ فريقِ العملِ “للسعادة” حكاياتِ هذه الروح.

يعالجُ مسلسل “الروح” ذو الحلقاتِ السبعةِ والعشرينَ مجموعةً من القضايا الأساسيةِ والمِحوريةِ في حياة الشعبِ الفلسطيني، والتي تدورُ أحداثهُ تحديداً في الفترةِ الزمنيةِ  ما بينَ عامِ( 2000م وحتى 2010 )ميلادية، وعن اختيارِ هذه الفترةِ الزمنيةِ بالذاتِ؛ يتحدّثُ المُمثِلُ سعدي العطار (أحدُ أبطالِ المسلسلِ، والمخرجُ المساعدُ) قائلا: ” تناوَلَ مسلسلُ الروحِ هذه الفترةَ بالذاتِ؛ لِما يتخللُها من أحداثٍ جسامٍ، ومنها صفقةُ وفاءِ الأحرارِ، والاجتياحُ المتكررُ للعدوِ الإسرائيليّ، وتجريفُ الأراضي، ومعاناةُ الفلسطينيينَ على الحواجزِ، وانسحابُ الاحتلالِ من غزةَ، وفي الواقعِ بدأتْ قصةُ ولادةِ هذا المسلسلِ بمُسابقةٍ تمَّ طرحُها لأفضلِ سيناريو تلفزيوني، فوقعَ الاختيارُ على سيناريو الكاتبِ الشابِّ سليمان أبو ستة والذي تمَّ تنقيحُه في جلساتٍ مع مُخرجِ العملِ الشابِّ “عمار التلاوي”.

ويوضّحُ مديرُ إنتاجِ المسلسلِ “إبراهيم مسلم” بأنّ العملَ هو عملٌ فلسطيني خالصٌ، بدايةً بالفكرةِ والنصِّ، وانتهاءً بالإنتاجِ والإخراجِ، مروراً بالطاقمِ التمثيليّ والفنيّ، بل وحتى أماكنِ التصويرِ التي تمّتْ بالكاملِ على أرضِ قطاعِ غزة، وتحتَ سمائها، في مخيماتِها وبين أزِقتِها، وداخلَ بيوتِها، فهو فلسطينيٌّ حتى النخاعِ.

ويتحدثُ “مسلم” عن أحداثِ  المُسلسل قائلاً: “يسلّطُ العملُ الضوءَ على شريحةٍ من الشبابِ المقاومِ، يجمعُهم حبُّ الوطنِ، وإيمانُهم بقضيتِهم العادلةِ، ويؤكّدُ على روحِ المقاومةِ الواحدةِ بين الضفةِ وغزة، كما ويَعرضُ قصةَ أسيرٍ غزيٍّ داخلَ سجونِ الاحتلالِ ومعاناتِه، ويناقشُ قضيةَ العَمالةِ والجاسوسيةِ، كما وتطرّقَ كذلك إلى دورِ الإعلامِ في إيصالِ عدالةِ القضيةِ الفلسطينية”.

فلسطينيٌّ خالصٌّ :

“فالروح” هو صورةٌ بصريةٌ مأخوذةٌ من الواقعِ اليوميّ لحياةِ الشعبِ الفلسطينيّ، تعبّرُ عن يومِه بكلِّ تفاصيلِه، وعن هذه التفاصيلِ يتحدثُ العطارُ قائلاً: “لقد تناولَ “الروح” دقائقَ التفاصيلِ في المَشاهدِ الإخراجيةِ، حيثُ كان الهدفُ هو نقلُ الواقعِ بحذافيرِه من ديكوراتٍ وتفاصيلَ بصريةٍ موجودةٍ في الكادرِ التصويريّ، بل وحتى الأصواتِ المحيطةِ؛ مِثلَ صوتِ بائعِ الكعكِ، وصوتِ سيارةِ الغازِ، ولم يكنْ إجمالُ هذه التفاصيلِ بالأمرِ السهلِ، فالمؤثراتُ الصوتيةُ كانت تحيطُ بنا في كلِّ الأوقاتِ المناسبةِ وغيرِ المناسبةِ، فنحن في القطاعِ لا نمتلكُ مدُنا للإنتاجِ الفنيّ، مغلقةً وبعيدةً عن الأصواتِ الصاخبةِ، وهذا كان من أكبرِ التحدياتِ التي واجهتْنا في العملِ.

ويُعدُّ مسلسلُ “الروح”  العملَ الأضخمَ فلسطينياً (حجماً وزمناً كمّاً) أنه يعدُّ نقلةً نوعيةً في الدراما على صعيدِ قطاعِ غزةَ المحاصَرِ، ويُعربُ المواطنُ الغزيّ سالم صالح (25عاماً) عن فخرِه وسعادتِه بهذا العملِ الغزيّ، ويقول: “لا أستطيعُ أنْ أخفيَ تفاجُئي بحِرفيةِ هذا العملِ؛ الذي تمَّ بالكاملِ في قطاعِ غزةَ، في هذه الفترةِ العصيبةِ من حصارٍ وقِلّةِ إمكاناتٍ، ولكنْ يبدو أنّ العقولَ والعزائمَ أكبرُ بكثيرٍ من هذه الظروفِ، وليكنْ هذا العملُ إصبعاً في عينِ كلِّ من يقولُ كلمةَ باطلٍ في حقِّ الإبداعِ الغزي”.

دَورُ المرأةِ :

ويرى “صالح” أنّ دَورَ المرأةِ لم يكنْ بهذه القوةِ، على الرغمِ من أهميتِه، كما أنّ بعضَ المَشاهدِ التي تجمعُ المرأةَ بأخيها أو بزوجِها أو أولادِها كانت تخلو من الحِرفيةِ والواقعيةِ، وهذا بسببِ الطبيعةِ المحافظةِ للمجتمعِ الغزيِّ، ورغمَ هذا كان بإمكانِ فريقِ العملِ تخَطّيهِ بطريقةٍ أو بأخرى، ويفسرُ “العطار” سببَ غيابِ دورِ المرأةِ في هذا العملِ قائلاً: “إنّ السببَ الرئيسَ هو نظرةُ المجتمعِ الغزيِّ للمرأةِ التي تعملُ في مجالِ التمثيلِ، على الرغمِ أنّ مهنةَ التمثيلِ في اعتقادي هي مهنةٌ صاحبةُ رسالةٍ وقضيةٍ، يسعى فيها الممثلُ لإيصالِ صوتِ الحقِّ وإعلائهِ على صوتِ الباطلِ، ما دام ضِمنَ نطاقِ الشريعةِ  والدِّينِ، ولم يتجاوزْ أيَّ حدودٍ، وفي الحقيقةِ قد واجهْنا صعوباتٍ كثيرةً في اختيارِ الأدوارِ النسائيةِ_ رغم قِلتِها_ وبذلْنا جهوداً مُضنيةً في التدريبِ”.

روحُ الفكاهةِ :

“الروح ” لم يخلُ من روحِ الفكاهةِ والطرافةِ؛ التي أراحتْ الأعصابَ _بينَ فَينةٍ وأخرى_ من المَشاهدِ التراجيديةِ المُحزنةِ، والقصصِ الإنسانيةِ، ويوضّحُ “مسلم” بأنه على الرغمِ من الواقعِ المريرِ الذي يعيشُه الشعبُ الفلسطينيّ منذُ سنينَ طويلةٍ؛ إلاّ أنه مازال يُلقي النكاتِ هنا وهناك، ويبتسمُ في وجهِ المعيقاتِ، بل يحوِّلُها أحياناً إلى طُرفةٍ ونكتةٍ، وقد أبدعَ الممثلانِ “كاظم الغف،  وأحمد فياض” في تجسيدِ دَورِ الفكاهةِ الطريفةِ بتأديتِهما دورَ الخبّازِ وابنِه، على الرغمِ أنّ النهايةَ كانت مؤَثرةً باستشهادِ ابنِ الخبازِ الوحيدِ، ويشيرُ “العطار” بأنّ العملَ الدراميّ بدونِ أيِّ مشهدٍ من مشاهدِ الطرافةِ والفكاهةِ؛ يصبحُ شيئاً مُمِلاً رتيباً.

جمهورُ الروحِ :

وتُعربُ نسرين السيد (طالبة جامعية) عن فخرِها بمِثلِ هذه الأعمالِ؛ التي تتحدّى الواقعَ، وتثبتُ للعالمِ بأنّ فلسطينَ تحبُّ الحياةَ، وتريدُ أنْ تعيشَ، وتنقلُ الحقيقةَ والواقعَ عبرَ شاشاتِ الفضائياتِ، لعلّ وعسَى أنْ يستيقظَ هذا العالمُ النائمُ.

ويرى الحاجُّ يوسف ياسين (جدٌّ لخمسةِ أحفادٍ) بأنّ “الروح” نقلةٌ جيدةٌ في عالمِ الأعمالِ التلفزيونيةِ، خصوصاً في ظِلِّ الحصارِ الخانقِ الذي يعاني منه القطاعُ، ويعتقدُ بأنّ الرسالةَ التي يحاولُ المسلسلُ إيصالَها؛ هي رسالةٌ ساميةٌ، وهذا في حدِّ ذاتِه شكلٌ من أشكالِ المقاومةِ.

وعن ردّةِ الفعلِ الجماهيريةِ؛ يشيرُ “العطار” بأنه سعيدٌ وراضٍ عن تفاعُلِ الجمهورِ وتقبُّلِه للعملِ، فقد وصلَه كمٌّ هائلٌ من الاتصالاتِ التي تتوقُ لمتابعةِ الحلقاتِ قبلَ موعدِ عرضِها على التلفازِ، كما أنّ الجمهورَ تفاجأ بالمستوى العالي للإنتاجِ والإخراجِ والتمثيلِ، رغمَ قِلةِ الإمكاناتِ، ورَدةُ الفعلِ هذه تجعلُنا أمام مسؤوليةٍ جسيمةٍ لإنتاجِ أعمالٍ مستقبليةٍ أفضلَ وأكثرَ حرفيةً، فلن نرضَى بعملٍ أقلَّ جودةً عمّا تمَّ تنفيذُه، ويوضّح مسلم قائلاً: “لقد أكسبتْنا الأعمالُ السابقةُ خبرةً لا بأسَ بها؛ لإنتاجِ أعمالٍ تُرضي جمهورَ “الروح”  الذي ينتظرُ مِنا المزيدَ، وسيكونُ له ذلك، فحَتماً سنفاجئ جمهورَنا بالأفضلِ دائما”.

عقباتُ العملِ :

ويتحدثُ “العطار” عن أهمِّ المعيقاتِ التي واجهتْ فريقَ العملِ قائلاً: ” أكثرُ المعيقاتِ التي أثّرتْ على سيرِ العملِ؛ هو عدمُ وجودِ مدنٍ للإنتاجِ الفنيّ بعيدةً عن الإزعاجِ وأصواتِ العامةِ، والانقطاعِ المتكررِ للتيارِ الكهربائي ، بالإضافةِ لضيقِ الوقتِ، فقد كُنا نسابقُ الزمنَ ؛ حيثُ تمَّ إنجازُ العملِ خلالَ ثلاثةِ أشهر، سبقَها شهران للتدريبِ، ولحقها شهرانِ للمونتاجِ، كما أنّ عدداً من المُعدّاتِ اللازمةِ للتصويرِ لم تَدخلْ بسببِ الإغلاقِ والحصارِ، فاضطّررنا لاستخدامِ الموجودِ من المُعدّاتِ، ويؤكّد “مسلم” بأنّ ما يتمُّ استخدامُه من إمكاناتٍ ماديةٍ في الأعمالِ الدراميةِ المُشابهةِ لمسلسلِ “الروح” خارجَ فلسطينَ أكبرُ بكثيرٍ من الإمكاناتِ التي تمَّ استخدامُها في “الروح” الفلسطيني وهذا هو قِمّةُ التحدّي.

وبروحِ الفريقِ الواحدِ، وروحِ التحدي والصمودِ؛ خرجَ مُسلسَلُ “الروح” إلى النورِ، ليقولَ كلمتَه للعالمِ، بأننا شعبٌ مُبدعٌ يحبُّ الحياةَ، ويعملُ بأقلِّ الإمكاناتِ ليتحدّى الواقعَ، فيصنعَ بيَدِه مستقبلاً أجملَ، يصنعُه بالمقاومةِ بكافةِ أشكالِها .. بالسلاحِ والقلمِ، وبالصورةِ والصوتِ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى