تَقاعُدُ ربِّ الأُسرةِ إنذارٌ بالمشاكلِ الأُسريةِ أَمْ انطلاقةٌ نحوَ العملِ والعطاءِ؟

السعادة/أمينة رجب زيارة
بعدَ سنواتٍ طويلةٍ من العملِ، وقضاءِ نصفِ ساعاتِ اليومِ خارجَ البيتِ بعيداً عن أُسرتِه؛ يَجِدُ اليومَ نفسَه _بعدَ التقاعدِ_ فارغاً ومرابطاً في البيتِ، فيشغلُ نفسَه بأُسرتِه، ويتدخّلُ في أبسطِ أمورِ الحياةِ؛ النظافةِ، خروجِ الأبناءِ، وساعاتِ العودةِ، ليمتدَ الأمرُ إلى محاسبةِ الزوجةِ على تنقُلاتِها وتربيتِها لأبنائها، والحريةِ الممنوحةِ لهم، حتى أضحى عِبئاً نفسياً واجتماعياً على أُسرتِه، التي تحاولُ استيعابَه واحتواءَه ، وعلى الطرَفِ الآخَرِ؛ يرى فيه أبناؤه وزوجتُه التي تُمثّلُ الداعمَ الأساسَ له في مرحلةِ البناءِ والإنجازِ من جديدٍ، من خلالِ العملِ بمشاريعَ، وتنظيمِ موازنتِه، أو الحياةِ الأُسريةِ.
“السعادة” دقّتْ الأبوابَ، وعاشتْ لحظاتٍ مع المتقاعدِ بينَ أبنائهِ وزوجتِه، واستمعتْ للشكاوَى، وأثنتْ على الإنجازاتِ الملموسةِ في البيتِ.
مرحلةُ صُنعِ الذاتِ والإنجازِ
سنواتُ الاغترابِ والإهمالِ؛ قتلتْ روحَ، وخنقتْ أنفاسَ حديقةِ بيتِ المتقاعدِ محمد خليل “أبو خالد”، وها هي تعودُ لها الحياةُ من جديدٍ، بعودةِ مَن اشتاقتْ لضرباتِ فأسِه، ذاك المَشهدُ رصدتْهُ “السعادة” خلالَ زيارتِها للمتقاعدِ “أبو خالد”، حيثُ تحدّثتْ زوجتُه التي كانت في الاستقبالِ مبارِكةً عودةَ زوجِها إلى أُسرتِه، بعدَ سنواتٍ من الاغترابِ الأَبوَيّ والعاطفيّ؛ بسببِ انشغالِه في أعمالِه ومسؤولياتِه الكثيرةِ.
تقول:” كثيراً ما كنتُ أطلبُ من “أبي خالد” أنْ يأتيَ بمُزارِعٍ يهتمُّ بالأرضِ التي اصفَرّتْ أوراقُ أشجارِها، وحلّتْ الأشواكُ بدَلاً من نباتِ النعناعِ والرَّيحانِ والزعتر، فكان ينسَى لانشغالِه، ولكنْ بعدَ تقاعُدِه عادَ إلى طينِ أرضِه؛ التي أهملَها لسنواتٍ فاقتْ السبعَ، فقد حوّلَ الصحراءَ المتراميةَ على مدِّ البصرِ إلى جنةٍ خضراءَ؛ زرعَ فيها أشجارَ الزيتونِ والليمونِ والتوتِ والبرتقالِ، وقد أصبحتْ تلك الاستراحةُ حولَ البيتِ هي مَلاذُنا ومصدرُ راحتِنا.
أمّا المتقاعدُ في سنٍّ مبكّرةٍ؛ بسببِ مرضِ “الروماتيزم” الذي أصابَه جرّاءَ وقوفِه لساعاتٍ طويلةٍ في عملِه “خالد عبد القادر” فقد بدا أكثرَ نشاطاً وحيويةً بِتَنقُلِه بينَ مناحلِ العسلِ؛ كمشروعٍ استثماريٍّ مع بعضِ زملائهِ وأصدقائهِ الذين وصفَهم بـ “شِلّةِ المتقاعدينَ” فقدْ استثمرَ راتبَه، وتَحويشةَ عُمرِه في هذا المشروعِ؛ الذي بَدا صغيراً ثُم كبِرَ باهتمامِهم، وأكملَ: تقاعُدي لم يكنْ نهايةَ الحياةِ لي؛ بل بدايةَ مرحلةٍ جديدةٍ في حياتي لصُنعِ ذاتي، وقد توَّجتُها بهذا المشروعِ؛ الذي أجدُ نفسي وكياني وسعادتي فيهِ.
لَبِنةٌ حقيقةٌ للانطلاقِ
ويرفضُ الأخصائيّ النفسيّ، والناشطُ الشبابيّ “محمد إسليم” القولَ بأنّ التقاعُدَ بدايةُ إنذارٍ للمشكلاتِ الأُسريةِ قائلاً: مرحلةُ ما بعدَ التقاعدِ؛ هي المرحلةُ الأهمُّ في حياةِ الإنسانِ الراغبِ في تطويرِ مهاراتِه وخبراتِه واستثمارِهما، وتُعَدُّ الَّلبِنةَ الحقيقةَ التي ينطلقُ فيها نحوَ فضاءاتٍ أعمَّ، فالتقاعدُ مرحلةٌ فاعلةٌ ومهمةٌ لكلِّ ذي لُبٍّ حصيفٍ؛ في استثمارِها استثماراً أرحَبَ، ويجعلُها حدائقَ ذاتَ بهجةٍ، ومَعيناً لا يَنضَبُ في الدفعِ والمُضيِّ في المجتمعاتِ المَعرفيةِ، وأكملَ:” إنْ كان كثيرٌ من الأزواجِ يفكّرونَ في إنهاءِ حياتِهم العمليةِ، وأخذِ قسطٍ من الراحةِ بعدَ عناءٍ كبيرٍ، فتلكَ بدايةٌ لأزماتٍ كبيرةٍ تَشهدُها العائلاتُ، فهي تُنذرُ ببدايةِ مشكلاتٍ في البيتِ؛ تخلقُها جلسةُ الرجلِ في المنزلِ، وإلحاحِه في اختلاقِ المشكلاتِ وتكبيرِها.
ويؤكّدُ على أنّ المتقاعِدَ يصبحُ عبئاً نفسياً على أُسرتِه؛ عندما يتدخّلُ في كلِّ شيءٍ دونَ تَفهُمٍ وتعاوُنٍ! فهو يريدُ أنْ يسيطرَ ويأمرَ وينهَى… والكُلُّ يُلَبي, حتى ولو كانت أوامرُه فارغةً! بالطبعِ ليس كلُّ الأشخاصِ على هذه الصورةِ بعدَ التقاعدِ، ولكنْ هناك شكوَى شِبهُ عامةٍ من عائلاتٍ المتقاعدينَ، خاصةً للأشخاصِ الذين يتقاعدونَ من وظائفَ فيها كثيرٌ من الصرامةِ والنظامِ، وأردفَ قائلاً: تُعاني عائلاتُ هؤلاءِ الأشخاصِ بعدَ تقاعُدِهم من تدَخُلٍ كبيرٍ لهم في كلِّ أمورِ الحياةِ، ورُبما تكونُ الزوجةُ هي أكثرُ مَن يتضايقُ من تلكَ السلوكياتِ؛ لأنّ الزوجَ يتفرّغُ لها، ويبدأُ في مُحاسبتِها على أمورٍ كثيرةٍ؛ لم يكنْ يُلقي لها بالاً، كخروجِها من المنزلِ وملابسِها ومكالماتِها الهاتفيةِ، وتربيتِها لأبنائها، والحريةِ الممنوحةِ لهم.
سلاحٌ ذو حدَّينِ
“التقاعدُ سلاحٌ ذو حدَّينِ؛ إمّا أنْ يكونَ نعمةً أو نقمةً” بهذه العبارةِ أوجَزَ الأخصائي “إسليم” شارحاً :” يكونُ نعمةً عندما يتفهَمُ المتقاعدُ المرحلةَ التي دخلَ فيها بعدَ أعوامٍ من الاجتهادِ والتعبِ، ويقودُه هذا التفهُمُ كي يسعَى إلى مساعدةِ الأبناءِ في بناءِ مستقبلهِم، ويمكنُ الرجوعُ إليه لاستشارتِه في مشكلاتِ أبنائهِ، ومساعدتِهم على حلِّها, بالإضافةِ إلى مشاركاتِهم في مناسباتِهم الخاصةِ والعامةِ, ويكونُ نقمةً عندما لا يُجهِزُ نفسَه لتلكَ المرحلةِ، ويبدأ بالتدخُلِ في شئونِ الأُسرةِ من قريبٍ ومن بعيدٍ، وواجباتِ الزوجةِ داخلَ البيتِ، وشؤونِ الأبناءِ الخاصةِ… يسألُ عن كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ! وهذا بدَورِه يولّدُ جوّاً مشحوناً؛ قد يسبِّبُ مشكلاتٍ بينَ الزوجِ وزوجتِه وأبنائهِ، وحتى أحفادِه،
ويتطرّقُ إلى كيفيةِ استيعابِ المتقاعدِ؛ من أجلِ المحافظةِ على استقرارِ البيتِ، موضّحاً:” هناك كثيرٌ من الزوجاتِ تَتعَبُ في التعاملِ مع أزواجِهنّ الذين تقاعَدوا من أعمالِهم، فجلسوا في بيوتِهم، وصاروا يتدخّلونَ في أعمالهِنَّ، وحرياتِهنَّ؛ حتى أصبحنَ حائراتٍ في كيفيةِ الوصول إلى فهمِهم وكَسبِهم وإشغالِهم عنهُنَّ، لذا لابد للزوجةِ والأبناءِ أنْ يتفهموا تلكَ المرحلةَ، ويَعلموا جيداً سلوكياتِ الزوجِ بعدَ التقاعدِ، وتَقبُّلَها، ومحاولةَ احتضانِه وتأكيدِ مكانتِه وكيانِه، وأنه صاحبُ البيتِ، وله الكلمةُ الأولى والأخيرةُ”.
مشكلةٌ اجتماعيةٌ أُسريةٌ
في حين يرى الأخصائيّ الاجتماعيّ في جمعيةِ الودادِ للتأهيلِ المجتمعيَ؛ “يحيى العوضي” أنّ التقاعدَ مشكلةٌ اجتماعيةٌ تواجِهُها كلُّ أُسرةٍ في المجتمعِ، والتي تتركُ القلقَ والخوفَ من مستقبلٍ؛ يصبحُ مجهولاً، وبالتأكيدِ يبدأ تغييرُ نمطِ الحياةِ بمُجردِ بدايةِ التقاعدِ، والتي تسبّبُ فجوةً وفراغاً كبيراً بحياةِ المتقاعدِ؛ الذي لم يعتدْ عليه.
وتابعَ العوضي: التقاعدُ مرحلةٌ جديدةٌ لها صفاتُها المختلفةُ؛ حيثُ تشكّلُ العبءَ النفسيّ والاجتماعيّ عليهِ والمحيطينَ به، فبمُجردِ بدايةِ التقاعدِ، يبدأ هنا الشعورُ بالعبءِ الاجتماعيّ على الأُسرةِ؛ بسببِ عدمِ التأقلُمِ والتكيّفِ مع مِثلِ هذه المرحلةِ التي يمرُّ بها كلُّ إنسانٍ، لكنّ استيعابَ المتقاعدِ، والتكيّفَ مع وجودِه داخلَ البيتِ، وتغيّيرَ نمطِ حياتِه في تلكِ المرحلةِ، واستثمارَ وقتِ الفراغِ في أشياءٍ تُعيدُ له الحياةَ من جديدٍ؛له أثرُه الطيبُ على المتقاعدِ، إلاّ أنّ استسلامَه للضعفِ، وملازمةِ البيتِ، وإثارةِ المشاكلِ؛ يؤثّرُ على علاقتِه الاجتماعيةِ مع أُسرتِه ومَن حولَه.
وعن علاقاتِه مع أبنائهِ في تلكَ الفترةِ، بعدَ سنواتٍ من الغربةِ الأبويةِ؛ يشيرُ إلى أنّ هناك الكثيرُ من المتقاعدينَ يبحثونَ عن ملءِ وقتِ الفراغِ بشتّى الطرُقِ والوسائلِ: منها التدخُلاتُ في كلِّ كبيرةٍ وصغيرةٍ في حياةِ الأبناءِ والزوجةِ، ويصبحُ هذا شُغلَه الشاغل؛ الذي يؤَثّرُ على علاقتِه بهِم، ما يُفقِدُ الأبَ سيطرتَه على الأُسرةِ؛ بسببِ شعورِه بضعفِ أهميتِه وشخصيتِه داخلَ الأُسرةِ، بعدَ انقطاعِ عملِه، وانعزالِه عن المجتمعِ والأصحابِ، فتبدأ مرحلةُ عدمِ الاحترامِ والتقديرِ للوالدِ، والتذمُرِ من تدخُلاتِه؛ مما يخلقُ جوّاً من الضيقِ والعصبيةِ؛ التي قد تَصِلُ إلى العقوقِ أحياناً! لكنّ العقلاءَ يتمتعونَ بسعةِ القلبٍ والعقلٍ، والعملِ على استثمارِ أوقاتِهم بالاهتمامِ بما هو إيجابيّ لحياةِ الأُسرةِ، حفاظاً على تماسُكها.
مرحلةٌ جديدةٌ ومثمرةٌ
وعن كيفيةِ استغلالِ المتقاعدِ حياتَه إيجابياً؛ يوضّحُ الاجتماعيّ العوضي:” نظرَ بعضُ العقلاءِ بعُمقٍ إلى مرحلةِ التقاعدِ للرجالِ والنساءِ؛ بأنها مرحلةٌ مُهِمةٌ ينتقلُ فيها الناسُ من ضجيجِ الحركةِ حولَهم، إلى راحةٍ وصمتٍ وخلوةٍ تُقلقُ البعضَ، وتُخيفُهم وتُشعِرُهم بالوحدةِ، أمّا البعضُ الآخَرُ فإنه ينتصرُ على كلِّ هذه العواملِ، ويُقدِمُ على مرحلةِ التقاعدِ على أنها مرحلةٌ جديدةٌ ومثمرةٌ في حياتهِ، وأنه يستطيعُ أنْ يستمتعَ بها مع أهلِه وأولادِه وأصدقائهِ، ومَن حولَه من الذين حرمتْهم الوظيفةُ من الاستمتاعِ بقضاءِ الوقتِ معه، لذلك فإنه يستغلُّ هذا الفراغَ للتواصلِ معهم، وتعويضِ ما فاتَه، ولكنْ في الوقتِ نفسِه يدركُ أنّ هناك طاقاتٌ باقيةٌ لدَيه، يمكنُه استغلالُها، والاستفادةُ منها، وتوظيفُها في خدمةِ المجتمعِ، ولتوفيرِ دخلٍ إضافيٍّ وعملٍ يشغلُه ويُبعِدُه عن الوحدةِ، ويقضي على الفراغِ الذي لدَيهِ، فيبدأ من اللحظةِ التي يُحالُ فيها إلى التقاعدِ؛ بالاتصالِ بالجهاتِ الخيريةِ التي تحتاجُ إلى عملِه، ويَعرضُ نفسَه عليها.
ونصحَ عائلاتِ المتقاعدينَ لإعادةِ النسيجِ الاجتماعيّ للأُسرةِ الواحدةِ؛ بضرورةِ دعمِ تَقبُلِ الأبِ لمرحلةِ التقاعدِ التي يَمرُّ بها، وإدراكِه لكيفيةِ التصرُفِ بعقلانيةٍ مع احتياجاتِ أُسرتِه، بالمقابلِ تَقبُّلُ الزوجةِ والأبناءِ للمرحلةِ التي يمُرونَ بها؛ نتيجةَ التقاعدِ وفراغِ الأبِ، وتغيّيرِ هدفِ الحياةِ نحوَ الإيجابيةِ والعملِ والإنجازِ، وقيامِ الأبناءِ بمساعدةِ والدِهم المتقاعدِ، بالاهتمامِ به، والوقوفِ بجانبِه، وتوفيرِ متطلباتِه الحياتيةِ، ومساعدتِه بالتكيُّفِ مع الظروفِ التي يعيشُها بمرحلةِ التقاعدِ، وإشغالِه بأعمالٍ تساعدُه على ملءِ وقتِ فراغِه.