
السعادة _ آلاء النمر
من عجائبِ قبورِ الأحياءِ؛ أنْ يُحكمَ على ساكنيها مشاهدةٌ فيلمَ موتِهم يُعرضُ أمام أعيُنِهم ببطءٍ! وإنِ امتدتْ المُشاهدةُ على مدارِ عقودٍ من الزمنِ، أو ما يزيدُ ,وعلى غيرِ ما اعتقدَ به السجّانُ؛ بحَتميةِ الموتِ لأصحابِ القبورِ المظلمةِ، لطولِ غيابِ خيوطِ الشمسِ الذهبيةِ عن عيونِهم , يَخرجُ عليهم أحدُ الأحياءِ حاملاً ميثاقاً غليظاً؛ ينصُّ على دخولِه القفصَ الذهبيّ برفقةِ فتاةٍ حُرّةٍ؛ خَطبتْ وُدَّهُ قبلَ فكِّ أَسرِها , فقبِل وإياها تَحدِّي الظلمةِ، وكسْرَ قيودِ أحلامِهما؛ لبِدءِ حياةٍ أبَديةٍ حتميةِ السعادةِ بُعيدَ الإفراجِ عنه من سجونِ الاحتلالِ.
أَطلقتْ “غفران الزامل” القاطنةُ بمدينةِ نابلس؛ العنانَ لحريةِ تحقيقِ حلمِها قبلَ دخولِها عَقدَها الثالثِ بعامَينِ، بِنِيَّةِ عزمِها على الارتباطِ ببطلٍ طالَما تابعتْ قصصَ بطولتِه،ـ وتتبّعتْ أخبارَه، مُنذ نعومة أظفارِها , لتُصرِّحَ للمُقرّبينَ من قلبِها؛ بأنها توَدُّ الارتباطَ بالأسيرِ “حسن سلامة” والذي يَفرُقها بعشرةِ أعوامٍ، حيثُ يقطنُ بقطاعِ غزةَ قبلَ اعتقالِه .
“غفران الزامل” تلك التي تعودُ أصولُها لمدينةِ “قيساريا” بفلسطينَ المحتلةِ؛ كانت قد حقّقتْ انتصاراً على أحدِ أكبرِ أحلامِها، حينَ دخلتْ التاريخَ من أوسعِ أبوابِه؛ لترسّخَ بين سطورِ كُتبِه حكايتَها الأغربَ من نوعِها, فلم تَرضخْ لقضبانٍ حديديةٍ صدِئةٍ، تآكلتْ بفعلِ عواملِ الزمنِ، ولا لزنازينِ العزلِ الانفرادي؛ التي تمثّلتْ لها مُجرَدَ حواجزَ وهميةٍ لا مكانَ لها بين ثنايا حُلمِها, وكان سِجنُها المكانَ الذي أطلقتْ من خلالهِ سِرَّ إعجابِها بشريكِ حياتِها.
تقولُ الزامل :” في تاريخ( 13/3/2010 )كانت ذِكرى أولِ رسالةٍ وصلتني من خطيبي الأسيرِ “حسن سلامة” وأنا في داخلِ المعتقلِ، مع بدايةِ تواصُلِنا للحديثِ عن أمرِ الخطوبةِ والارتباطِ , كنتُ حينها قد أرسلتُ له رسالةً؛ شرحتُ له ما دفعَني للارتباطِ به، وفي الوقتِ نفسِه كانت هناك رسالةٌ من الأختِ “أحلام التميمي” تشرحُ له تفاصيلَ هذا الأمرِ, حيثُ كانت الوسيطَ بينَنا , وفي نفسِ التاريخ( 13/3 )هو يومُ ميلادي، لذلك لهذا اليومِ
مكانةٌ كبيرةٌ جداً في قلبي، خاصةً وأنا أرَى أنّ حُلمي يتحققُ شيئاً فشيئا “.
وبما يخصُّ طرُقَ التواصلِ بينهما، بعدَ أنْ أُفرجَ عنها من سجونِ الاحتلالِ؛ تتابعُ الزامل :”بعد خروجِ “حسن” من العزلِ الانفرادي، بعدَ إضرابِ الكرامةِ عام( 2012 )أصبح التواصلُ أفضلَ بكثيرٍ , وكانت الفرصةُ لسماعِ صوتِه_ الذي كان يشكّلُ حُلماً بالنسبةِ لي_ أنْ أهاتفَه وأسمعَ صوتَه وأحدّثَه، وفي نفسِ الوقتِ ومع طبيعةِ ظروفِ التواصلِ الصعبةِ؛ نحرصُ على المراسلةِ عبرَ رسائلِ البريدِ والصليبِ؛ خاصةً أنّ في الرسائلِ الفرصةَ متاحةٌ أكثرُ للنقاشِ والحديثِ عبرَ تفاصيلِ الحياةِـ، وطرحِ مواضيعَ تهمُّنا، مع أنه بالمقابلِ قد تأخذُ وقتاً طويلاً لتصِلََه، لكنها تبقَى وسيلةً نحرِصُ عليها “.
“الزامل” وبعد انسجامِها بخطيبِها حسن تقول :” منذُ اليومِ الأولِ لخطوبتِنا؛ و”حسن” يتفنّنُ في إسعادي، وصنعِ المفاجئاتِ الجميلةِ لي، وفي مناسباتِنا الخاصةِ سواءٌ من ذكرى خطوبِتنا أو يومِ ميلادي, أمّا كيفيةُ الترتيبِ لها، فهو يقومُ بذلكَ عن طريقِ تنسيقِه مع مَن هم قريبونَ مِني؛ سواءٌ صديقاتٌ أو قريباتٌ، وتصلُني منه في كلِّ مناسبةٍ هداياهُ التي تُزيّنُ كلَّ زوايا غرفتي , وأمّا كلماتُه التي يخطُّها في رسائلِه، فهي الحياةُ بالنسبةِ لي، وهي أحلامُنا التي نحلمُ بتحقيقِها غداً عند اللقاءِ، و هي المشاعرُ التي تملأُ قلوبَنا من حبٍّ واشتياقٍ وحنينٍ وأشواقٍ وآمالٍ وأحلامٍ، في رسائلِنا تحدّثنا عن أنفسِنا؛ حتى بات كلُّ واحدٍ مِنا يعرفُ الآخَرَ، كأنه يعيشُ معه، يعرفُ كلَّ جزئيةٍ في حياتِه، ما يحبُّ وما يكرهُ، وكلُّ ما لا يعرِفُه الآخَرونَ عنه، أصبحتُ أنا وإياهُ كتاباً مفتوحاً، فأساسُ علاقتِنا هي الصراحةُ والوفاء”.
وعن حياتِهما المستقبليةِ تقولُ الزاملُ :”خُططُ الحياةِ التي بيننا كثيرةٌ، فنحن نرسمُ حياةً نحلمُ أنْ نعيشَها معاً حين اللقاءِ، كان حلمُ “حسن” أنْ يكونَ له أرضٌ يزرعُها بالطريقةِ التي يحبُّ، وبفضلِ اللهِ قُمنا بشراءِ هذه الأرضِ في الضفةِ، وتحققَ حلمُه، وقُمنا بزراعتِها بالطريقةِ التي كان يحلمُ , خطّطنا لكلِّ جزئيةٍ في حياتِنا، بدايةً منذُ اليومِ الأولِ لزفافِنا، ولِبَيتِنا الذي سيجمعُنا إنْ شاءَ اللهُ، حتى تَناقشْنا بأسماءِ أبنائنا , فنحن نرسمُ ونخطِّطُ ونعيشُ حياتَنا بشكلٍ طبيعيّ رغمَ البُعدِ؛ لأننا على يقينٍ أنّ اللقاءَ قابَ قوسَينِ أو أدنَى بإذنِ الله”.
وتُكملُ “غفران” حديثَها :” حالياً أكملُ دراسةَ الماجستير، ولن أنسى دورَ “حسن” الرئيسَ في هذا الأمرِ، فهو منذ بدايةِ خطوبتِنا وهو يشجِّعُني لإكمالِ دراستي، وكان يحبُّ أنْ يرى بِشخصي ما قد حُرمَ منه، فطموحُه أنْ أكملَ دراستي بالماجستير، ثُم الدكتوراة، أمّا “حسن” بعد خروجِه من العزلِ؛ التحقَ بجامعةِ الأقصى لدراسةِ التاريخ”.
هكذا لم يقفْ حلمُهما حدَّ القضبانِ؛ بل تعدّاهُ لمخطّطِ حياةٍ كاملٍ؛ يجمعُهما في المستقبلِ القريبِ قَسراً عن المحتلِّ الصهيوني وأعوانِه , وحتى يحينَ اللقاءُ؛ يستمرُّ الأملُ بين “حسن وغفران” ليتكلَّلَ قرارُ ارتباطِها بأسيرٍ محكومٍ بعشراتِ المؤبّداتِ، بأنه القصةُ الأغربُ في تاريخِ الأَسرى .