أصَمُّ وأبكمُ يَصنعُ آلاتٍ مُصغَّرةً من المُعدّاتِ الثقيلةِ !

في رحابِ مدينةِ “دير البلح” تقبعُ أحلامٌ صغيرةٌ لطفلٍ كبيرٍ؛ تأبَى أنْ تُغادرَ دونَ أنْ تتحقّقَ ، رغمَ أنّ هذه الأحلامَ لا تُحكَى، ولا يمكنُ أنْ نسمعَها من ذلك الفتى! الذي وُلدَ ليجدَ نفسَه أصمَّ وأبكَمَ؛ يتحدثُ لغةً لا يَفهمُها إلاّ المختصونَ والمهتمونَ، وبعضُ الأشخاصِ الذين يمتلكونَ أقرباءً يعيشونَ بذاتِ الإعاقةِ ، ورغمَ ذلك تَجدّدُ أحلامُه يومياً! ، ولا يتوقفُ خيالُه عن صُنعِ ما يراهُ! ، ولا يشبعُ نَهمُه لمعرفةِ كلِّ جديدٍ يخدمُ أحلامَه الكبيرةَ! .
مغامِرةً حاولتُ تَتبُعَ حركاتِ اليدينِ، وتمتماتِ الشَّفتَينِ، وإيماءاتِ الوجهِ، وإيحاءاتِ الحديثِ، ونظرةَ العينينِ؛ علّني أستطيعُ أنْ أفهمَ لغتَه التي أعيبُ على نفسي عدمَ تَعلُّمِها حتى اليومِ! لكنّ مغامرتي باءتْ بالفشلِ أمامَ الماكينةِ التي أمامي، التي تدركُ بذكائها أنى لا أفهمُ لُغتَها! فيطلبُ من والدتِه أنْ تقولَ لي كلماتِه ، فتضحكُ والدتُه وتقولُ لي: سأُترجِمُ لكِ ما يقولُ .
صالح أبو عَمرة “18 عامًا” في قوانينِ العالمِ؛ مازال طفلاً ، لكنْ في جبروتِ المؤسَّساتِ الأهليةِ التي لا تخدمُ إلاّ برامجَ المانحينَ المُشوِّهةَ للواقعِ؛ هو مُهمَّشٌ ، وفى نظرِ العوامِ مُعاقٌ ” الله يعينه ” ، لكنه في الحقيقةِ موهبةٌ تفتقرُ إلى الاحتضانِ والرعايةِ اللازمةِ لتنشئتِها ، كمُحترفٍ في صناعةِ الآلاتِ الثقيلةِ، و”محترفٍ” هنا لأنه يصنعُ أنموذجاً مصغَّراً عن أيِّ آلةٍ يراها!! في حين يصنعُ الصانعونَ أنموذجاً مكبَّراً لكُلِّ آلةٍ… ثُم يصغِّرونَه ، ومحترفٌ أيضاً لأنّ “صالح” لم يتعلّمْ الهندسةَ أو الميكانيكا! فقد غادرَ مقاعدَ الدارسةِ مضطَّراً؛ من سوءِ المعاملةِ والاحتضانِ، والتعاملِ معه على أنه إنسانٌ غيرُ كاملٍ .
يقولُ صالح لـ” السعادة ” عبرَ والدتِه :”أحبُّ أنْ أصنعَ أيَّ شيءٍ تقعُ عليه عيناي؛ خاصةً الآلاتِ الضخمةَ، والمُعدّاتِ الثقيلةَ ، وأَنظُرَ إليها، أتأملُ حركاتِها وطريقةَ عملِها ، أقرأ عنها وعن طريقةِ تصنيعِها وأدواتِها وآليةِ عملِها ، أرسمُها على الورقِ كرسمٍ هندسيٍّ كاملٍ ، ثُم ابدأ بالتنفيذِ، وأجرّبُ مرارًا وتكرارًا؛ حتى تنجحَ محاولاتي ولو بنسبةٍ بسيطةٍ” ، كثيرةٌ هي المحاولاتُ التي باءتْ بالفشلِ بادئَ الأمرِ، لكنّي مقتنعٌ بمقولةِ “سقوطُكَ ليس فشلاً ” ولكنّ الفشلَ أنْ تبقَى حيثُ سقطتَ، ولا تُجرّبَ أو تفكِّرَ .
بينما تقولُ والدتُه، والتي تقضي معه ساعاتٍ طويلةً في الحديثِ بشكلٍ يوميٍّ :” إنّ ما يميّزُ ولدَها؛ أنه يُصِرُّ على أنْ يكونَ شيئًا في المجتمعِ؛ يتحدّى أعاقتَه بكلِّ الطرُقِ! ، ينعزلُ لساعاتٍ طويلةٍ وسطَ مجموعةٍ من الألواحِ الحديديةِ، وآلةِ اللِحامِ؛ التي يستعيرُها من ورشةِ والدِه، ويخرجُ في نهايةِ يومهِ بمُجسَّمٍ مُصغَّرٍ لآلةٍ ثقيلةٍ!!.
غصةٌ تسكنُ قلبي
و تواصلُ:” يناديني في كلِّ مرةٍ لأرَى جديداً من التصميماتِ على دفترِ رسمٍ مخصَّصٍ لذلك ، ومن بعدِها بساعاتٍ يعيدُ نداءَه؛ لأرى ما هو على دفترِه أصبح مُجسَّماً على أرضِ الواقعِ! ، أفرحُ بداخلي كثيراً ؛ لكنّ غصةً تسكنُ قلبي، وقلبَ كلِّ أمِّ لدَيها طفلٌ ذو موهبةٍ وإبداعٍ؛ لأنها تدركُ دفْنَها مع الوقتِ !
في حين يقولُ والدُ صالح :” إنّ ما يمتلكُه “صالح” من ذكاءٍ؛ يجعلُني متأكداً أنه يوماً ما سيَصلُ إلى ما يريدُ من أحلامٍ، وإنْ كانت كبيرةً وضخمةً ، فمَن يُسخِّرْ مواتيرَ وقِطعاً معطوبةً، ويُصلِحْها لتشغيلِ آلاتِه؛ هو حتماً قادرٌ على تسخيرِ الصعابِ، وتَحدِّيها من أجلِ الوصولِ! .
ويستذكرُ الأبُ بعضَ المواقفِ والطرائفِ من تجاربِ ابنِه ويقول لـ” السعادة ” في أحدِ المرّاتِ فقدتُه لساعاتٍ طويلةٍ! وبعدَ بحثٍ طويلٍ وجدتُه يجلسُ داخلَ خلاطِ الإسمنتِ متأمِلاً وباحثاً عن حلٍّ له يُمكِّنُه من إصلاحِ ماكينتِه الصغيرةِ التي تعطّلتْ ، وبالفعلِ ما هي إلا ساعاتٌ حتى عادتْ آلاتُه تدورُ يَمنةً ويَسرةً .
ويتابعُ :” صالح لا يعرفُ اليأسَ! ولا يتوقفُ عن الإنتاجِ! ، في بدايةِ الأمرِ لم يفلحْ معه نظامُ خلاّط الإسمنتِ، فقد اعتَرضَهُ مشاكلُ كثيرةٌ ، حتى بدأَ يضعُ له السكاكينَ الداخليةَ؛ لتساعدَ في عمليةِ خلطِ الاسمنتِ ، وكانت كلُّ مشكلةٍ تكلِّفُ خرابَ موتور! فلقد حرقَ ثلاثةَ مواتيرَ من البيتِ؛ لينجحَ مشروعُ الخلاطِ في الموتورِ الرابع”.
إبداعٌ مُهمّشٌ
ويواصلُ:” الغريبُ في “صالح” أنه عندَ الانتهاءِ من صناعةِ آلةٍ مُعيّنةٍ لا يتوقفُ! فسرعانَ ما يبدأُ بصناعةِ آلةٍ جديدةٍ! وكأنّ نجاحَه يجعلُه أكثرَ اندفاعاً، وأكثرَ حُباً لهُوايتِه؛ التي يتمنّى في يومٍ من الأيامِ أنْ تصبحَ واقعاً ومصنعاً لإنتاجِ مُعدّاتٍ مختلفةٍ تخدمُ المجتمعَ، و تبعدُ عنه مُصطلح “مُعاق” .
اصطحبَنا “صالح” إلى ورشةِ والدِه؛ التي تحتوي في أحدِ أركانِها على مكانٍ خاصٍّ لمُعداتِه وآلاتِه، مكانٌ هو ملاذٌ وعالمٌ لطفلٍ يصنعُ أحلامَه ، كان يراقبُ أعيُنَنا، ومعنَى نظراتِها، ونحن نلقي النظرةَ الأولى على مُعدّاتِه، وسرعانَ ما رُسمتْ على ملامحِه علاماتُ الفخرِ بالصنيعِ؛ عندما لاحظَ مدَى انبهارِنا بهذا الجسدِ؛ الذي يشبِهُ الماكينةَ الألمانيةَ بصناعتِه الدقيقةِ (جرافة، وكبّاش، وخلاّط أسمنت، ومشافاة، ودبابة، وحاملة آلاتٍ ثقيلة) جميعُها تُحاكي آلاتٍ من وزنٍ ثقيلٍ!.
ويَحمدُ والدُ “صالح” ووالدتُه اللهَ على أنْ رزقَهما بابنٍ له من الذكاءِ نصيبٌ كبيرٌ ، مُنوِّهَينِ إلى أنّ اللهَ يعطي ويأخذُ في ذاتِ الوقتِ، فقدْ يكونُ المُعاقُ أكثرَ ذكاءً من الأسوياءِ، لكنّ الاهتمامَ بهم معدومٌ، وإبداعاتِهم مُهمّشةٌ ، وأحلامَهم وحياتَهم ومدارسَهم وحتى لغةَ حديثِهم مدفونةٌ في مجتمعٍ شغلتْ السياسيةُ فيه كلَّ مناحي الحياةِ ، وفرضتْ أوضاعاً وظروفاً غيرَ عاديةٍ، ؛ حتى على أصحابِ الإعاقاتِ!! .