النجاحُ في تحديدِ الأولَوياتِ

بقلم: كريم الشاذلي
في حياتِنا نحتاجُ كثيراً أنْ نتمتعَ بفِطنةٍ وذكاءٍ؛ كي نُفرّقَ بينَ المُهمِّ والأهمِّ، ونحتاجُ إلى أنْ نُميِّزَ بِدقّةٍ بينَ خيرِ الخَيرَينِ وشرِّ الشرِّينِ، وذلك لأننا كثيراً ما نُخدَعُ في التفريقِ بينَهما، وتَضطّرِبُ من أمامِ أعينِنا معالمُ الطريقِ، ونجدُ أنفُسَنا سعداءَ بِجَنيِّ الأقلِّ، بينما يمكِنُنا أنْ نجنيَ الأكثرَ… أحدُنا يَنفِقُ يومَه في القيامِ بعملٍ مفيدٍ، بينما هو قادرٌ على صُنعِ الأكثرِ فائدةً .
إنّ الشِّراكَ والفِخاخَ التي تقفُ أمامَ حلُمِكَ وطموحِكَ لكثيرةٌ، وأحدُها ذلك الشرَكُ الذي يدفعُكَ إلى الانكبابِ على عملٍ، وبذْلِ الجهدِ في تجويدِه وتحسينِه، بينما هذا العملُ في مِيزانِ هدفِكَ الرئيسِ لا يساوي الوقتَ الذي أنفقتَه فيهِ .
تعالَ مَثلاً وانظُرْ إلى شخصٍ يعطي للعلاقاتِ الاجتماعيةِ وقتاً كبيراً، فهو من مَجلسٍ إلى آخَرَ، ومن مُنتدَى إلى غيرِه، فتسألُه : هل لديكَ طموحاتٌ سياسيةٌ أو انتخابيةٌ تحتاجُ لالتفافِ الناسِ حولَك ؟ فيُجيبُكَ :لا .. لكني أجدُ مُتعةً في ذلكِ ! .
بلا شكٍّ التواصلُ الاجتماعيُّ مُهِمٌّ وضروريٌّ، ولكنْ ليس على حسابِ أهدافِكَ وطموحاتِكَ، وعلى هذا المِثالِ فَقِسْ !.تحضُرُني هنا قصةُ عاملِ المَنارةِ، ذلك الرجلُ طيبُ القلبِ، والذي تَسبَّبَ في كارثةٍ كبيرةٍ أوْدَتْ بحياةِ الكثيرينَ، وتسبّبَتْ في خسائرَ مادّيةٍ فادحةٍ، والسببُ أنه لم يرَ ويركّزْ على أولَوياتِه جيداً ..
والخَبرُ أنْ كان هناكَ رجلاً يعملُ كحارسٍ لمنارةٍ على امتدادِ ساحلٍ صخريٍّ، وكان يحصلُ كلَّ شهرٍ على ما يكفي من زيتِ الوَقودِ؛ لكي يحافظَ على ضَوءِ المنارةِ متوَهِجاً .
عُرفَ عن الرجلِ طيبةُ القلبِ، وحُبُّ الآخَرينَ، ولأنه لم يكنْ يَبعدُ عن المدينةِ كثيراً، فلَقد كان يقصِدُه كلُّ مَن نَفِدَ الوَقودُ لدَيهِ؛ لافتراضِ كوباً أو أكثرَ من الزيتِ .
فهذه امرأةٌ من القريةِ المجاوِرةِ استجْدَتْهُ قليلاً من الزيتِ؛ لأجلِ أسرتِها، وذاكَ أبٌ يرجوهُ قليلا ً من الزيتِ لأجلِ مِصباحِه، وهذا رجلٌ يحتاجُ إلى شيءٍ من الزيتِ كي يُزيِّتَ عَجَلتَه !.
ولأنّ كلَّ الطلباتِ بدَتْ له معقولةً وإنسانيةً؛ لم يكنْ الحارسُ يرُدُّ أحداً خاويَ الوِفاضِ، لكنْ عندما أوشكَ الشهرُ على الانتهاءِ؛ لاحظَ أنّ مخزونَه من الزيتِ قليلٌ جدّاً، ثُم ما لبِثَ أنْ نَفِدَ، فانطفأَ فُجأةً ضوءُ المنارةِ، و في تلكَ الليلةِ، غرِقتْ سفنٌ عديدةٌ ،وهلَكَ كثيرٌ من الناسِ، وعندَ التحقيقِ فيما حدَثَ ؛ بَدا الحارسُ شديدَ الندمِ على ما حدثَ، وحاولَ مِراراً أنْ يستعطفَ المسؤولينَ على خطئهِ، مؤكِّداً على حُسنِ نِيَّتِه، ونُبلِ دَوافعِه، بَيْدَ أنّ العبارةَ التي كانت تَتكرَّرُ على أذُنِه دائماً : أعطيناكَ الزيتَ لهدفِ المحافظة على ضوءِ المَنارةِ ساطِعا ً .
يُعلِّمُنا هذا الموقفُ أنّ الشيءَ الجيّدَ ليس كذلك، إذا ما جعلْنا نُقَصِّرُ في الأجوَدِ، وأنه كثيرٌ ما يكونُ الطريقُ إلى الجحيمِ محفوفاً بالنوايا الطيبةِ؛ كما يقولُ المَثَلُ الإنجليزي ! .
يُعيدُني هذا إلى العبقريِ المُسلمِ، الفقيهِ الإمامِ “مالك” ورَدِّهِ على أحدِ تلاميذِه حينما وقعَ في نفسِ الخطأ !فمِمّا يُحكَى أنّ الإمامَ “ابن وهب) وهو أحدُ الأَئِمةِ الكبارِ، كان ذاتَ يومٍ في مجلسِ عِلمٍ للإمامِ “مالك” رضيَ اللهُ عنه، فوضعَ ألواحَه التي يَكتبُ فيها، وقامَ ليُصلّي، وعندما عادَ سألَه الإمامُ عن صلاتِه، فأجابَه بأنها صلاةُ النافلةِ قامَ لقضائِها .هنا قالَ له الإمامُ كلمةً في عُمقِ إدارةِ الأولَوياتِ، قال: واللهِ ما الذي قُمتَ إليهِ بأفضلَ ممّا كنتَ عليهِ !.
أيْ أنّ العِلمَ والقراءةَ، أهمُّ من صلاةِ نافلةٍ، وذلك لأنّ ضياعَ ساعةِ العِلمِ؛ قد لا تُعوَّضُ بينما صلاةُ النافلةِ قادرٌ على تأدِيتِها في أيِّ وقتٍ .
من هنا أهيبُ بكَ يا صديقي؛ أنْ تجعلَ هدفكَ حاضراً دائماً بِذِهنِكَ، واضحاً أمامَ عينَيكَ، مُلِحَّاً على كيانِكَ ووِجدانِك، فلا يَغِبْ عنكَ لحظةً، كي لا تَحيدَ بعيداً ..
أريدُكَ أنْ تَعرِضَ كلَّ عملٍ تؤَدِّيهِ، ومُهِمَّةٍ تَفعلُها على الهدفِ الكبيرِ الذي تؤمنُ به، فإذا ما كان متماشياً معه، أنفَذْتَه، وإنْ كان غيرَ ذلكَ أوقَفْتَه .