عليكِ السلام

بقلم: فيحاء شلش
حينَ بدأتُ العملَ في مهنةِ الصحافةِ قبلَ أعوامٍ؛ كنتُ أحفظُ تلكَ الشعاراتِ الرّنانةَ حولَ القدسِ وأهلِها، كما كلِّ فلسطينيّ، سواءٌ في الضفةِ أو قطاعِ غزةَ، كنتُ أشعرُ “بالشفقةِ” على مَن يعيشُ هناكَ، ومن كُتبَ له أنْ يكونَ واحداً من أهالي المدينةِ التي تنزفُ دماً.
ومع الخوضِ في معاناةِ القدسِ وجراحِها، وكلِّ ما أفرزتْهُ العقليةُ التهويديةُ الصهيونيةُ تُجاهَ الفلسطينيينَ هناكَ، أصبح مُعدّلُ “الشفقةِ” يرتفعُ أكثرَ، وكأنّ الواحدَ مِنّا يَحمدُ اللهَ ألفَ مرّةٍ؛ أنه ليس واحداً من أهاليهاأ ولا يعيشُ بين جنباتِها.
في القدسِ ارتسمتْ ملامحُ كثيرةٌ للحزنِ، لا يستطيعُ وصفَها إلاّ من عايشَها وكبرَ بينَ أزِقّتِها، ولامسَ حجارتَها، وسارَ في شوارعِها، وسجدَ في أقصاها، هناك حيثُ الوجعُ بكلِّ معانيهِ والتي لا يُمكِنُ أنْ تَخطُرَ على بالِ أحدٍ، إلاّ بعدَ تجاربَ قاسيةٍ.
وحينَ نَذكرُ المدينةَ؛ تقفزُ فوراً إلى الذهنِ صورةُ امرأةٍ تجلسُ أمامَ بيتِها المهدومِ، تُلملِمُ جراحَها وأشلاءَ منزلِها، وسجّلاً كاملاً من الذكرياتِ الجميلةِ التي دُفنتْ في طرفةِ عينٍ، تراها تَحبسُ عبراتِ الأَسى في جوفِها، وتحاولُ تَجنُّبَ النظرِ إلى أطفالِها؛ حتى لا تمتلئَ وجنتاها بالدموعِ، ” هنا كُنا نجلسُ، وفي تلك الزاويةِ كنتُ أُعِدُّ الطعامَ، وهناك تماماً مَشى طفلي أُولَى خطواتِه، وفي الغرفةِ الأخرى بدأتْ تنامُ طفلتي وحدَها، هناك وضعْنا صورةً عائليةً سعيدةً؛ الكلُّ فيها مُبتسمٌ”.. ثُم تجلسُ على حافةِ حجرٍ _خلَّفَه الرُكامُ_ وتُتَمتِمُ بالدعاءِ إلى خالقِها.
في سوقِ خانِ الزيتِ؛ وَجهٌ آخَرُ يحملُ جرحاً آخَرَ، صاحبُ أحدِ المحالِ التجاريةِ، يفتحُ قفلَه ويُسمِّي باللهِ، وينفضُ الغبارَ عن بضائعِه، ساعاتٌ قليلةٌ حتى يَسمعَ صوتَ جنودٍ _مُدجَّجينَ_ تُجبِرُه صيحاتُهم على إغلاقِ المَحلِّ بسرعةٍ فائقةٍ؛ وإلا نَهشوا لَحمَه بفَرضِ الضرائبِ الخياليةِ، هو لم يُسدِّدْ بعدُ ما فُرضَ عليه من ضرائبَ، خلالِ جولتِهم التعسُفيةِ الماضيةِ.. يعودُ أدراجَه إلى منزلِه؛ والهَمُّ يُثقِلُ كاهِلَه، وأفكارٌ كثيرةٌ تَجولُ في خاطرِه.
داخل صفِّ مَدرسةٍ؛ يجلسُ طالبٌ في التاسعةِ من عمرِه، يحاولُ كتابةَ ما قالتْه المعلّمةُ قبلَ قليلٍ، ولكنّ الطلبةَ الأربعةَ الذين يجلسونَ بجانبِه على الكرسيّ ذاتِه يُعيقونَ تَحرُّكَه، تسألُ المعلمةُ سؤالاً آخَرَ؛ فيَرفعُ يدَه مُتحمّساً للإجابةِ وكتابتِها على اللوحِ، ولكنه لم يستطِعْ الوصولَ إليهِ؛ بسببِ العددِ الهائلِ للطلبةِ في غرفةٍ ضيّقةٍ، وبعدَ دقائقَ يَصدُرُ صوتٌ غريبٌ من السقفِ، فينظرُ الجميعُ! فإذا به انهيارٌ آخَرُ يُهدّدُ المدرسةَ التي هي منزلٌ عتيقٌ في القدسِ القديمةِ.
وعلى بواباتِ الأقصى ملَفٌّ آخَرُ تعدّدتْ صفحاتُه، تجلسُ إحدى السيداتِ على مسافةٍ بعيدةٍ، وتَرقُبُ الطيورَ، وهي تُحلِّقُ فوقَ أسوارِه وقبابِه ومآذنِه، يَجذِبُها صوتُ الأذانِ العذبُ، قد يسألُها الكثيرونَ؛ لِمَ لا تَدخُلينَ للصلاةِ؟ فتُجيبُ عيناها الدامعتانِ بتَحسُّرٍ، وكأنها تَحسِدُ الطيورَ التي تَصِلُ في أيِّ وقتٍ تشاءُ؛ إلى أيِّ مكانٍ تشاءُ.. أمّا هي فيقفُ قرارُ إبعادِها عن المسجدِ حاجزاً بينَها وبينَ حجارةٍ عتيقةٍ؛ تَرَبَّتْ بينَ عَبقِها.
وعلى جانبٍ آخَرَ صورةٌ لشابٍّ يَنقضُّ عليه الجنودُ المسلّحونَ، وهو خارجٌ من المسجدِ، يفتّشونَه ويضربونَه أينما وصلتْ أيدِيهِم، ثُم يَحملونَه ككيسٍ من الأسمنتِ، ويَقتادونَه إلى أحدِ مراكزِ الشرطةِ، ويُوسِعونَه ضرباً؛ هو لا يريدُ إلاّ مَعرفةَ لماذا اعتقلوهُ؟! ولكنّ الإجابةَ واضحةٌ جلِيّةٌ “لا تُصَلِّ في الأقصى”!
وقد تتناثرُ الصوَرُ في كلِّ يومٍ، وتَتوزَّعُ على كلِّ المَقدسيّينَ دُونَ استثناءٍ، وتَغمرُ الناظرَ إليها بمَشاعرِ الحزنِ التي تجعلُه يشعرُ “بالشفقةِ”.. ولكنْ في كلِّ صورةٍ خاتمةٌ لا يتوقَّعُها أحدٌ! وعلى رأسهِم من يحاولُ تَهجيرَهم.
فالسيدةُ تلكَ لا تفكّرُ في بناءِ منزلٍ آخَرَ في مكانٍ آخَرَ؛ بل من أين تأتي بالخيمةِ كي تَنصبَها مكانَ منزلِها، والتاجرُ لا يفكّرُ بالرحيلِ، أو التخلّي عن مَحلِّه؛ بل بآليةِ جمعِ الأموالِ، كي يبقَى فيه، والسيدةُ الأُخرى تَخرجُ من منزلِها في الصباحِ الباكرِ كلَّ يومٍ؛ لتجلسَ في أقربِ نقطةٍ إلى الأقصى، والشابُّ يَشعرُ بسعادةٍ غامرةٍ؛ وهو يتعرّضُ للضربِ؛ لأنه استطاعَ استفزازَهم! ومتى سيُفرَجُ عنه؛ ليُعيدَ الكَرّةَ، ويعودَ إلى الأقصى.
كلُّ تلكَ النفوسِ القويةِ، والعزائمِ الحديديةِ التي عايشتُها خلالَ سنواتِ عملي، وإعدادِ التقاريرِ والقصصِ حولَ القدسِ وأهلِها؛ مسحَتْ شعوري “بالشفقةِ” ووضعتْ مكانَه شعوراً “بالغبطةِ” لكلِّ مَقدِسيّ.. أنْ يعيشَ بينَ أنيابِ الأفعى، ويرفضَ الرحيلَ… تلك هي الهُويةُ المَقدسيةُ التي يَجهلُها الكثيرونَ.. فعليكِ السلامُ يا أرضَ الثباتِ !